صفحة جزء
[ ص: 308 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يصح صوم رمضان إلا بتعيين النية ، وهو أن ينوي أنه صائم من رمضان ، لأنه فريضة وهو قربة مضافة إلى وقتها فوجب تعيين الوقت في نيتها كصلاة الظهر والعصر ، وهل يفتقر إلى نية الفرض ؟ فيه وجهان ، قال أبو إسحاق : يلزمه أن ينوي صوم فرض رمضان ، لأن صوم رمضان قد يكون نفلا في حق الصبي فافتقر إلى نية الفرض ليتميز عن صوم الصبي ، وقال أبو علي بن أبي هريرة : لا يفتقر إلى ذلك لأن رمضان في حق البالغ لا يكون إلا فرضا فلا يفتقر إلى تعيين الفرض فإن نوى في ليلة الثلاثين من شعبان فقال : إن كان غد من رمضان فأنا صائم عن رمضان أو عن تطوع فكان من رمضان لم يصح لعلتين ( إحداهما ) أنه لم يخلص النية لرمضان ( والثانية ) أن الأصل أنه من شعبان فلا تصح نية رمضان [ ولأنه شاك في دخول وقت العبادة فلم تصح نيته كما لو شك في دخول وقت الصلاة ] ولو قال : إن كان غد من رمضان فأنا صائم عن رمضان ، وإن لم يكن من رمضان فأنا صائم عن تطوع لم يصح لعلة واحدة ، وهو أن الأصل أنه من شعبان فلا تصح بنية الفرض ، فإن قال ليلة الثلاثين من رمضان : إن [ كان ] غد من رمضان فأنا صائم عن رمضان أو الفطر ، فكان من رمضان لم يصح ; لأنه لم يخلص النية للصوم وإن قال : إن كان غد من رمضان فأنا صائم عن رمضان ، وإن لم يكن من رمضان فأنا مفطر ، فكان من رمضان صح صومه ; لأنه أخلص النية للفرض وبنى على أصل ، لأن الأصل أنه من رمضان ) .


( الشرح ) قوله : قربة مضافة إلى وقتها احتراز من الكفارة ، فإنه لا يشترط فيها تعيينها عن قتل أو ظهار أو غيرهما ، ( أما الأحكام ) ففيه مسائل ( إحداها ) قال الشافعي والأصحاب : لا يصح صوم رمضان ولا قضاء ولا كفارة ولا نذر ولا فدية حج ولا غير ذلك من الصيام الواجب إلا بتعيين النية ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { وإنما لكل امرئ ما نوى } فهذا ظاهر في اشتراط التعيين ، [ ص: 309 ] لأن أصل النية فهم اشتراطه من أول الحديث { إنما الأعمال بالنيات } واستدل الأصحاب بالقياس الذي ذكره المصنف ، وهذا الذي ذكرناه من اشتراط تعيين النية هو المذهب والمنصوص ، وبه قطع الأصحاب في جميع الطرق إلا المتولي فحكى عن أبي عبد الله الحليمي من أصحابنا وجها أن صوم رمضان يصح بنية مطلقة . وهذا الوجه شاذ مردود .

( الثانية ) صفة النية الكاملة المجزئة بلا خلاف أن يقصد بقلبه صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى ، فأما الصوم فلا بد منه ، وكذا رمضان لا بد من تعيينه إلا وجه الحليمي السابق في المسألة قبلها ، وأما الأداء والفريضة ففيهما الخلاف السابق في الصلاة ، وقد سبق موضحا بدليله ، لكن الأصح هنا وهناك أن الأداء لا يشترط ، وأما الفريضة فاختلفوا في الأصح هناك وهنا ، فالأصح عند الأكثرين هناك الاشتراط والأصح هنا أيضا عند البغوي ، الاشتراط والأصح هنا عند البندنيجي وصاحب الشامل والأكثرين عدم الاشتراط ، والفرق أن صوم رمضان من البالغ لا يكون إلا فرضا ، وصلاة الظهر من البالغ قد تكون نفلا في حق من صلاها ثانيا في جماعة ، وهذا هو الأصح ، وأما الإضافة إلى الله تعالى فقد سبق في باب نية الوضوء أن فيها وجهين في جميع العبادات ، ذكرهما الخراسانيون ( أصحهما ) لا تجب ، وبه قطع العراقيون وأما التقييد بهذه السنة فليس بشرط على المذهب ، وهو المنصوص ، وبه قطع المصنف وسائر العراقيين وآخرون من غيرهم ، وحكى إمام الحرمين وآخرون من الخراسانيين وجها في اشتراطه وغلطوا قائله ، وحكى البغوي وجها في اشتراط فرض هذا الشهر ، وهو بمعنى فرض هذه السنة ، وهو أيضا غلط ، والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا الخراسانيين وغيرهم : إذا نوى يوما وأخطأ في وصفه لا يضره ( مثاله ) نوى ليلة الثلاثاء صوم الغد ، وهو يعتقده يوم الاثنين ، أو نوى صوم غد من رمضان هذه السنة وهو يعتقدها سنة ثلاث فكانت سنة أربع صح صومه ، بخلاف ما لو نوى ليلة الاثنين صوم يوم الثلاثاء ، أو نوى وهو في سنة أربع صوم رمضان [ ص: 310 ] سنة ثلاث فإنه لا يصح بلا خلاف ، لأنه لم يعين الوقت ، وممن ذكر هذا الفرع كما ذكرته من العراقيين القاضي أبو الطيب في المجرد والدارمي ، لكن قال الدارمي : لو نوى صوم غد يوم الأحد وهو غيره فوجهان ، وذكر صاحب الشامل ما قدمناه عن القاضي أبي الطيب وغيره ، ثم قال : وعندي أنه يجزئه في جميع هذه الصور ، ولا فرق بينهما .

( فرع ) قال الرافعي : اشتراط الغد في كلام الأصحاب في تفسير التعيين ، قال : وهو في الحقيقة ليس من حد التعيين ، وإنما وقع ذلك من نظرهم إلى التبييت ، ( فرع ) حكم التعيين في صوم القضاء والكفارة كما ذكرنا في صوم رمضان ولا يشترط تعيين سبب الكفارة ، لكن لو عين وأخطأ لم يجزئه ، وسيأتي في الكفارات إن شاء الله تعالى إيضاحه ، وسبقت الإشارة إلى شيء منه في باب صفة الأئمة ، وأما صوم التطوع فيصح بنية مطلق الصوم كما في الصلاة ، هكذا أطلقه الأصحاب ، وينبغي أن يشترط التعيين في الصوم المرتب كصوم عرفة وعاشوراء وأيام البيض وستة من شوال ونحوها ، كما يشترط ذلك في الرواتب من نوافل الصلاة .

( الثالثة ) قال أصحابنا : ينبغي أن تكون النية جازمة ، فلو نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد إن كان من رمضان فله حالان ( أحدهما ) أن لا يعتقد كونه من رمضان ، فإن ردد نيته فقال : أصوم غدا من رمضان إن كان منه وإلا فأنا مفطر أو متطوع ، لم يجزئه عن رمضان إذا بان منه ، لأنه صام شاكا ولم يكن على أصل يستصحبه ولا ظن يعتمده ، وقال المزني : يجزئه عن رمضان ، ولو قال : أصوم غدا عن رمضان أو تطوعا لم يجزئه بلا خلاف ، ولو لم يردد نيته بل جزم بالصوم عن رمضان لم يصح وإن صادف رمضان ، لما ذكره المصنف من أن الأصل عدم رمضان . ولأنه لم يعتقده من رمضان لم يتأت منه الجزم به ، وإنما يحصل حديث نفس لا اعتبار به ، [ ص: 311 ] وحكى إمام الحرمين وغيره وجها عن صاحب التقريب أنه يجزئه عن رمضان والصواب الأول ، وبه قطع الجمهور ، ( أما ) إذا كان في آخر رمضان فقال : ليلة الثلاثين منه أصوم غدا إن كان من رمضان أو أتطوع ، أو قال : أصوم أو أفطر وصادف رمضان فلا يجزئه ، لأنه لم يجزم ، وإن قال : أصوم غدا من رمضان إن كان منه ، وإلا فأنا مفطر ، فكان منه أجزأه ، لأن الأصل بقاء رمضان فأجزأه استصحابا للأصل .

( الحال الثاني ) أن يعتقد كونه من رمضان ، فإن لم يستند اعتقاده إلى ما يثير ظنا فلا اعتبار به ، وحكمه ما سبق في الحال الأول ، وإن استند إليه فقد قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر : لو عقد رجل على أن غدا من رمضان في يوم الشك ثم بان أنه من رمضان أجزأه وهذا نصه : قال أصحابنا : إن استند إلى ما يحصل ظنا ، بأن اعتمد قول من يثق به من حر أو عبد أو امرأة أو صبيان ذوي رشد ، ونوى صوم رمضان فبان منه أجزأه بلا خلاف ، هكذا نقل الرافعي عن الأصحاب ، وصرح به البغوي والمتولي ، ولكن لم يذكر الصبيان ، وصرح به كله آخرون ، منهم إمام الحرمين في النهاية فصرح بالصبيان ذوي الرشد ، قال الجرجاني في التحرير : لو نوى الصوم برؤية من تسكن نفسه إليه من امرأة أو عبد أو فاسق أو مراهق وكان من رمضان أجزأه ، ولم يذكر فيه خلافا وممن صرح باعتماد الصبي المراهق وصحة الصوم بناء على قوله المحاملي في المجموع ، فإن قال في نيته والحالة هذه أصوم عن رمضان ، فإن لم يكن منه فهو تطوع .

قال إمام الحرمين وغيره : فظاهر النص أنه لا يصح ، وإن بان أنه من رمضان ، لأنه متردد ، قال الإمام : وذكر طوائف من الأصحاب وجها آخر أنه يصح لاستناده إلى أصل ، قال الإمام : وهذا موافق لمذهب المزني ، ورأى الإمام طرد الخلاف ، وإن جزم قال : لأنه لا يتصور الجزم والحالة هذه ; لأنه لا موجب له ، وإنما الحاصل له حديث نفس وإن [ ص: 312 ] سماه جزما ، قالوا : ويدخل في قسم استناد الاعتقاد إلى ما يثير ظنا الصوم مستندا إلى دلالة الحساب بمنازل القمر حيث جوزناه كما سبق ، قال أصحابنا : ومن ذلك إذا حكم الحاكم بثبوت رمضان بعدلين أو بعدل إذا جوزناه ، فيجب الصوم ويجزئ إذا بان من رمضان بلا خلاف ، ولا يضر ما قد يبقى من الارتياب في بعض الأوقات لحصول الاستناد إلى ظن معتمد ، قال أصحابنا : ومن ذلك الأسير والمحبوس في مطمورة إذا اشتبهت عليه الشهور وقد سبق بيانه مبسوطا ، والله تعالى أعلم . ولو قال ليلة الثلاثين من شعبان : أصوم غدا نفلا إن كان من شعبان ، وإلا فمن رمضان ، ولم يكن أمارة ولا غيرها فصادف شعبان صح صومه نفلا ، لأن الأصل بقاء شعبان ، صرح به المتولي وغيره ، وإن صادف رمضان فقد ذكرنا أنه لا يصح فرضا ولا نفلا ، والله تعالى أعلم .

ولو كان عليه قضاء فقال : أصوم غدا عن القضاء أو تطوعا لم يجزئه عن القضاء بلا خلاف ; لأنه لم يجزم به ، ويصح نفلا إذا كان في غير رمضان ، هذا مذهبنا ، وبه قال محمد بن الحسن ، وقال أبو يوسف يقع عن القضاء ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية