صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويحرم على الصائم الأكل والشرب ; لقوله سبحانه وتعالى : { كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، ثم أتموا الصيام إلى الليل } فإن أكل أو شرب وهو ذاكر للصوم ، عالم بتحريمه مختار بطل صومه لأنه فعل ما ينافي الصوم من غير عذر فبطل وإن استعط أو صب الماء في أذنه فوصل ، [ ص: 334 ] إلى دماغه بطل صومه ، لما روى لقيط بن صبرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا استنشقت فأبلغ الوضوء إلا أن تكون صائما } فدل على أنه إذا وصل إلى الدماغ شيء بطل صومه ، ولأن الدماغ أحد الجوفين فبطل الصوم بالواصل إليه كالبطن وإن احتقن بطل صومه ; لأنه إذا بطل بما يصل إلى الدماغ بالسعوط فلأن يبطل بما يصل إلى الجوف بالحقنة أولى ، وإن كان به جائفة أو آمة فداواها فوصل الدواء إلى جوفه أو إلى الدماغ أو طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه فوصلت الطعنة إلى جوفه بطل صومه ، لما ذكرنا في السعوط والحقنة وإن زرق في إحليله شيئا أو أدخل فيه ميلا ففيه وجهان ( أحدهما ) يبطل صومه ; لأنه منفذ يتعلق الفطر بالخارج منه ، فتعلق بالواصل إليه كالفم ( والثاني ) لا يبطل ; لأن ما يصل إلى المثانة لا يصل إلى الجوف فهو بمنزلة ما لو ترك في فمه شيئا ) .


( الشرح ) حديث لقيط صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم ولفظهم عن لقيط { قال : قلت : يا رسول الله أخبرني عن الوضوء ، قال أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما } قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح ، وقد سبق في باب صفة الوضوء بيان هذا الحديث ، وبيان حال لقيط ، وابن صبرة - بفتح الصاد وكسر الباء - ويجوز إسكان الباء مع فتح الصاد وكسرها ، ووقع في نسخ المهذب في حديث لقيط " فأبلغ الوضوء " وهذه اللفظة معروفة ، والمعروف ما ذكرناه عن رواية أهل الحديث ، والسعوط - بضم السين - هو نفس الفعل وهو جعل الشيء في الأنف وجذبه إلى الدماغ ، والسعوط - بفتحها - اسم للشيء الذي يتسعطه كالماء والدهن وغيرهما ، والمراد هنا بالضم ( وقوله ) فلأن يبطل هو - بفتح اللام - وقد سبق بيانه ( والآمة ) بالمد هي الجراحة الواقعة في الرأس ، بحيث تبلغ أم الدماغ ، والمنفذ - بفتح الفاء - والمثانة - بفتح الميم وبالثاء المثلثة - وهي مجمع البول ، ( أما الأحكام ) فقال أصحابنا : أجمعت الأمة على تحريم الطعام والشراب على الصائم وهو مقصود الصوم ، ودليله الآية الكريمة [ ص: 335 ] والإجماع .

وممن نقل الإجماع فيه ابن المنذر ، قال الرافعي : وضبط الأصحاب الداخل المفطر بالعين الواصلة من الظاهر إلى الباطن في منفذ مفتوح عن قصد مع ذكر الصوم ، وفيه قيود ( منها ) الباطن الواصل إليه ، وفيما يعتبر به وجهان ، ( أحدهما ) أنه ما يقع عليه اسم الجوف ( والثاني ) يعتبر معه أن يكون فيه قوة تحيل الواصل إليه من دواء أو غذاء ، قال : والأول هو الموافق لتفريع الأكثرين كما سيأتي إن شاء الله تعالى ويدل عليه أنهم جعلوا الحلق كالجوف في إبطال الصوم بوصول الواصل إليه ، وقال إمام الحرمين : إذا جاوز الشيء الحلقوم أفطر ، وعلى الوجهين جميعا باطن الدماغ والبطن والأمعاء والمثانة مما يفطر الوصول إليه بلا خلاف ، حتى لو كانت ببطنه أو برأسه مأمومة ، وهي الآمة ، فوضع عليها دواء فوصل جوفه ، أو خريطة دماغه أفطر ، وإن لم يصل باطن الأمعاء وباطن الخريطة ، وسواء كان الدواء رطبا أو يابسا عندنا ، وحكى المتولي والرافعي وجها أن الوصول إلى المثانة لا يفطر ، واختاره القاضي حسين وهو شاذ ، ( وأما ) الحقنة فتفطر على المذهب .

وبه قطع المصنف والجمهور ، وفيه وجه قاله القاضي حسين : لا تفطر وهو شاذ ، إن كان منقاسا فعلى المذهب ، قال أصحابنا سواء كانت الحقنة قليلة أو كثيرة ، وسواء وصلت إلى المعدة أم لا ، فهي مفطرة بكل حال عندنا ، ( وأما ) السعوط فإن وصل إلى الدماغ أفطر بلا خلاف ، قال أصحابنا : وما جاوز الخيشوم في الاستعاط فقد حصل في حد البطن وحصل به الفطر ، قال أصحابنا : وداخل الفم والأنف إلى منتهى الغلصمة والخيشوم له حكم الظاهر في بعض الأشياء حتى لو أخرج إليه القيء أو ابتلع منه نخامة أفطر ، ولو أمسك فيه تمرة ودرهما وغيرهما لم يفطر ما لم ينفصل من التمرة ونحوها شيء ولو تنجس هذا الموضع وجب غسله ، ولم تصح الصلاة حتى يغسله ، وله حكم الباطن في أشياء ( منها ) أنه إذا ابتلع منه الريق لا يفطر ولا يجب غسله على الجنب ، والله أعلم . [ ص: 336 ] وأما ) إذا قطر في إحليله شيئا ، ولم يصل إلى المثانة أو زرق فيه ميلا ، ففيه ثلاثة أوجه ( أصحها ) يفطر وبه قطع الأكثرون لما ذكره المصنف ( والثاني ) لا ( والثالث ) إن جاوز الحشفة أفطر وإلا فلا ، والله أعلم .

( فرع ) لو وصل الدواء إلى داخل لحم الساق أو غرز فيه سكينا أو غيرها فوصلت مخه لم يفطر بلا خلاف ، لأنه لا يعد عضوا مجوفا .

( فرع ) لو طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه فوصلت السكين جوفه أفطر بلا خلاف عندنا ، سواء كان بعض السكين خارجا أم لا .

( فرع ) إذا ابتلع طرف الخيط وطرفه الآخر بارزا أفطر بوصول الطرف الواصل ، ولا يعتبر الانفصال من الظاهر ، وحكى الحناطي - بالحاء المهملة - وجها فيمن أدخل طرف خيط جوفه أو دبره ، وبعضه خارجا أنه لا يفطر والمشهور الأول ، وبه قطع جمهور الأصحاب ، ولو ابتلع طرف خيط في الليل ، وطرفه الآخر خارجا فأصبح كذلك - فإن تركه بحاله - لم تصح صلاته ; لأنه حامل لطرفه البارز - وهو متصل بنجاسة ، وإن نزعه أو ابتلعه بطل صومه ، وصحت صلاته إذا غسل فمه بعد النزع . قال أصحابنا : فينبغي أن يبادر غيره إلى نزعه وهو غافل فينزعه بغير رضاه فإن لم يتفق ذلك فوجهان ( أصحهما ) يحافظ على الصلاة فينزعه أو يبلعه ( والثاني ) يتركه على حاله محافظة على الصوم ، ويصلي كذلك ، ويجب إعادة الصلاة لأنه عذر نادر ، وقد سبقت هذه المسألة مبسوطة في باب ما ينقض الوضوء .

( فرع ) لو أدخل الرجل أصبعه أو غيرها دبره ، أو أدخلت المرأة أصبعها أو غيرها دبرها أو قبلها وبقي البعض خارجا بطل الصوم باتفاق أصحابنا إلا الوجه الشاذ السابق عن الحناطي في الفرع الذي قبل هذا ، [ ص: 337 ] قال أصحابنا : وينبغي للصائمة ألا تبالغ بأصبعها في الاستنجاء ، قالوا : فالذي يظهر من فرجها إذا قعدت لقضاء الحاجة له حكم الظاهر فيلزمها تطهيره ، ولا يلزمها مجاوزته فإن جاوزته بإدخال أصبعها زيادة عليه بطل صومها ، وقد سبق إيضاح المسألة في باب الاستطابة ، هذا تفصيل مذهبنا ، وقال أبو حنيفة : إذا كان الواصل إلى الباطن متصلا بخارج لا يبطل صومه ، دليلنا أنه وصل الباطن فبطل صومه كما لو غاب كله .

. ( فرع ) لو قطر في أذنه ماء أو دهنا أو غيرهما فوصل إلى الدماغ فوجهان ( أصحهما ) يفطر ، وبه قطع المصنف والجمهور ، لما ذكره المصنف ( والثاني ) لا يفطر قال أبو علي السنجي - بالسين المهملة المكسورة وبالجيم - والقاضي حسين والفوراني وصححه الغزالي كالاكتحال ، وادعوا أنه لا منفذ من الأذن إلى الدماغ وإنما يصله بالمسام كالكحل ، وكما لو دهن بطنه فإن المسام تتشربه ولا يفطر بخلاف الأنف فإن السعوط يصل منه إلى الدماغ في منفذ مفتوح ، ونقل صاحب البيان عن أبي علي السنجي أنه يفطر ، والمعروف عنه ما ذكرته ، فيكون ذكر الفطر في بعض كتبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية