صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( فإن فضل عما يلزمه استحب له أن يتصدق ; لقوله صلى الله عليه وسلم { ليتصدق الرجل من ديناره ، وليتصدق من درهمه ، وليتصدق من صاع بره ، وليتصدق من صاع تمره } روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أطعم جائعا أطعمه الله من ثمار الجنة ، ومن سقى مؤمنا على ظمأ سقاه الله عز وجل يوم القيامة من الرحيق المختوم ، ومن كسا مؤمنا عاريا كساه الله تعالى من خضر الجنة } ويستحب الإكثار منه في شهر رمضان ; لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في رمضان } فإن كان ممن يصبر على الإضافة استحب له التصدق بجميع ماله ; لما روى عمر رضي الله عنه قال : { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك ما عندي ، فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما ، فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ فقلت : أبقيت لهم مثله ، وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ فقال : أبقيت لهم الله ورسوله ، فقلت : لا أسابقك إلى شيء أبدا } وإن كان ممن لا يصبر على الإضافة كره له ذلك ، لما روى جابر رضي الله عنه قال : { بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل البيضة من الذهب أصابها من بعض المعادن ، فأتاه من ركنه الأيسر ، فقال : يا رسول الله ، خذها صدقة ، فوالله ما أصبحت أملك غيرها فأعرض عنه ، ثم جاءه من ركنه الأيمن ، فقال مثل ذلك فأعرض عنه ، ثم أتاه من بين يديه ، فقال مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هاتها مغضبا فحذفه بها حذفة لو أصابه لأوجعه [ ص: 232 ] أو عقره ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ، ثم يجلس بعد ذلك يتكفف الناس ، وإنما الصدقة عن ظهر غنى } ) .


( الشرح ) أما الحديث الأول { ليتصدق الرجل من ديناره } إلى آخره ، فصحيح رواه مسلم في صحيحه بلفظه هذا من رواية جرير بن عبد الله وهو بعض حديث ( وأما ) حديث أبي سعيد فرواه أبو داود والترمذي ، وإسناده جيد ، وحديث ابن عباس رواه البخاري ومسلم بلفظه ، وحديث عمر رضي الله عنه صحيح رواه أبو داود في كتاب الزكاة ، والترمذي في المناقب ، وقال : حديث صحيح ، وحديث جابر رواه أبو داود وإسناده كله صحيح ، إلا أنه من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي عن عاصم بن عمر بن قتادة . ومحمد بن إسحاق مدلس والمدلس إذا قال : ( عن ) ، لا يحتج به .

( وأما ألفاظ الفصل ) فالظمأ : العطش . والرحيق : الخمر الصافية ، وخضر الجنة بإسكان الضاد أي ثيابها الخضر ، قوله : ( وكان أجود ما يكون في رمضان ) روي برفع الدال ونصبها والرفع أجود ، وحديث عمر رضي الله عنه هكذا هو في كتب الحديث كما هو في المهذب . وأما قول صاحب الوسيط في آخره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { بينكما كما بين كلمتيكما } فزيادة لا تعرف في الحديث ، وقوله : ( بينا نحن ) أي بين أوقات قعودنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله : ( من ركنه ) بضم الراء ، أي جانبه ووقع في المهذب تغيير في ترتيبه ولفظه ، والذي في سنن أبي داود { جاء رجل بمثل بيضة من ذهب فقال يا رسول الله ، أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك ، فأعرض عنه ، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته } ثم ذكر نحو الباقي . وقوله في رواية الكتاب : ( هاتها ) هو بكسر التاء فلو ولا يجوز فتحها بلا خلاف ، وقوله : ( مغضبا ) بفتح الضاد - وهو منصوب على الحال - [ ص: 233 ] وقوله : ( فحذفه بها ) ، الحاذف هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذفه بالحاء المهملة أي رماه بها ، وإنما قيدته بالحاء المهملة ; لأني رأيت من صحفه ، والصواب المعروف في كتب الحديث وغيرها حذف بالحاء المهملة . وقوله : ( لأوجعه أو عقره ) أي جرحه ، وفي رواية أبي داود ( لأوجعته أو عقرته ) ، يعني القطعة المحذوف بها ، وقوله : ( يتكفف الناس ) أي يطلب الصدقة ويتعرض لأخذ ما يكفيه ، وفي رواية أبي داود ( يستكف ) وهما صحيحان

، قال أهل اللغة : يقال فيه : تكفف واستكفف . وقوله : ( عن ظهر غنى ) قال الخطابي : معناه عن غنى يعتمده ويستظهر به على النوائب . ذكر صاحب الحاوي له معنيين ( هذا ) ، ( والثاني ) أن معناه الاستغناء عن أداء الواجبات ، والأصح ما قاله : إن المراد غنى النفس ، إنما تصلح الصدقة لمن قويت نفسه واستغنت بالله سبحانه وتعالى ، وثبت يقينه وصبر على الفقر . والله تعالى أعلم .

( أما حكم الفصل ) فقال المصنف والأصحاب والعلماء كافة : يستحب لمن فضل عن كفايته وما يلزمه شيء أن يتصدق ; لما ذكره المصنف ، ودلائله مشهورة في القرآن والسنة والإجماع ، قال الشافعي والأصحاب يستحب الإكثار من الصدقة في شهر رمضان ; للحديث المذكور . قال الشافعي والأصحاب : وهي في رمضان آكد منها في غيره للحديث ، ولأنه أفضل الشهور ، ولأن الناس يشتغلون فيه عن المكاسب بالصيام وإكثار الطاعات ، فتكون الحاجة فيه أشد . قال الماوردي : يستحب أن يوسع فيه على عياله ، ويحسن إلى ذوي أرحامه وجيرانه ، لا سيما في العشر الأواخر . قال أصحابنا : يستحب الإكثار من الصدقة عند الأمور المهمة وعند الكسوف والسفر وبمكة والمدينة ، وفي الغزو والحج والأوقات الفاضلة ، كعشر ذي الحجة وأيام العيد ونحو ذلك ، ففي كل هذه المواضع هي آكد من غيرها : قال الرافعي وغيره : وهل يستحب له التصدق بجميع الفاضل عن دينه ونفقته ونفقة عياله وسائر مؤنهم ؟ فيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) نعم ( والثاني ) لا ( وأصحها ) إن صبر على الإضافة فنعم ، وإلا فلا ، وبهذا قطع المصنف والجمهور . والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية