صفحة جزء
[ ص: 234 ] قال المصنف رحمه الله تعالى : ( والمستحب أن يخص بالصدقة الأقارب ; لقوله صلى الله عليه وسلم لزينب امرأة عبد الله بن مسعود { زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم } وفعلها في السر أفضل ; لقوله عز وجل { إن تبدوا الصدقات فنعما هي ، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } ولما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { صلة الرحم تزيد في العمر ، وصدقة السر تطفئ غضب الرب ، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء } وتحل صدقة التطوع للأغنياء ولبني هاشم وبني المطلب ، لما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه { أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة فقيل له : أتشرب من الصدقة ؟ فقال : إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة } ) .


( الشرح ) حديث امرأة ابن مسعود رواه البخاري ومسلم ولفظهما { أن زينب امرأة ابن مسعود وامرأة أخرى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالتا لبلال : سل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجنا ويتامى في حجورنا ، هل يجزئ ذلك عنهما عن الصدقة ؟ يعني النفقة عليهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم لها أجران : أجر القرابة وأجر الصدقة } وفي صحيحي البخاري ومسلم عن ميمونة أم المومنين رضي الله عنها { أنها أعتقت وليدة لها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك } . وأما حديث ابن مسعود { صلة الرحم تزيد في العمر } إلى آخره فرواه . . . ويغني عنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 235 ] قال { سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه } رواه البخاري ومسلم وعن أنس رضي الله عنه أي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء } رواه الترمذي وقال : حسن غريب .

( قلت ) في إسناده عبد الله بن عيسى الخزاز ، قال أبو زرعة : هو منكر الحديث ومعنى الزيادة في العمر البركة فيه ، بالتوفيق للخير والحماية من الشر ، وقيل : هو بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة بأن يقال لهم : عمر فلان إن لم يصل رحمه خمسون سنة فإن وصله فستون ، فيزيد بالصلة بالنسبة إليهم .

وأما بالنسبة إلى علم الله تعالى فلا زيادة ; لأنه سبحانه وتعالى قد علم أنه سيصل رحمه ويعيش الستين . والله تعالى أعلم . وأما جعفر الصادق بن محمد فهو جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين . والله أعلم .

( أما أحكام الفصل ) ففيه مسائل : ( إحداها ) أجمعت الأمة على أن الصدقة على الأقارب أفضل من الأجانب . والأحاديث في المسألة كثيرة مشهورة . قال أصحابنا : ولا فرق في استحباب صدقة التطوع على القريب وتقديمه على الأجنبي بين أن يكون القريب ممن يلزمه نفقته أو غيره . قال البغوي : دفعها إلى قريب يلزمه نفقته أفضل من دفعها إلى الأجنبي - وأما ترتيب الأقارب في التقديم فقد سبق بيانه واضحا في آخر باب قسم الصدقات حيث ذكره المصنف ، قال أصحابنا : ويستحب تخصيص الأقارب على الأجانب بالزكاة حيث يجوز [ ص: 236 ] دفعها إليهم كما قلنا في صدقة التطوع ولا فرق بينهما ، وهكذا الكفارات والنذور والوصايا والأوقاف وسائر جهات البر يستحب تقديم الأقارب فيها حيث يكونون بصفة الاستحقاق . والله أعلم . قال أبو علي الطبري والسرخسي وغيرهما من أصحابنا : " يستحب أن يقصد بصدقته من أقاربه أشدهم له عداوة ليتألف قلبه ويرده إلى المحبة والألفة ، ولما فيه من مجانبة الرياء وحظوظ النفوس " .

( المسألة الثانية ) يستحب الإخفاء في صدقة التطوع لما ذكره المصنف ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فذكر منهم ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه } رواه البخاري ومسلم ، وأما الزكاة فيستحب إظهارها باتفاق أصحابنا وغيرهم من العلماء كما أن صلاة الفرض يستحب إظهارها في المسجد ، والنافلة يندب إخفاؤها وقد سبقت المسألة قريبا في آخر قسم الصدقات .

( الثالثة ) تحل صدقة التطوع للأغنياء بلا خلاف فيجوز دفعها إليهم ويثاب دافعها عليها ، ولكن المحتاج أفضل ، قال أصحابنا : ويستحب للغني التنزه عنها ، ويكره التعرض لأخذها ، قال صاحب البيان : ولا يحل للغني أخذ صدقة التطوع مظهرا للفاقة ، وهذا الذي قاله صحيح وعليه حمل الحديث الصحيح " أن رجلا من أهل الصفة مات فوجد له ديناران ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { كيتان من نار } . والله أعلم . وأما إذا سأل الغني صدقة التطوع فقد قطع صاحب الحاوي والسرخسي وغيرهما بتحريمها عليه ، قال صاحب الحاوي : " إذا كان غنيا عن المسألة بمال أو بضيعة فسؤاله حرام وما يأخذه محرم عليه " . هذا لفظه . قال الغزالي وغيره من أصحابنا في كتاب النفقات في تحريم السؤال على القادر على الكسب وجهان ، قالوا : وظاهر الأخبار تدل على تحريمه ، وهو كما قالوا ، ففي الأحاديث الصحيحة تشديد أكيد في النهي عن السؤال ، وظواهر كثيرة تقتضي التحريم ( وأما ) السؤال للمحتاج العاجز عن الكسب فليس بحرام ولا مكروه ، وصرح به الماوردي وهو ظاهر . والله تعالى أعلم .

[ ص: 237 ] ( الرابعة ) هل تحل صدقة التطوع لبني هاشم وبني المطلب ؟ فيه طريقان ( أصحهما ) وبه قطع المصنف والأكثرون : تحل ( والثاني ) حكاه البغوي وآخرون من الخراسانيين فيه قولان ( أصحهما ) تحل ( والثاني ) تحرم . ( وأما ) صدقة التطوع للنبي صلى الله عليه وسلم ففيها قولان مشهوران حكاهما الشيخ أبو حامد إمام العراقيين وغيره ، منهم القفال والمروزي إمام الخراسانيين وغيرهم ( أصحهما ) التحريم ، فحصل في صدقة التطوع في حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق بني هاشم وبني المطلب ثلاثة أقوال ( أصحها ) تحل لهم دونه صلى الله عليه وسلم ( والثاني ) لهم وله ( والثالث ) تحرم عليه وعليهم . والله تعالى أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا وغيرهم : يستحب أن يتصدق بما تيسر ، ولا يستقله ، ولا يمتنع من الصدقة به لقلته وحقارته ، فإن قيل : الخير كثير عند الله تعالى ، وما قبله الله تعالى وبارك فيه فليس هو بقليل ، قال الله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { اتقوا النار ولو بشق تمرة } وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يا نساء المسلمات ، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة } قال أهل اللغة : الفرسن من البعير والشاة كالحافر من غيرهما ، وفي المسألة أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة .

( فرع ) يستحب أن يخص بصدقته الصلحاء وأهل الخير وأهل المروءات والحاجات ، فلو تصدق على فاسق أو على كافر من يهودي أو نصراني أو مجوسي جاز ، وكان فيه أجر في الجملة قال صاحب البيان : قال الصيمري : وكذلك الحربي ، ودليل المسألة قول الله تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } ومعلوم أن الأسير حربي . وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة ، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق ، فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق ، فقال : [ ص: 238 ] اللهم لك الحمد ، لأتصدقن بصدقة فخرج فوضعها في يد زانية فأصبح الناس يتحدثون : تصدق على زانية ، فقال : اللهم لك الحمد ، لأتصدقن الليلة بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غني ، فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني ، فقال اللهم لك الحمد على سارق ، وعلى زانية ، وعلى غني فأتي فقيل له : أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعفف عن سرقته ، وأما الزانية فلعلها تستعفف عن زناها ، وأما الغني فلعله يعتبر ، وينفق مما آتاه الله تعالى } رواه البخاري ومسلم . وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا : يا رسول الله ، إن لنا في البهائم أجرا ؟ فقال في كل كبد رطبة أجر } رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لهما { بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فاستقت له به ، فسقته فغفر لها به } الموق : الخف .

( فرع ) يكره تعمد الصدقة بالرديء ، قال الله تعالى { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } . ويستحب تعمد أجود ماله وأحبه إليه ، قال الله تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } . وفي المسألة أحاديث صحيحة .

( فرع ) قال أصحابنا : تكره الصدقة بما فيه شبهة ، ويستحب أن يختار أحل ماله وأبعده من الحرام والشبهة ; لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل } رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ روايته والفلو بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو ، ويقال : بكسر الفاء وإسكان اللام وهو ولد الفرس في صغره . [ ص: 239 ] وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أيها الناس إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، قال عز وجل : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } وقال : { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك } رواه مسلم .

( فرع ) من دفع إلى وكيله أو ولده أو غلامه أو غيرهم شيئا يعطيه لسائل أو غيره صدقة تطوع ، لم يزل ملكه عنه حتى يقبضه المبعوث إليه ، فإن لم يتفق دفعه إلى ذلك المعين استحب له ألا يعود فيه ، بل يتصدق به على غيره ، فإن استرده وتصرف فيه جاز ; لأنه باق على ملكه .

( فرع ) قال البندنيجي والبغوي وسائر أصحابنا في مواضع متفرقة : يكره لمن تصدق بشيء صدقة تطوع أو دفعه إلى غيره زكاة أو كفارة أو عن نذر وغيرها من وجوه الطاعات أن يتملكه من ذلك المدفوع إليه بعينه بمعاوضة أو هبة ، ولا يكره ملكه منه بالإرث ، ولا يكره أيضا أن يتملكه من غيره إذا انتقل إليه . واستدلوا في المسألة بحديث عمر رضي الله عنه قال : { حملت على فرسي في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده ، فأردت أن أشتريه منه ، وظننت أنه بائعه برخص فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم ، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه } رواه البخاري ومسلم . وعن بريدة رضي الله عنه قال : { بينما أنا جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت : إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت ، فقال : وجب أجرك وردها عليك الميراث } رواه مسلم ، واتفق أصحابنا على أنه لو ارتكب المكروه واشتراها من المدفوع إليه صح الشراء وملكها ، لأنها كراهة تنزيه ، ولا يتعلق النهي بعين المبيع .

[ ص: 240 ] فرع ) يستحب دفع الصدقة بطيب نفس ، وبشاشة وجه . ويحرم المن بها فلو من ، بطل ثوابه ، قال الله تعالى : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، قال : فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، قال أبو ذر : خابوا وخسروا ، من هم يا رسول الله ؟ قال : المسبل ، والمنان ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب } رواه مسلم ، والمراد المسبل إزاره أو ثوبه تحت الكعبين للخيلاء .

( فرع ) قال صاحب العدة : لو نذر صوما أو صلاة في وقت بعينه ، لم يجز فعله قبله ، ولو نذر التصدق في وقت بعينه جاز التصدق قبله ، كما لو عجل الزكاة .

( فرع ) في مسائل مهمة ذكرها الغزالي في الإحياء منها قال : اختلف السلف في أن المحتاج هل الأفضل له أن يأخذ من الزكاة ؟ أو صدقة التطوع ، وكان الجنيد وإبراهيم الخواص وجماعة يقولون : الأخذ من صدقة أفضل ; لئلا يضيق على أصناف الزكاة ، ولئلا يخل بشرط من شروط الآخذ ، بخلاف الصدقة ، فإن أمرها أهون من الزكاة ، وقال آخرون الأخذ من الزكاة أفضل ; لأنه إعانة على واجب ، ولو ترك أهل الزكاة كلهم أخذها أثموا ، ولأن الزكاة لا منة فيها . قال الغزالي : والصواب أنه يختلف بالأشخاص ، فإن عرض له شبهة في استحقاقه لم يأخذ الزكاة ، وإن قطع باستحقاقه نظر - إن كان المتصدق إن لم يتصدق على هذا لا يتصدق - فليأخذ الصدقة ، فإن إخراج الزكاة لا بد منه ، وإن كان لا بد من إخراج تلك الصدقة ولم يضيق بالزكاة تخير ، وأخذ الزكاة أشد في كسر النفس ، وذكر أيضا اختلاف الناس في إخفاء [ أخذ ] الصدقة وإظهارها أيهما أفضل وفي [ ص: 241 ] كل واحد منهما فضيلة ومفسدة ، ثم قال : وعلى الجملة الأخذ في الملأ ، وترك الأخذ في الخلاء أحسن . والله تعالى أعلم .

( فرع ) جاءت أحاديث كثيرة في الحث على سقي الماء ، منها حديث أبي سعيد المتقدم في الكتاب ( ومنها ) حديث أبي هريرة السابق قريبا في فرع تخصيص الصدقة بالصلحاء .

( ومنها ) عن الحسن البصري عن سعد بن عبادة رضي الله عنه { أن أمه ماتت فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمي ماتت أفأتصدق عنها ؟ قال : نعم ، قال : فأي الصدقة أفضل ؟ قال : سقي الماء } رواه أحمد بن حنبل في مسنده هكذا وهو مرسل ، فإن الحسن لم يدرك سعدا ورواه أبو داود عن رجل لم يسم عن سعد بمعناه قال : { فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء } ورواه النسائي عن سعيد بن المسيب عن سعد ، ولم يدركه أيضا فهو مرسل لكنه قد أسند قريبا من معناه كما سبق ; ولأنه من أحاديث الفضائل ويعمل فيها بالضعيف ، فبهذا أولى ، وعن سراقة بن مالك قال : { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل تغشى حياضي هل لي من أجر إن سقيتها ؟ قال : نعم . في كل ذات كبد رطبة أجر } رواه أحمد وابن ماجه .

( فرع ) في { ويمنعون الماعون } قال ابن مسعود وابن عباس وجماعة : هو إعارة القدر والدلو والفأس وسائر متاع البيت ، وقال علي وابن عباس في رواية هو الزكاة .

( فرع ) تستحب المنيحة وهي أن تكون له ناقة أو بقرة أو شاة ذات لبن فيدفعها إلى من يشرب لبنها ، ثم يردها إليه لحديث ابن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز ، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعدها إلا أدخله الله تعالى الجنة بها } رواه البخاري وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { نعم المنيحة اللقحة الصفي منحة أو الشاة [ ص: 242 ] الصفي ، تغدو بإناء وتروح بإناء } رواه البخاري ، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من منح منيحة غدت بصدقة صبوحها وغبوقها } رواه مسلم وفي المسألة أحاديث أخر صحيحة .

( فرع ) في ذم البخل والشح والحث على الإنفاق في الطاعات ووجوه الخيرات قال الله تعالى { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } وقال تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } وقال عز وجل : { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم } رواه مسلم ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { ما من يوم يصبح العباد فيه ، إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا } رواه البخاري ، ومسلم وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى : { أنفق ينفق عليك } رواه البخاري ومسلم . وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا توكي فيوكى عليك } رواه البخاري ومسلم . وعن عائشة رضي الله عنها { أنهم ذبحوا شاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بقي منها ؟ قالت : ما بقي منها إلا كتفها قال : بقي كلها غير كتفها } رواه الترمذي وقال حديث صحيح ، ومعناه تصدقوا بها إلا كتفها ، فقال : بقيت لنا في الآخرة إلا كتفها . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : { ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله تعالى إلا رفعه الله } رواه مسلم .

[ ص: 243 ] فرع ) في فضل صدقة الصحيح الشحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل ؟ قال : أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخاف الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ولفلان كذا ألا وقد كان لفلان } رواه البخاري ومسلم .

( فرع ) في أجر الوكيل في الصدقة وبيان أنه أحد المتصدقين إذا أمضاه بشرطه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ ما أمر به فيعطيه كاملا موفرا طيبة به نفسه ، فيدفعه إلى الذي أمر به أحد المتصدقين } رواه البخاري ومسلم وضبطوا المتصدقين على التثنية والجمع .

( فرع ) يجوز للمرأة أن تتصدق من بيت زوجها للسائل وغيره بما أذن فيه صريحا ، وبما لم يأذن فيه ولم ينه عنه إذا علمت رضاه به وإن لم تعلم رضاه به فهو حرام . هكذا ذكر المسألة السرخسي وغيره من أصحابنا وغيرهم من العلماء ، وهذا الحكم متعين وعليه تحمل الأحاديث الواردة في ذلك ، وهكذا حكم المملوك المتصرف في مال سيده على هذا التفصيل ( منها ) حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا } رواه البخاري ومسلم . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه ، ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه ، وما أنفقت من كسبه عن غير أمره فإن نصف أجره له } رواه مسلم ، ورواه البخاري بمعناه ، وهو محمول على ما أنفقته [ ص: 244 ] وتعلم أنه لا يكرهه فلها أجر وله أجر كما سبق ، وعن عمير مولى آبي اللحم - بهمزة ممدودة وكسر الباء - قال : { أمرني مولاي أن أقدد لحما ، فجاءني مسكين فأطعمته منه ، فعلم بذلك مولاي فضربني ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فدعاه فقال : لم ضربته ؟ فقال : يعطي طعامي من غير أن آمره ، فقال : الأجر بينكما } رواه مسلم وفي رواية لمسلم { كنت مملوكا فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتصدق من مال مولاي ؟ قال : نعم ، والأجر بينكما نصفان } وهذا محمول على ما يرضى به سيده ، والرواية الأولى محمولة على أنه ظن أن سيده يرضى بذلك القدر فلم يرض لكونه كان محتاجا إليه أو لمعنى آخر فيثاب السيد على إخراج ماله ويثاب العبد على نيته . واعلم أن المراد بما جاء في هذه الأحاديث من كون الأجر بينهما نصفين أنه قسمان لكل واحد منهما أجر ولا يلزم أن يكونا سواء فقد يكون أجر صاحب العطاء أكثر . وقد يكون أجر المرأة والخازن والمملوك أكثر بحسب قدر الطعام وقدر التعب في إنفاذ الصدقة وإيصالها إلى المساكين . والله تعالى أعلم .

( فرع ) ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { اليد العليا خير من اليد السفلى } وثبت في الصحيحين أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { اليد العليا المنفقة ، واليد السفلى السائلة } وفي رواية في البخاري : { العليا المنفقة } وعقد البيهقي في المسألة بابا .

( فرع ) يكره للإنسان أن يسأل بوجه الله تعالى غير الجنة ، ويكره منع من سأل بالله وتشفع به ، لحديث جابر قال : قال رسول الله : { لا تسألن بوجه الله تعالى إلا الجنة } رواه أبو داود . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 245 ] { من استعاذ بالله فأعيذوه . ومن سأل بالله فأعطوه ، ومن دعاكم فأجيبوه ، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه } حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي بإسناد الصحيحين ، وفي رواية البيهقي { فأثنوا عليه } بدل { فادعوا له } .

( فرع ) إذا عرض عليه مال من حلال على وجه يجوز أخذه ولم يكن منه مسألة ولا تطلع إليه جاز أخذه بلا كراهة ولا يجب . وقال بعض أهل الظاهر : يجب ; لحديث سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن عمر رضي الله عنه قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول : أعطه أفقر مني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذه ، وما جاءك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك ، قال : فكان سالم لا يسأل أحدا شيئا ولا يرد شيئا أعطيه } رواه البخاري ومسلم . دليلنا حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ، ثم قال : يا حكيم ، إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع ، واليد العليا خير من اليد السفلى . قال حكيم : فقلت يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا . فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعوا حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا . ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله ، فقال : يا معشر المسلمين ، أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه . فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي } " رواه البخاري ومسلم . وقوله " يرزأ " براء ثم زاي وآخره مهموز - معناه لم يأخذ من أحد شيئا ، وأصل الرزء النقص ، أي لم ينقص أحدا شيئا بالأخذ منه ، وموضع الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على هذا . وكذا أبو بكر وعمر وسائر الصحابة الحاضرين رضي الله عنهم ، [ ص: 246 ] وحديث عمر محمول على الندب والإباحة ، كقوله تعالى { وإذا حللتم فاصطادوا } والله أعلم .

( فرع ) في بيان أنواع الصدقة الشرعية وما على كل سلامى منها والسلامى العضو والمفصل وجمعه سلاميات - بفتح الميم واللام مخففة في المفرد والجمع . اعلم أن حقيقة الصدقة إعطاء المال ونحوه بقصد ثواب الآخرة ، وقد يطلق على غير ذلك مما سنذكره إن شاء الله تعالى . من ذلك حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى } رواه مسلم وعنه أيضا قال : { قلت : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : الإيمان بالله والجهاد في سبيله ، قلت : أي الرقاب أفضل ؟ قال أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا ، قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : تعين صانعا أو تصنع لأخرق ، قلت : يا رسول الله . أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ، قال : تكف شرك عن الناس ، فإنها صدقة منك على نفسك } رواه البخاري ومسلم .

وعنه أيضا { أن ناسا قالوا : يا رسول الله : ذهب أهل الدثور بالأجور ، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال : أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به ، إن كل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة . قالوا : يا رسول الله : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر } رواه مسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كل سلامى من الناس عليه صدقة ، كل يوم تطلع فيه الشمس . [ ص: 247 ] يعدل بين الاثنين صدقة ، أو يعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة ، ويميط الأذى عن الطريق صدقة } ، رواه البخاري ومسلم . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل ، فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله ، وعزل حجرا عن طريق الناس أو شوكة أو عظما عن طريق الناس ، وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد الستين والثلاثمائة فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار } رواه مسلم . وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كل معروف صدقة } رواه البخاري ومسلم بلفظه من رواية حذيفة . وعن جابر أيضا رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة ، وما سرق منه له صدقة ، ولا يرزؤه إلا كان له صدقة } رواه مسلم . وفي رواية له { فلا يغرس المسلم غرسا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة } وفي رواية : { لا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة } ورواه البخاري ومسلم أيضا من رواية أنس . ويرزأه ، أي ينقصه والله أعلم .

( فرع ) يستحب استحبابا متأكدا صلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب واليتامى والأرامل والجيران والأصهار وصلة أصدقاء أبيه وأمه وزوجته والإحسان إليهم وقد جاءت في جميع هذا أحاديث كثيرة مشهورة في الصحيح ، جمعت معظمها في رياض الصالحين ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية