صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن تمضمض أو استنشق فوصل الماء إلى جوفه أو دماغه فقد نص فيه على قولين ( فمن ) أصحابنا من قال : القولان إذا لم يبالغ : فأما إذا بالغ فيبطل صومه قولا واحدا وهو الصحيح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقيط بن صبرة : { إذا استنشقت فأبلغ الوضوء إلا أن تكون صائما } فنهاه عن المبالغة ، فلو لم يكن وصول الماء في المبالغة يبطل الصوم لم يكن للنهي عن المبالغة معنى ; ولأن المبالغة منهي عنها في الصوم وما تولد من سبب منهي عنه فهو كالمباشرة ، والدليل عليه أنه إذا جرح إنسانا فمات ، جعل كأنه باشر قتله ، ومن أصحابنا من قال : هي على قولين ، بالغ أو لم يبالغ ( أحدهما ) يبطل صومه ; لقوله صلى الله عليه وسلم لمن قبل وهو صائم { أرأيت لو تمضمضت } فشبه القبلة بالمضمضة وإذا قبل فأنزل بطل صومه فكذلك إذا تمضمض فنزل الماء إلى جوفه وجب أن يبطل صومه .

( والثاني ) لا يبطل ; لأنه وصل إلى جوفه بغير اختياره فلم يبطل صومه كغبار الطريق وغربلة الدقيق ) .


( الشرح ) حديث لقيط سبق بيانه قريبا في فصل تحريم الطعام والشراب على الصائم وحديث قبلة الصائم وتشبيهها بالمضمضة بيناه قريبا ، [ ص: 356 ] أما حكم المسألة ) فاتفق أصحابنا ونصوص الشافعي رضي الله عنه على أنه يستحب للصائم المضمضة والاستنشاق في وضوئه ، كما يستحبان لغيره لكن تكره المبالغة فيهما لما سبق في باب الوضوء ، فلو سبق الماء فحاصل الخلاف في المضمضة والاستنشاق إذا وصل الماء منهما جوفه أو دماغه ثلاثة أقوال : ( أصحها ) عند الأصحاب إن بالغ أفطر وإلا فلا .

( والثاني ) يفطر مطلقا .

( والثالث ) لا يفطر مطلقا ، والخلاف فيمن هو ذاكر للصوم عالم بالتحريم فإن كان ناسيا أو جاهلا لم يبطل بلا خلاف كما سبق ، ولو غسل فمه من نجاسة فسبق الماء إلى جوفه فهو كسبقه في المضمضة فلو بالغ ههنا قال الرافعي : هذه المبالغة لحاجة فينبغي أن تكون كالمضمضة بلا مبالغة ; لأنه مأمور بالمبالغة للنجاسة دون المضمضة ، وهذا الذي قاله متعين ولو سبق الماء من غسل تبرد ومن المضمضة في المرة الرابعة . قال البغوي : إن بالغ أفطر وإلا فهو مرتب على المضمضة وأولى بإبطال الصوم ; لأنه غير مأمور به .

هذا كلام البغوي والمختار في الرابعة الجزم بالإفطار ; لأنها منهي عنها ولو جعل الماء في فيه لا لغرض فسبق ونزل إلى جوفه فطريقان حكاهما المتولي ( أحدهما ) يفطر ( والثاني ) على القولين ولو أصبح ولم ينو صوما فتمضمض ولم يبلغ فسبق الماء إلى جوفه ثم نوى صوم تطوع صح صومه على أصح الوجهين ; لأنه لا أثر لما سبق على الصحيح فكأنه لم يكن . قال القاضي حسين في فتاويه : إن قلنا : إن السبق لا يبطل الصوم صح صومه هذا وإلا فلا قال : والأصح الصحة في الموضعين . هذا كلامه وهذه مسألة مهمة نفيسة ، والله تعالى أعلم . قال الدارمي : ولو كان الماء في فيه أو أنفه فوجد منه عطاس أو نحوه فنزل الماء بذلك إلى جوفه أو دماغه لم يفطر قال أصحابنا : وسواء في المضمضة والاستنشاق صوم الفرض والنفل فحكمهما سواء على ما ذكرناه ، هذا مذهبنا ، وحكى أصحابنا عن النخعي أنه إن سبق الماء في وضوء مكتوبة لم يفطر وإن كان نافلة أفطر ، واستدل أصحابنا بأن المضمضة مأمور بها في وضوء الفرض والنفل ، والله تعالى أعلم . [ ص: 357 ] فرع ) قال المتولي وغيره : إذا تمضمض الصائم لزمه مج الماء ، ولا يلزمه تنشيف فمه بخرقة ونحوها بلا خلاف قال المتولي : لأن في ذلك مشقة . قال : ولأنه لا يبقى في الفم بعد المج إلا رطوبة لا تنفصل عن الموضع ، إذ لو انفصلت لخرجت في المج والله تعالى أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن تمضمض واستنشق فسبق الماء بغير اختياره إلى جوفه أو دماغه . قد ذكرنا أنه إن بالغ فالصحيح عندنا بطلان صومه وإلا فلا وممن قال ببطلان الصوم مطلقا مالك وأبو حنيفة والمزني قال الماوردي : وهو قول أكثر الفقهاء ، قال الحسن البصري وأحمد وإسحاق وأبو ثور : لا يبطل مطلقا وحكى الماوردي عن ابن عباس والشعبي والنخعي وابن أبي ليلى أنه إن توضأ لنافلة بطل صومه ، وإن توضأ لفريضة فلا ; لأنه مضطر إليه في الفريضة ومختار في النافلة قال الماوردي : هذا ضعيف لوجهين ( أحدهما ) أن المضمضة والاستنشاق سنتان فهو غير مضطر إليهما في الفرض والنفل ومندوب إليهما فيهما ( والثاني ) أن حكم الفطر لا يختلف بذلك . ولهذا لو أجهده الصوم أكل وقضى ولو أكل من غير مشقة قضى ، والله تعالى أعلم .

( فرع ) اتفق أصحابنا على أنه لو طارت ذبابة فدخلت جوفه أو وصل إليه غبار الطريق أو غربلة الدقيق بغير تعمد لم يفطر . قال أصحابنا : ولا يكلف إطباق فمه عند الغبار والغربلة ; لأن فيه حرجا ، فلو فتح فمه عمدا حتى دخله الغبار ووصل جوفه فوجهان حكاهما البغوي والمتولي وغيرهما ، قال البغوي ( أصحهما ) لا يفطر ; لأنه معفو عن جنسه ( والثاني ) يفطر لتقصيره ، وهو شبيه بالخلاف السابق في دم البراغيث إذا كثر ، وفيما إذا تعمد قتل قملة في ثوبه وصلى ، ونظائر ذلك والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية