صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وفي الشهادة التي يثبت بها رؤية هلال شهر رمضان قولان ، قال في البويطي : لا تقبل إلا من عدلين ، لما روى الحسين بن حريث الجدلي ( جديلة قيس ) قال : { خطبنا أمير مكة الحارث بن حاطب فقال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسك لرؤيته فإن لم نره فشهد شاهدان عدلان نسكنا بشهادتهما } ( وقال ) في القديم والجديد : يقبل من عدل واحد وهو الصحيح ، لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : { تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالصيام } ولأنه إيجاب عبادة ، فقبل من واحد احتياطا للفرض ( فإن قلنا ) يقبل من واحد ، فهل يقبل من العبد والمرأة ؟ فيه وجهان : [ ص: 284 ] أحدهما ) يقبل ; لأن ما قبل فيه قول الواحد قبل من العبد والمرأة كإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ( والثاني ) لا يقبل ، وهو الصحيح لأن طريقها طريق الشهادة ، بدليل أنه لا يقبل من شاهد الفرع مع حضور شاهد الأصل فلم يقبل من العبد والمرأة كسائر الشهادات ، ولا يقبل في هلال الفطر إلا شاهدان ، لأنه إسقاط فرض ، فاعتبر فيه العدد احتياطا للفرض ، فإن شهد واحد على رؤية هلال رمضان فقبل قوله وصاموا ثلاثين يوما وتغيمت السماء ففيه وجهان ( أحدهما ) أنهم لا يفطرون لأنه إفطار بشاهد واحد ( والثاني ) أنهم يفطرون وهو المنصوص في الأم ، لأنه بينة ثبت بها الصوم فجاز الإفطار باستكمال العدد منها كالشاهدين .

وقوله : إن هذا إفطار بشاهد لا يصح ; لأن الذي ثبت بالشاهد هو الصوم ، والفطر ثبت على سبيل التبع وذلك يجوز كما نقول : إن النسب لا يثبت بقول أربع نسوة ثم ولو شهد أربع نسوة بالولادة ثبتت الولادة وثبت النسب على سبيل التبع للولادة . وإن شهد اثنان على رؤية هلال رمضان فصاموا ثلاثين يوما والسماء مصحية فلم يروا الهلال ففيه وجهان . قال أبو بكر الحداد : لا يفطرون ; لأن عدم الهلال مع الصحو يقين والحكم بالشاهدين ظن ، واليقين يقدم على الظن ، وقال أكثر أصحابنا : يفطرون ; لأن شهادة اثنين يثبت بها الصوم والفطر ، فوجب أن يثبت بها الفطر . وإن غم عليهم الهلال وعرف رجل الحساب ومنازل القمر وعرف بالحساب أنه من شهر رمضان ففيه وجهان . قال أبو العباس : يلزمه الصوم ; لأنه عرف الشهر بدليل فأشبه إذا عرف بالبينة ( والثاني ) أنه لا يصوم ; لأنا لم نتعبد إلا بالرؤية ومن رأى هلال شوال وحده أفطر وحده ; لقوله صلى الله عليه وسلم { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته } ويفطر لرؤيته هلال شوال سرا ، لأنه إذا أظهر الفطر عرض نفسه للتهمة وعقوبة السلطان ) .


( الشرح ) حديث الحسين بن حريث صحيح رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي وغيرهم ، وقال الدارقطني والبيهقي : هذا إسناد متصل صحيح وحديث ابن عمر صحيح ، رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم قال الدارقطني : تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة . [ ص: 285 ] وقوله ) حسين بن حريث هكذا وقع في المهذب حريث - بضم الحاء - وهو غلط فاحش وصوابه حسين بن الحارث ، وهذا لا خلاف فيه وهو مشهور في رواية هذا الحديث ، وفي جميع كتب الحديث وكتب الأسماء حسين بن الحارث ( وقوله ) الجدلي ( جديلة قيس ) يعني أنه من بني جديلة قبيلة معروفة من قيس عيلان - بالعين المهملة - احتراز من جديلة طيئ وغيرها ، وقد أوضحت حاله وحال قبيلته في تهذيب الأسماء واللغات ( وقوله ) الحارث بن حاطب هو صحابي مشهور ، وقد أوضحت حاله في التهذيب ، وفي سنن أبي داود وغيره أن عبد الله بن عمر وافقه على رواية هذا الحديث وصدقه فيه .

( وقوله ) ننسك هو - بضم السين وكسرها - لغتان مشهورتان وهو العبادة ومن قال بالمذهب : أنه لا يثبت الهلال بعدل واحد ، وأجاب عن حديث الحسين بن الحارث بأن النسك ههنا عيد الفطر ، وكذا ترجم له البيهقي وغيره على ثبوت هلال شوال بعدلين .

( وأما الأحكام ) ففي الفصل مسائل : ( إحداها ) في الشهادة التي يثبت بها هلال رمضان ثلاث طرق ( أصحها ) وأشهرها وبه قطع المصنف والجمهور في المسألة قولان ( أصحهما ) باتفاق الأصحاب يثبت بعدل ، وهو نصه في القديم ، ومعظم كتبه في الجديد ، للأحاديث الصحيحة في ذلك ( منها ) ما ذكره المصنف وغير ذلك ( والثاني ) وهو نصه في البويطي لا يثبت إلا بعدلين .

( والطريق الثاني ) القطع بثبوته بعدل للأحاديث ( والثالث ) حكاه الماوردي والسرخسي إن ثبتت الأحاديث ثبت بعدل وإلا فقولان ( أحدهما ) يشترط عدلان كسائر الشهور ( والثاني ) يثبت بعدل للاحتياط ، وهذا الطريق محتمل ، ولكن الأحاديث قد ثبتت ، فالحاصل أن المذهب ثبوته بعدل ، قال أصحابنا : فإن شرطنا عدلين فلا مدخل للنساء والعبيد في هذه الشهادة ، ويشترط لفظ الشهادة ويختص بمجلس القاضي ، ولكنها شهادة حسبة لا ارتباط لها بالدعوى ، وإن اكتفينا بعدل فهل هو بطريق الرواية أم بطريق الشهادة ؟ فيه وجهان مشهوران وحكاهما السرخسي قولين .

[ ص: 286 ] قال الدارمي : القائل : شهادة هو أبو علي بن أبي هريرة ، والقائل : رواية هو أبو إسحاق المروزي ، واتفقوا على أن ( أصحهما ) أنه شهادة فعلى هذا لا يقبل فيه العبد والمرأة ، ونص عليه في الأم . قال القاضي أبو الطيب في المجرد : وبهذا قال جميع أصحابنا غير أبي إسحاق ( والثاني ) أنه رواية فيقبل من العبد والمرأة ، وفي اشتراط لفظ الشهادة طريقان ( أحدهما ) يشترط قطعا ( وأصحهما ) وبه قال الجمهور فيه وجهان مبنيان على أنه شهادة أم رواية ؟ إن قلنا : شهادة شرط وإلا فلا . وأما الصبي المميز الموثوق به فلا يقبل قوله إن شرطنا اثنين أو قلنا : شهادة ، وهذا لا خلاف فيه وإن قلنا : رواية فطريقان ( المذهب ) وبه قطع الجمهور لا يقبل قطعا ( والثاني ) فيه وجهان بناء على الوجهين المشهورين في قبول روايته إن قبلناها قبل هذا ، وإلا فلا ، وبهذا الطريق قطع إمام الحرمين . وأما الكافر والفاسق والمغفل فلا يقبل قولهم فيه بلا خلاف ، ولا خلاف في اشتراط العدالة الظاهرة فيمن نقبله .

وأما العدالة الباطنة ، فإن قلنا : يشترط عدلان اشترطت ، وإلا فوجهان حكاهما إمام الحرمين وآخرون ، قالوا : وهما جاريان في رواية المستور ، الحديث ( والأصح ) قبول رواية المستور ، وكذا الأصح قبول قوله هنا والصيام به ، وبهذا قطع صاحب الإبانة والعدة والمتولي ، قال أصحابنا : ولا فرق في كل ما ذكرناه بين كون السماء مصحية أو مغيمة .

( فرع ) إذا أخبره من يثق به كزوجته وجاريته وصديقه وغيرهم ممن يثق به ويعتقد صدقه أنه رأى هلال رمضان ولم يذكر ذلك عند القاضي ، فقد قطعت طائفة بأنه يلزمه الصوم بقوله ، ممن صرح بوجوب ذلك على المقول له أبو الفضل بن عبدان والغزالي في الإحياء والبغوي وغيرهم . وقال إمام الحرمين وصاحب الشامل : إن قلنا : إنه رواية لزم الصوم بقوله .

( المسألة الثانية ) هل يثبت هلال رمضان بالشهادة على الشهادة ؟ . فيه طريقان مشهوران حكاهما البغوي وآخرون ( أصحهما ) وبه قطع الأكثرون ، وأشار إليه المصنف ثبوته كسائر الأحكام ( والثاني ) [ ص: 287 ] فيه قولان كالحدود ; لأنه من حقوق الله تعالى التي ليست مالية ، والمذهب الأول ، وقاسه البغوي وآخرون على الزكاة وإتلاف حصر المسجد ونحوها ، فإنه يقبل فيه الشهادة على الشهادة بلا خلاف ، بخلاف الحدود فإنها مبنية على الدرء والإسقاط ، قال البغوي وآخرون : فعلى هذا عدد الفروع مبني على الأصول ، فإن شرطنا العدد في الأصول فحكم الفروع هنا كحكمهم في سائر الشهادات ، فيشترط أن يشهد على شهادة كل واحد شاهدان ، وهل يكفي شهادة رجلين على شهادة شاهدي الأصل جميعا ، فيه القولان المشهوران ( وأصحهما ) يكفي ، وعلى هذا لا مدخل لشهادة النساء والعبيد ، وإن اكتفينا بواحد فإن قلنا : سبيله سبيل الرواية ، فوجهان ( أحدهما ) يكفي واحد كرواية الحديث ( والثاني ) يشترط اثنان ، قال البغوي : هو الأصح لأنه ليس بخبر من كل وجه ، بدليل أنه لا يجوز أن يقول : أخبرني فلان عن فلان أنه رأى الهلال ، فعلى هذا هل يشترط إخبار حرين ذكرين ، أم يكفي امرأتان أو عبدان ، فيه وجهان أصحهما الأول ، وقال الشيخ أبو علي السنجي وإمام الحرمين : الأصح الاكتفاء بواحد عن واحد ، إذا قلنا : إنه رواية ، وبهذا قطع الدارمي ونقل الشيخ أبو علي الإجماع على أنه لا يقبل قول الفرع : حدثني فلان أن فلانا رأى الهلال ، قال إمام الحرمين : والقياس يقتضي قبوله إذا اكتفينا بواحد في الأصل والفرع ، قال : ولا نسلم دعواه الإجماع من نزاع واحتمال ظاهر ، أما إذا قلنا : طريقه طريق الشهادة ، فهل يكفي شهادة واحد على شهادة واحد أم يشترط اثنان ؟ فيه وجهان ، وقطع البغوي باشتراط اثنين وهو الأصح ، وأما شهادة الفرع بحضرة الأصل على شهادته فقطع المصنف وغيره بأنها لا تقبل ، ولا يبعد تخريج خلاف فيه على قولنا : رواية ، كما في رواية الحديث ، والله أعلم .

( المسألة الثالثة ) إذا قبلنا في هلال رمضان عدلا وصمنا على قوله ثلاثين يوما فلم نر الهلال بعد الثلاثين فهل نفطر ؟ فيه وجهان مشهوران ، أصحهما عند المصنف وجماهير الأصحاب - وهو نصه في الأم - نفطر ( والثاني ) لا نفطر ، لأنه إفطار مبني على قول عدل واحد ، والمذهب الأول لأنها حجة شرعية ثبت بها هلال رمضان فثبت الإفطار بعد [ ص: 288 ] استكمال العدد منها كالشاهدين وأبطل الأصحاب قول الآخر ، قالوا : لأن الذي ثبت بالشاهد إنما هو الصوم وحده ، وأما الفطر فثبت تبعا كما أن شهادة النساء لا تقبل على النسب استقلالا ، ولو شهد أربع نسوة بالولادة ثبتت وثبت النسب تبعا لها بلا خلاف فكذا هنا ، ثم القولان جاريان سواء كانت السماء مصحية أو مغيمة هذا هو المذهب وبه صرح المتولي وآخرون ، وهو مقتضى كلام الأكثرين ، ونقله الرافعي عن مفهوم كلام الجمهور وقال أبو المكارم في العدة : الوجهان إذا كانت مصحية ، فإن كانت مغيمة أفطرنا بلا خلاف لاحتمال وجوده واستتاره بالغيم ، وقال المصنف والقاضي أبو الطيب في المجرد وآخرون : إذا صمنا بشهادة عدل ثلاثين وكانت السماء مغيمة ففي الفطر الوجهان ففرضوا المسألة فيما إذا غيمت ، وجب الفطر قطعا قال : وقيل هما في الغيم والصحو ، والمذهب طردهما في الحالين ، أما إذا صمنا بقول عدلين ثلاثين يوما ولم نر الهلال ، فإن كانت السماء مغيمة أفطرنا بلا خلاف ، وإن كانت مصحية فطريقان ( أحدهما ) نفطر قولا واحدا وهو نص الشافعي في الأم وحرملة ، وبه قطع كثيرون ( وأشهرهما ) وبه قطع المصنف وكثيرون فيه وجهان ( الصحيح ) وقول جمهور أصحابنا المتقدمين نفطر ; لأن أول الشهر ثبت وقد أمرنا بإكمال العدة إذا لم نر الهلال ، وقد أكملنا فوجب الفطر ( والثاني ) لا نفطر ، لأن عدم الرؤية مع الصحو يقين فلا نتركه بقول شاهدين وهو ظن ، وهذا قول أبي بكر بن الحداد حكاه عنه المصنف والأصحاب ، قال إمام الحرمين : هذا مزيف غير معدود من المذهب ، وإنما يجري على مذهب أبي حنيفة ، قال الرافعي : ونقل قول ابن الحداد عن ابن سريج أيضا ، قال : وفرع بعضهم عليه أنه لو شهد اثنان على هلال شوال فأفطرنا ثم لم نر الهلال بعد ثلاثين والسماء مصحية ، قضينا صوم أول يوم أفطرناه ، لأنه بان أنه من آخر رمضان ولكن لا كفارة على من جامع فيه ; لأن [ ص: 289 ] الكفارة على من أثم بالجماع ، وهذا لم يأثم لعذره وأما على المذهب وقول الجمهور فلا قضاء .

( المسألة الرابعة ) قال المصنف : إذا غم الهلال وعرف رجل الحساب ومنازل القمر ، وعرف بالحساب أنه من رمضان فوجهان ، قال ابن سريج يلزمه الصوم ; لأنه عرف الشهر بدليل ، فأشبه من عرفه بالبينة ، وقال غيره لا يصوم لأنا لم نتعبد إلا بالرؤية ، وهذا كلام المصنف ووافقه على هذه العبارة جماعة ، وقال الدارمي : لا يصوم بقول منجم ، وقال قوم : يلزم ، قال : فإن صام بقوله فهل يجزئه عن فرضه ؟ فيه وجهان وقال صاحب البيان : إذا عرف بحساب المنازل أن غدا من رمضان أو أخبره عارف فصدقه فنوى وصام بقوله فوجهان ( أحدهما ) يجزئه ، قاله ابن سريج واختاره القاضي أبو الطيب ; لأنه سبب حصل له به غلبة ظن فأشبه ما لو أخبره ثقة عن مشاهدة ( والثاني ) لا يجزئه ; لأن النجوم والحساب لا مدخل لهما في العبادات ، قال : وهل يلزمه الصوم بذلك ، قال ابن الصباغ : وأما بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا . وذكر صاحب المهذب أن الوجهين في الوجوب ، هذا كلام صاحب البيان وقطع صاحب العدة بأن الحاسب والمنجم لا يعمل غيرهما بقولهما ، وقال المتولي : لا يعمل غير الحاسب بقوله وهل يلزمه هو الصوم بمعرفة نفسه الحساب ؟ فيه وجهان أصحهما لا يلزمه ، وقال الرافعي : لا يجب بما يقتضيه حساب المنجم عليه ولا على غيره الصوم ، قال الروياني : وكذا من عرف منازل القمر لا يلزمه الصوم به على أصح الوجهين ، وأما الجواز فقال البغوي : لا يجوز تقليد المنجم في حسابه ، لا في الصوم ولا في الفطر ، وهل يجوز له أن يعمل بحساب نفسه ؟ فيه وجهان ، وجعل الروياني الوجهين فيما إذا عرف منازل القمر وعلم به وجود الهلال ، وذكر أن الجواز اختيار ابن سريج والقفال والقاضي أبي الطيب ، قال : فلو عرفه بالنجوم لم يجز الصوم به قطعا ، قال الرافعي : ورأيت في بعض المسودات تعدية الخلاف في جواز العمل به إلى غير المنجم ، هذا آخر كلام الرافعي [ ص: 290 ] فحصل في المسألة خمسة أوجه ( أصحها ) لا يلزم الحاسب ولا المنجم ولا غيرهما بذلك لكن يجوز لهما دون غيرهما ولا يجزئهما عن فرضهما ، ( والثاني ) يجوز لهما ويجزئهما ( والثالث ) يجوز للحاسب ولا يجوز للمنجم ( والرابع ) يجوز لهما ويجوز لغيرهما تقليدهما ( والخامس ) يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم ، والله أعلم .

( المسألة الخامسة ) من رأى هلال رمضان وحده لزمه الصوم ، ومن رأى هلال شوال وحده لزمه الفطر ، وهذا لا خلاف فيه عندنا لقوله صلى الله عليه وسلم : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته } رواه البخاري ومسلم ، وسبق بيانه ، قال أصحابنا : ويفطر لرؤية هلال شوال سرا لئلا يتعرض للتهمة في دينه وعقوبة السلطان ، قال أصحابنا : ولو رئي رجل يوم الثلاثين من رمضان يأكل بلا عذر ، عزر فلو شهد بعد الأكل أنه رأى الهلال البارحة لم تقبل شهادته ، لأنه متهم في إسقاط التعزير عن نفسه بخلاف ما لو شهد أولا فردت شهادته ، ثم أكل ، لا يعزر لعدم التهمة حال الشهادة ، قال أصحابنا : وإذا رأى هلال رمضان وحده ولم يقبل القاضي شهادته فالصوم واجب عليه كما ذكرنا ، فلو صام وجامع في ذلك اليوم لزمته الكفارة بلا خلاف ; لأنه من رمضان في حقه . هذا تفصيل مذهبنا في المسألتين وهذا الذي ذكرناه من لزوم الصوم برؤيته هلال رمضان وحده ، ووجوب الكفارة لو جامع فيه مذهب عامة العلماء ، وقال عطاء والحسن وابن سيرين وأبو ثور وإسحاق بن راهويه : لا يلزمه قال أبو حنيفة : يلزمه الصوم ، ولكن إن جامع فيه فلا كفارة ، وما ذكرناه من لزوم الفطر لمن رأى هلال شوال ، قال به أكثر العلماء ، وقال مالك والليث وأحمد : لا يجوز له الأكل فيه . دليلنا في المسألتين الحديث ; ولأن يقين نفسه أبلغ من الظن الحاصل بالبينة ، والله أعلم .

( المسألة السادسة ) لا يثبت هلال شوال ولا سائر الشهور غير هلال رمضان إلا بشهادة رجلين حرين عدلين ، لحديث الحارث بن حاطب السابق قريبا ، وقياسا على باقي الشهادات التي ليست مالا ، ولا المقصود [ ص: 291 ] منها المال ، ويطلع عليها الرجال غالبا ، مع أنه ليس فيه احتياط للعبادة بخلاف هلال رمضان ، هذا مذهبنا وبه قال العلماء كافة إلا أبا ثور فحكى أصحابنا عنه أنه يقبل في هلال شوال عدل واحد كهلال رمضان ، وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور وطائفة من أهل الحديث ، قال إمام الحرمين : قال صاحب التقريب : لو قلت بما قاله أبو ثور لم أكن مبعدا وقال الدارمي : هلال ذي الحجة هل يثبت بما يثبت به هلال رمضان ؟ أم لا يثبت إلا بعدلين ؟ فيه وجهان ، وهذا شاذ ضعيف . والله أعلم .

( فرع ) إذا قلنا يثبت هلال رمضان بقول واحد ، فإنما ذلك في الصوم خاصة فأما الطلاق والعتق وغيرهما مما علق على رمضان فلا يقع به بلا خلاف ، وكذا لا يحل الدين المؤجل إليه ولا تنقضي العدة ولا يتم حول الزكاة والجزية والدية المؤجلة وغير ذلك من الآجال بلا خلاف ، بل لا بد في كل ما سوى الصيام من شهادة رجلين عدلين كاملي العدالة ظاهرا وباطنا ، وممن صرح بهذا المتولي والبغوي والرافعي وآخرون .

( فرع ) قال المتولي : لو شهد عدل بإسلام ذمي مات لم تقبل شهادته وحده في إثبات إرث قريبه المسلم منه ، وحرمان قريبه الكافر بلا خلاف ، وهل تقبل في الصلاة عليه ؟ فيه وجهان بناء على القولين في صوم رمضان بقول عدل واحد وجزم القاضي حسين في فتاويه بأنه لا يقبل ذكره في آخر كتاب الصيام والردة . .

( فرع ) قال صاحب الشامل والبيان وغيرهما وهذا لفظ صاحب البيان قال الشافعي : وإن عقد رجل عنده أن غدا من رمضان في يوم الشك فصام ، ثم بان أنه من رمضان أجزأه قال : قال أصحابنا : أراد الشافعي بذلك إذا أخبره برؤية الهلال من يثق بخبره من رجل أو امرأة أو عبد فصدقه ، وإن لم يقبل الحاكم شهادته ، ونوى الصوم وصام ثم بان أنه من رمضان أجزأه ; لأنه نوى الصوم بظن وصادفه فأشبه البينة ، قال البندنيجي : وكذا لو أخبره صبي عاقل فأما إذا صام اتفاقا من غير مستند فوافق فإنه لا يجزئه بلا خلاف .

[ ص: 292 ] ( فرع ) لو كانت ليلة الثلاثين من شعبان ، ولم ير الناس الهلال ، فرأى إنسان النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له : الليلة أول رمضان لم يصح الصوم بهذا المنام لا لصاحب المنام ولا لغيره ، ذكره القاضي الحسين في الفتاوى وآخرون من أصحابنا ونقل القاضي عياض الإجماع ، عليه وقد قررته بدلائله في أول شرح صحيح مسلم ، ومختصره أن شرط الراوي والمخبر والشاهد أن يكون متيقظا في حال التحمل ، وهذا مجمع عليه ، ومعلوم أن النوم لا تيقظ فيه ، ولا ضبط ، فترك العمل بهذا المنام لاختلال ضبط الراوي لا للشك في الرؤية فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي } والله تعالى أعلم .

فرع في مذاهب العلماء في هلال رمضان . ذكرنا أن مذهبنا ثبوته بعدلين بلا خلاف ، وفي ثبوته بعدل خلاف ، الصحيح ثبوته ، وسواء أصحت السماء أو غيمت ، وممن قال : يثبت بشاهد واحد عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وآخرون ، وممن قال : يشترط عدلان عطاء وعمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي والليث وابن الماجشون وإسحاق بن راهويه وداود وقال الثوري : يشترط رجلان أو رجل وامرأتان ، كذا حكاه ابن المنذر ، وقال أبو حنيفة : إن كانت السماء مغيمة ثبت بشهادة واحد ، ولا يثبت رمضان إلا باثنين ، قال : وإن كانت مصحية ، لم يثبت رمضان بواحد ولا باثنين ، ولا يثبت إلا بعدد الاستفاضة ، واحتج لأبي حنيفة بأنه يبعد أن ينظر الجماعة الكبيرة إلى مطلع الهلال وأبصارهم صحيحة ، ولا مانع من الرؤية ، ويراه واحد أو اثنان دونهم ، واحتج من شرط اثنين بحديث الحارث بن حاطب ، وهو صحيح وسبق بيانه واحتج أصحابنا بحديث ابن عمر قال : { تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام ، [ ص: 293 ] وأمر الناس بصيامه } وهو صحيح كما سبق بيانه قريبا ، حيث ذكر المصنف .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال - يعني رمضان - فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله ، قال : نعم ، قال : أتشهد أن محمدا رسول الله قال : نعم ، قال : يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا } رواه أبو داود وهذا لفظه والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم أبو عبيد الله في المستدرك وغيرهم ، وقال الحاكم : وهو حديث صحيح ، قال الترمذي وغيره : وقد روي مرسلا عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر ابن عباس ، وكذا ورواه أبو داود من بعض طرقه مرسلا ، قال أبو داود والترمذي : ورواه جماعة مرسلا ، وكذا ذكره البيهقي من طرق موصولا ومن طرق مرسلا ، وطرق الاتصال صحيحة ، وقد سبق مرات أن المذهب الصحيح أن الحديث إذا روي مرسلا ومتصلا احتج به ، لأن مع من وصله زيادة وزيادة الثقة مقبولة ، وقد حكم الحاكم بصحته كما سبق ، فهذان الحديثان هما العمدة في المسألة .

( وأما ) حديث طاوس عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم قالا : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل واحد على هلال رمضان ، وكان لا يجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين } رواه البيهقي وضعفه ، قال : وهذا مما لا ينبغي أن يحتج به قال : وفي الحديثين السابقين كفاية ، ثم روى البيهقي بإسناده ما رواه الشافعي في المسند وغيره بإسناده الصحيح إلى فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم : " أن رجلا شهد عند علي رضي الله عنه على رؤية هلال رمضان فصام ، وأحسبه قال : وأمر الناس بالصيام ، وقال : لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان " ، ( والجواب ) عما احتج به أبو حنيفة من وجهين ( أحدهما ) أنه مخالف للأحاديث الصحيحة ، فلا يعرج عليه ( والثاني ) أنه يجوز أن يراه بعضهم دون جمهورهم لحسن نظره أو غير ذلك ، وليس [ ص: 294 ] هذا ممتنعا وهذا لو شهد برؤيته اثنان أو واحد وحكم به حاكم لم ينقض بالإجماع ، ووجب الصوم بالإجماع ، ولو كان مستحيلا لم ينفذ حكمه ووجب نقضه ، والجواب عما احتج به الآخرون أن المراد بقوله : ننسك هلال شوال جمعا بين الأحاديث ، أو محمول على الاستحباب والاحتياط ، ولا بد من أحد هذين التأويلين للجمع بين الأحاديث ، وحكى الماوردي عن بعض الشيعة أنهم أسقطوا حكم الأهلة ، واعتمدوا العدد ; للحديث السابق عن الصحيحين { شهرا عيد لا ينقصان } " وبالحديث المروي { صومكم يوم نحركم } ودليلنا عليهم الأحاديث المذكورة هنا مع الأحاديث السابقة { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته } والأحاديث المشهورة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الشهر تسع وعشرون } أي قد يكون تسعا وعشرين ، وفي روايات { الشهر هكذا ، وهكذا ، وهكذا ، وأشار بأصبعه العشر ، وحبس الإبهام في الثالثة } رواه البخاري ومسلم .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا ، يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين } رواه البخاري بلفظه ومسلم بمعناه . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : { ما صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين } رواه أبو داود والترمذي .

وعن عائشة رضي الله عنها قالت : { ما صمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمت معه ثلاثين } رواه الدارقطني ، وقال إسناده حسن صحيح وعن أبي هريرة مثله رواه ابن ماجه ، ( والجواب ) عن { شهرا عيد لا ينقصان } أي لا ينقص أجرهما أو لا ينقصان في سنة واحدة معا غالبا ، وقد سبق هذان التأويلان فيه مع غيرهما .

( والجواب ) عن حديث { صومكم يوم نحركم } أنه ضعيف بل منكر باتفاق الحفاظ وإنما الحديث الصحيح في هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الصوم يوم تصومون [ ص: 295 ] والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون } رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن ورواه أبو داود بإسناد حسن ولفظه { الفطر يوم تفطرون } وعن عائشة رضي الله عنها قالت : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس } رواه الترمذي وقال : هو حديث حسن صحيح ، والله تعالى أعلم .

( فرع ) قد ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا أنه لا تقبل شهادة النساء في هلال رمضان ، وحكاه ابن المنذر عن الليث وابن الماجشون المالكي ، ولم يحك عن أحد قبولها .

التالي السابق


الخدمات العلمية