صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ومن لا يقدر على الصوم بحال ، وهو الشيخ الكبير الذي يجهده الصوم ، والمريض الذي لا يرجى برؤه ، فإنه لا يجب عليهما الصوم ; لقوله عز وجل { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وفي الفدية قولان : ( أحدهما ) لا تجب ; لأنه سقط عنهما فرض الصوم فلم تجب عليهما الفدية ، كالصبي والمجنون .

( والثاني ) يجب عليه كل يوم مد من طعام وهو الصحيح ; لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : " الشيخ الكبير يطعم عن كل يوم مسكينا " وعن أبي هريرة أنه قال " من أدركه الكبر فلم يستطع صيام رمضان فعليه لكل يوم مد من قمح " . وقال ابن عمر رضي الله عنهما : " إذا ضعفت عن الصوم أطعم عن كل يوم مدا " وروي أن أنسا رضي الله عنه " ضعف عن الصوم عاما قبل وفاته فأفطر وأطعم " وإن لم يقدر على الصوم لمرض يخاف زيادته ويرجو البرء لم يجب عليه الصوم ; للآية ، فإذا برئ وجب عليه القضاء ; لقوله عز وجل { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } وإن أصبح صائما وهو صحيح ، [ ص: 261 ] ثم مرض أفطر ، لأنه أبيح له الفطر للضرورة والضرورة موجودة فجاز له الفطر ) .


( الشرح ) الأثر المذكور عن ابن عباس رواه البخاري عنه في صحيحه في كتاب التفسير ، والأثر عن أبي هريرة رواه البيهقي ، والأثر عن أنس رواه الدارقطني والبيهقي ( وقوله ) يجهده هو - بفتح الياء والهاء ويقال : بضم الياء وكسر الهاء - قال ابن فارس والجوهري وغيرهما : يقال : جهد وأجهد إذا حمله فوق طاقته ، وجهده أفصح ( وقوله ) برأ ، هذا هو الفصيح ، ويقال برئ وبروء ، وقد سبق مبسوطا في باب التيمم . ( أما الأحكام ) ففيه مسائل : ( إحداها ) قال الشافعي والأصحاب : الشيخ الكبير الذي يجهده الصوم أي يلحقه به مشقة شديدة ، والمريض الذي لا يرجى برؤه لا صوم عليهما بلا خلاف ، وسيأتي نقل ابن المنذر الإجماع فيه ، ويلزمهما الفدية أصح القولين .

( والثاني ) لا يلزمهما ، والفدية مد من طعام لكل يوم ، وهذا الذي ذكرناه من صحيح وجوب الفدية متفق عليه عند أصحابنا ، وبه قال جمهور العلماء ، وهو نص الشافعي في المختصر وعامة كتبه . ونصه في القديم وحرملة من الجديد أن لا فدية عليه ، وقال البويطي هي مستحبة واتفقوا على أنه لو تكلف الصوم فصام فلا فدية ، والعجوز كالشيخ في جميع هذا ، وهو إجماع ، والله أعلم .

( الثانية ) المريض العاجز عن الصوم لمرض يرجى زواله لا يلزمه الصوم في الحال ، ويلزمه القضاء ; لما ذكره المصنف ، وهذا إذا لحقه مشقة ظاهرة بالصوم ولا يشترط أن ينتهي إلى حالة لا يمكنه فيها الصوم ، بل قال أصحابنا :شرط إباحة الفطر أن يلحقه بالصوم مشقة يشق احتمالها ، قالوا : وهو على التفصيل السابق في باب التيمم . [ ص: 262 ] قال أصحابنا : وأما المرض اليسير الذي لا يلحق به مشقة ظاهرة لم يجز له الفطر بلا خلاف عندنا ، خلافا لأهل الظاهر ، قال أصحابنا : ثم المرض المجوز للفطر إن كان مطيقا فله ترك النية بالليل ، وإن كان يحم وينقطع ، ووقت الحمى لا يقدر على الصوم . وإذا لم تكن حمى يقدر عليه فإن كان محموما وقت الشروع في الصوم فله ترك النية ، وإلا فعليه أن ينوي من الليل ، ثم إن عاد المرض واحتاج إلى الفطر أفطر والله أعلم .

( الثالثة ) إذا أصبح الصحيح صائما ثم مرض ، جاز له الفطر بلا خلاف ; لما ذكره المصنف .

( فرع ) قال أصحابنا وغيرهم : من غلبه الجوع والعطش فخاف الهلاك لزمه الفطر وإن كان صحيحا مقيما ; لقوله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } وقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ويلزمه القضاء كالمريض . والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : لو نذر الشيخ الكبير العاجز ، أو المريض الذي لا يرجى برؤه ، ففي انعقاده وجهان ( أصحهما ) لا ينعقد ; لأنه عاجز وبنى المتولي وآخرون هذين الوجهين على وجهين ونقلوهما في أنه يتوجه على الشيخ العاجز الخطاب بالصوم ، ثم ينتقل إلى الفدية للعجز ؟ أم يخاطب ابتداء بالفدية ؟ والأصح أنه يخاطب بالفدية ابتداء ، فلا ينعقد نذره .

( فرع ) إذا أوجبنا الفدية على الشيخ والمريض الميئوس من برئه ، وكان معسرا ، هل يلزمه إذا أيسر ؟ أم يسقط عنه ؟ فيه قولان كالكفارة ( والأصح ) في الكفارة بقاؤها في ذمته إلى اليسار ، لأنها في مقابلة جنايته ، فهي كجزاء الصيد ، وينبغي أن يكون الأصح هنا أنها تسقط ، ولا يلزمه إذا أيسر ، كالفطرة لأنه عاجز حال التكليف بالفدية وليست في مقابلة جناية ونحوها ، وقطع القاضي في المجرد أنه إذا أيسر بعد الإفطار لزمه الفدية ، فإن لم يفد حتى مات لزمه [ ص: 263 ] إخراجها من تركته ، قال : لأن الطعام في حقه كالقضاء في حق المريض والمسافر ، قال : وقد ثبت أن المريض والمسافر لو ماتا قبل تمكنهما من القضاء لم يجب شيء ، وإن زال عذرهما وقدرا على القضاء لزمهما ، فإن ماتا قبله وجب أن يطعم عنهما مكان كل يوم مد طعام ، فكذا هنا ، هذا كلام القاضي .

( فرع ) إذا أفطر الشيخ العاجز ، والمريض الذي لا يرجى برؤه ، ثم قدر على الصوم فهل يلزمه قضاء الصوم ؟ فيه وجهان حكاهما الدارمي ، وقال البغوي ونقله القاضي حسين : أنه لا يلزمه ; لأنه لم يكن مخاطبا بالصوم . بل بالفدية . بخلاف المعضوب إذا أحج عن نفسه ثم قدر فإنه يلزمه الحج على أصح القولين ; لأنه كان مخاطبا به . ثم اختار البغوي لنفسه أنه إذا قدر قبل أن يفدي لزمه الصوم وإن قدر بعد الفدية فيحتمل أن يكون كالحج ; لأنه كان مخاطبا بالفدية على توهم دوام عذره . وقد بان خلافه . والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في الشيخ العاجز عن الصوم ذكرنا أن مذهبنا أنه لا صوم عليه . ويلزمه الفدية على الأصح . وهي مد من طعام عن كل يوم . سواء في الطعام البر والتمر والشعير وغيرها من أقوات البلد . هذا إذا كان يناله بالصوم مشقة لا تحتمل . ولا يشترط خوف الهلاك . وممن قال بوجوب الفدية وأنها مد ، طاوس وسعيد بن جبير والثوري والأوزاعي وقال أبو حنيفة : يجب لكل يوم صاع تمر ، أو نصف صاع حنطة . وقال أحمد : مد حنطة أو مدان من تمر أو شعير . وقال مكحول وربيعة ومالك وأبو ثور : لا فدية ، واختاره ابن المنذر . قال ابن المنذر : وأجمعوا على أن للشيخ والعجوز العاجزين الفطر .

( فرع ) اتفق أصحابنا على أنه لا يجوز للشيخ العاجز والمريض الذي لا يرجى برؤه تعجيل الفدية قبل دخول رمضان ، ويجوز بعد طلوع فجر كل يوم ، وهل يجوز قبل الفجر في رمضان ؟ قطع الدارمي بالجواز ، وهو الصواب . وقال صاحب البحر : فيه احتمالان لوالده وليس بشيء ، ودليله القياس على تعجيل الزكاة .

التالي السابق


الخدمات العلمية