صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن أصبحوا يوم الثلاثين وهم يظنون أنه من شعبان فقالت البينة : إنه من رمضان [ لزمه ] قضاء صومه ، لأنه بان أنه من رمضان ، وهل يلزمهم إمساك بقية النهار ؟ فيه قولان : ( أحدهما ) لا يلزمهم ; لأنهم أفطروا بعذر فلم يلزمهم إمساك بقية النهار كالحائض إذا طهرت والمسافر إذا أقام .

( والثاني ) يلزمهم ; لأنه أبيح لهم الفطر بشرط أنه من شعبان . وقد بان أنه من رمضان فلزمهم الإمساك ، وإن رأوا الهلال بالنهار فهو لليلة المستقبلة لما روى شقيق بن سلمة [ ص: 278 ] قال : " أتانا كتاب عمر رضي الله عنه ونحن بخانقين أن الأهلة بعضها أكبر من بعض ، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس " وإن رأوا الهلال في بلد ولم يروه في آخر فإن كانا بلدين متقاربين - وجب على أهل البلدين الصوم ، وإن كانا متباعدين وجب على من رأى ولم يجب على من لم ير ; لما روى كريب قال : { قدمت الشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ، ثم قدمت المدينة فقال عبد الله بن عباس : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت ليلة الجمعة فقال : أنت رأيت ؟ قلت : نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية ، فقال لكنا رأيناه ليلة السبت ، فلا نزال نصوم حتى نكمل العدة أو نراه ، قلت : أو لا تكتفي برؤية معاوية ؟ قال هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم } ) .


( الشرح ) حديث كريب رواه مسلم ، وحديث شقيق عن عمر رضي الله عنه رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح ، ذكره البيهقي في موضعين من كتاب الصيام ثانيهما أواخر الكتاب في شهادة الاثنين على هلال شوال ، وقال في هذا الموضع : هذا أثر صحيح عن عمر رضي الله عنه ، وقوله ( بخانقين ) هو بخاء معجمة ونون ثم قاف مكسورتين وهي بلدة بالعراق قريبة من بغداد ، وكريب هذا هو بضم الكاف ، وهو مولى ابن عباس .

( أما الأحكام ) ففيه مسائل ( إحداها ) إذا ثبت كون يوم الثلاثين من شعبان فأصبحوا مفطرين ، فثبت في أثناء النهار كونه من رمضان وجب قضاؤه بلا خلاف وفي إمساك بقية النهار طريقان ( أحدهما ) فيه قولان ( أصحهما ) وجوبه ( والثاني ) لا يجب ، وذكر المصنف دليلهما ، وبهذا الطريق قطع المصنف وقليلون من العراقيين والخراسانيين ( والثاني ) يجب الإمساك قولا واحدا ، وهذا نصه في المختصر وبه قطع كثيرون أو الأكثرون من العراقيين والخراسانيين ، منهم الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب في المجرد وصاحب الحاوي والدارمي والمحاملي وآخرون من العراقيين والبغوي والسرخسي وآخرون من الخراسانيين .

قال المتولي : والخلاف في وجوب الإمساك إذا لم يكن أكل قبل ثبوت كونه من رمضان ، فإن كان أكل وقلنا : لا يجب الإمساك [ ص: 279 ] قبل الأكل فههنا أولى وإلا فوجهان ( أصحهما ) يجب لحرمة اليوم ، وإذا أوجبنا الإمساك فأمسك ، فهل هو صوم شرعي أم لا ؟ فيه وجهان حكاهما صاحب الحاوي والمحاملي وصاحب الشامل وآخرون ، واتفقوا على أن الصحيح أنه ليس بصوم شرعي . قال صاحب الحاوي : قال أبو إسحاق المروزي : يسمى صوما شرعيا ، قال : وقال أكثر أصحابنا : ليس هو بصوم شرعي وإنما هو إمساك شرعي ; لأنه لا يجزئه عن صوم رمضان ولا عن غيره بلا خلاف ، هكذا ذكر هؤلاء الوجهين في أنه صوم شرعي أم لا . ونسبوا القول بأنه صوم إلى أبي إسحاق . وقال القاضي أبو الطيب في المجرد : فيه وجهان ( أحدهما ) أنه إمساك شرعي يثاب عليه ( والثاني ) لا يثاب عليه . هكذا ذكرهما القاضي . وقال صاحب الشامل : يجب أن يقال في إمساكه ثواب . وإن لم يكن ثواب صوم . قال : وحكى الشيخ أبو حامد عن أبي إسحاق أنه إذا لم يكن أكل ثم أمسك يكون صائما من حين أمسك . قال صاحب الشامل : وهذا لا يجيء على أصل الشافعي لأنه واجب فلا يصح بنية النهار ، ولأنه لا يصح عن رمضان ولا نفل . قال : وينبغي أن يكون ما قاله أبو إسحاق أنه إمساك شرعي يثاب عليه ، هذا كلامه ، فحصل في المسألة ثلاثة أوجه ( الصحيح ) أنه يثاب على إمساكه ولا يكون صوما ( والثاني ) يكون صوما ( والثالث ) لا يثاب عليه ، وهو الذي حكاه القاضي وهذان الوجهان فاسدان . والله أعلم .

( المسألة الثانية ) إذا رأوا الهلال بالنهار فهو لليلة المستقبلة ، سواء رأوه قبل الزوال أو بعده ، هذا مذهبنا لا خلاف فيه ، وبه قال أبو حنيفة ومالك ومحمد وقال الثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف وعبد الملك بن حبيب المالكي : إن رأوه قبل الزوال فلليلة الماضية أو بعده فللمستقبلة ، سواء أول الشهر وأخره ، وقال : إن كان في أول الشهر ورأوه فللماضية ، وبعده للمستقبلة ، وإن رأوه في أخر رمضان بعد الزوال فللمستقبلة ، وقبله فيه روايتان عنه ( إحداهما ) للماضية ( والثانية ) للمستقبلة ، واحتج لمن فرق بين ما قبل الزوال وبعده بما رواه البيهقي بإسناده عن إبراهيم النخعي قال : " كتب عمر رضي الله عنه إلى عتبة بن فرقد : [ ص: 280 ] إذا رأيتم الهلال نهارا قبل أن تزول الشمس لتمام ثلاثين فأفطروا ، وإذا رأيتموه بعدما تزول الشمس فلا تفطروا حتى تصوموا " . واحتج أصحابنا بما ذكره المصنف عن شقيق بن سلمة عن عمر رضي الله عنه وبما رواه البيهقي بإسناده الصحيح عن سالم بن عبد الله بن عمر " أن ناسا رأوا هلال الفطر نهارا فأتم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما صيامه إلى الليل وقال : لا حتى يرى من حيث لا يرونه بالليل " وفي رواية قال ابن عمر : " لا يصح أن يفطروا حتى يروه ليلا من حيث يرى " وروينا في ذلك عن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ، وأما ما احتجوا به من رواية إبراهيم النخعي فلا حجة فيه فإنه منقطع ; لأن إبراهيم لم يدرك عمر ولا قارب زمانه ، والله أعلم .

( المسألة الثالثة ) إذا رأوا الهلال في رمضان في بلد ولم يروه في غيره ، فإن تقارب البلدان فحكمهما بلد واحد ويلزم أهل البلد الآخر الصوم بلا خلاف وإن تباعدا فوجهان مشهوران في الطريقتين ( أصحهما ) لا يجب الصوم على أهل البلد الآخر ، وبهذا قطع المصنف والشيخ أبو حامد والبندنيجي وآخرون ، وصححه العبدري والرافعي والأكثرون . ( والثاني ) يجب وبه قال الصيمري وصححه القاضي أبو الطيب والدارمي وأبو علي السنجي وغيرهم ، وأجاب هؤلاء عن حديث كريب عن ابن عباس أنه لم يثبت عنده رؤية الهلال في بلد آخر بشهادة عدلين والصحيح الأول . وفيما يعتبر بعد البعد والقرب ثلاثة أوجه ( أصحها ) وبه قطع جمهور العراقيين والصيدلاني وغيرهم أن التباعد يختلف باختلاف المطالع ، كالحجاز والعراق وخراسان ، والتقارب أن يختلف ، كبغداد والكوفة والري وقزوين ; لأن مطلع هؤلاء مطلع هؤلاء ، فإذا رآه هؤلاء فعدم رؤيته للآخرين لتقصيرهم في التأمل أو لعارض ، بخلاف مختلفي المطلع .

( والثاني ) الاعتبار باتحاد الإقليم واختلافه ، فإن اتحد فمتقاربان وإلا فمتباعدان وبهذا قال الصيمري وآخرون .

( الثالث ) أن التباعد مسافة القصر ، والتقارب دونها ، وبهذا قال الفوراني وإمام الحرمين والغزالي والبغوي وآخرون من الخراسانيين ، [ ص: 281 ] وادعى إمام الحرمين الاتفاق عليه ; لأن اعتبار المطالع يحوج إلى حساب وتحكيم المنجمين ، وقواعد الشرع تأبى ذلك . فوجب اعتبار مسافة القصر التي علق الشرع بها كثيرا من الأحكام ، وهذا ضعيف ، لأن أمر الهلال لا تعلق له بمسافة القصر . فالصحيح اعتبار المطالع كما سبق . فعلى هذا لو شك في اتفاق المطالع لم يلزم الذين لم يروا الصوم ، لأن الأصل عدم الوجوب ، ولأن الصوم إنما يجب بالرؤية للحديث ، ولم تثبت الرؤية في حق هؤلاء ، لعدم ثبوت قربهم من بلد الرؤية ، هذا الذي ذكرته هو المشهور للأصحاب في الطريقين ، وانفرد الماوردي والسرخسي بطريقين آخرين ، فقال الماوردي : إذا رأوه في بلد دون بلد فثلاثة أوجه : ( أحدها ) يلزم الذين لم يروا ، لأن فرض رمضان لا يختلف باختلاف البلاد وقد ثبت رمضان .

( والثاني ) لا يلزم لأن الطوالع والغوارب قد تختلف لاختلاف البلدان وإنما خوطب كل قوم بمطلعهم ومغربهم ، ألا ترى الفجر قد يتقدم طلوعه في بلد ويتأخر في بلد آخر ، وكذلك الشمس قد يتعجل غروبها في بلد ويتأخر في آخر ، ثم كل بلد يعتبر طلوع فجره وغروب شمسه في حق أهله فكذلك الهلال .

( الثالث ) إن كانا من إقليم لزمهم ، وإلا فلا ، هذا كلام الماوردي . وقال السرخسي : إذا رآه أهل ناحية دون ناحية ، فإن قربت المسافة لزمهم كلهم ، وضابط القرب أن يكون الغالب أنه إذا أبصره هؤلاء لا يخفى عليهم إلا لعارض ، سواء في ذلك مسافة القصر أو غيرها ، قال : فإن بعدت المسافة فثلاثة أوجه ( أحدها ) يلزم الجميع ، واختاره أبو علي السنجي ( والثاني ) لا يلزمهم ( والثالث ) إن كانت المسافة بينهما بحيث لا يتصور أن يرى ولا يخفى على أولئك بلا عارض لزمهم ، وإن كانت بحيث يتصور أن يخفى عليهم فلا . فحصل في المسألة ستة وجوه : ( أحدها ) يلزم جميع أهل الأرض برؤيته في موضع منها ( والثاني ) يلزم أهل إقليم بلد الرؤية دون غيرهم ( والثالث ) يلزم كل بلد يوافق [ ص: 282 ] بلد الرؤيا في المطلع دون غيره ، وهذا أصحها .

( والرابع ) يلزم كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض دون غيرهم وهو فيما حكاه السرخسي ( والخامس ) لا يلزم غير بلد الرؤية ، وهو فيما حكاه الماوردي ، والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء فيما إذا رأى الهلال أهل بلد دون غيرهم قد ذكرنا تفصيل مذهبنا ، ونقل ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق بن راهويه أنه لا يلزم غير أهل بلد الرؤية ، وعن الليث والشافعي وأحمد : يلزم الجميع ، قال : ولا أعلمه إلا قول المدني والكوفي ، يعني مالكا وأبا حنيفة .

( فرع ) لو شرع في الصوم ببلد ثم سافر إلى بلد بعيد لم يروا فيه الهلال حين رآه أهل البلد الأول ، فاستكمل ثلاثين من حين صام " فإن قلنا " لكل بلد حكم نفسه فوجهان ( أصحهما ) يلزمه الصوم معهم ، لأنه صار منهم ( والثاني ) يفطر لأنه التزم حكم الأول . وإن قلنا : تعم الرؤية كل البلاد لزم أهل البلد الثاني موافقته في الفطر ، إن ثبت عندهم رؤية البلد الأول بقوله أو بغيره ، وعليهم قضاء اليوم الأول ، وإن لم يثبت عندهم لزمه هو الفطر ، كما لو رأى هلال شوال وحده ويفطر سرا . ولو سافر في بلد لم يروا فيه إلى بلد رئي فيه فعيدوا اليوم التاسع والعشرين من صومه - فإن عممنا الحكم أو قلنا : له حكم البلد الثاني - عيد معهم ، ولزمه قضاء يوم وإن لم نعمم الحكم وقلنا : له حكم البلد الأول لزمه الصوم . ولو رأى الهلال في بلد وأصبح معيدا معهم . فسارت به سفينة إلى بلد في حد البعد . فصادف أهلها صائمين . قال الشيخ أبو محمد : يلزمه إمساك بقية يومه . إذا قلنا : لكل بلد حكم نفسه ، واستبعد إمام الحرمين والغزالي الحكاية .

قال الرافعي : وتتصور هذه المسألة في صورتين : [ ص: 283 ] إحداهما ) أن يكون ذلك اليوم يوم الثلاثين من صوم البلدين لكن المنتقل إليهم لم يروه ( والثانية ) أن يكون التاسع والعشرين للمنتقل إليهم لتأخر صومهم بيوم . قال : وإمساك بقية النهار في الصورتين إن لم يعمم الحكم كما ذكرنا وجواب الشيخ أبي محمد مبني على أن لكل بلد حكمه ، وأن للمنتقل حكم البلد المنتقل إليه ، وإن عممنا الحكم فأهل البلد الثاني إذا عرفوا في أثناء اليوم أنه عيد ، فهو شبيه بما سبق في باب صلاة العيد إذا شهدوا برؤية الهلال يوم الثلاثين . ولو أتى هذا السفر لعدلين - وقد رأيا الهلال بأنفسهما ، وشهدا في البلد الثاني - فهذه شهادة رؤية الهلال يوم الثلاثين ، فيجب الفطر في الصورة الأولى ، وأما الثانية فإن عممنا الحكم بجميع البلاد لم يبعد أن يكون كلامهما على التفصيل السابق في باب صلاة العيد ، فإن قبلنا شهادتهم قضوا يوما ، وإن لم نعمم الحكم لم يلتفت إلى قولهما . ولو كان عكسه بأن أصبح صائما فسارت به سفينة إلى قوم معيدين فإن عممنا الحكم أو قلنا : له حكم المنتقل إليه ، أفطر وإلا فلا ، وإذا أفطر قضى يوما إذا لم يصم إلا ثمانية وعشرين يوما .

التالي السابق


الخدمات العلمية