صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن وطئ وطئا يوجب الكفارة ولم يقدر على الكفارة ، ففيه قولان : ( أحدهما ) لا تجب ; لقوله صلى الله عليه وسلم : " خذه واستغفر الله تعالى أطعم أهلك " أو ; لأنه حق مال يجب لله تعالى على وجه البدل ، فلم يجب مع العجز كزكاة الفطر .

( والثاني ) أنها تثبت في الذمة فإذا قدر لزمه قضاؤها وهو الصحيح ; لأنه حق لله تعالى يجب بسبب من جهته فلم يسقط بالعجز كجزاء الصيد ) .


( الشرح ) هذا الحديث سبق بيانه . وقوله ( حق مال ) احتراز من الصوم في حق المريض فإنه لا يسقط بل يثبت في الذمة . وقوله ( لله تعالى ) احتراز من المتعة . وقوله ( لا على وجه البدل ) احتراز من جزاء الصيد . وقوله ( لأنه حق لله تعالى ) قال القلعي : ليس هو احترازا بل لتقريب الفرع من الأصل ، ويحتمل أنه احتراز من نفقة القريب . وقوله ( بسبب من جهته ) احتراز من زكاة الفطر . [ ص: 380 ] أما أحكام الفصل ) فقال أصحابنا : الحقوق المالية الواجبة لله تعالى ثلاث أضرب ، وقد أشار إليها المصنف ( ضرب ) يجب لا بسبب مباشرة من العبد كزكاة الفطر ، فإذا عجز عنه وقت الوجوب لم يثبت في ذمته ، فلو أيسر بعد ذلك لم يجب ( وضرب ) يجب بسبب من جهته على جهة البدل كجزاء الصيد وفدية الحلق والطيب واللباس في الحج ، فإذا عجز عنه وقت وجوبه ثبت في ذمته تغليبا لمعنى الغرامة ; لأنه إتلاف محض ( وضرب ) يجب بسببه لا على جهة البدل ككفارة الجماع في نهار رمضان ، وكفارة اليمين والظهار والقتل . قال صاحب العدة : ودم التمتع والقران . وقال البندنيجي : والنذر وكفارة قوله : أنت حرام ، ودم التمتع والطيب واللباس ففيها قولان مشهوران ( أصحهما ) عند المصنف والأصحاب تثبت في الذمة ، فمتى قدر على أحد الخصال لزمته ( والثاني ) لا تثبت ، وذكر المصنف دليلهما ، وشبهها بجزاء الصيد أولى من الفطرة ; لأن الكفارة مؤاخذة على فعله كجزاء الصيد بخلاف الفطرة . واحتج بعض أصحابنا للقول بسقوطها بحديث الأعرابي كما أشار إليه المصنف ; لأنه صلى الله عليه وسلم قال : " أطعم أهلك " ومعلوم أن الكفارة لا تصرف إلى الأهل .

وقال جمهور أصحابنا والمحققون : حديث الأعرابي دليل لثبوتهما في الذمة عند العجز عن جميع الخصال ; لأنه لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عجزه عن جميع الخصال ثم ملكه النبي صلى الله عليه وسلم العرق من التمر ثم أمره بأداء الكفارة لقدرته الآن عليها ، فلو كانت تسقط بالعجز لما أمره بها . وأما إطعامه أهله فليس هو على سبيل الكفارة ، وإنما معناه أن هذا الطعام صار ملكا له ، وعليه كفارة فأمر بإخراجه عنها ، فلما ذكر حاجته إليه أذن له في أكله لكونه في ملكه لا عن الكفارة ، وبقيت الكفارة في الذمة وتأخيرها لمثل هذا جائز بلا خلاف . فإن قيل : لو كانت واجبة لبينها له عليه السلام فالجواب من وجهين ( أحدهما ) أنه قد بينها له بقوله صلى الله عليه وسلم : تصدق بهذا بعد إعلامه بعجزه ، ففهم الأعرابي وغيره من هذا أنها باقية عليه .

( والثاني ) أن تأخير [ ص: 381 ] البيان إلى وقت الحاجة جائز ، وهذا ليس في وقت الحاجة ، فهذا الذي ذكرته من تأويل الحديث ومعناه هو الصواب الذي قاله المحققون والأكثرون . وحكى إمام الحرمين والغزالي وغيرهما وجها لبعض الأصحاب أنه يجوز صرف كفارة الجماع خاصة إلى زوجة المكفر وأولاده إذا كانوا فقراء ; لهذا الحديث ، ووافق هذا القائل على أن الزكاة وباقي الكفارات لا يجوز صرفها إلى الزوجة والأولاد الفقراء ، وقاس الجمهور على الزكاة وباقي الكفارات ، وأجابوا عن الحديث بما سبق .

( فرع ) في مسائل تتعلق بالجماع في صوم رمضان : ( إحداها ) إذا نسي النية وجامع في ذلك اليوم فلا كفارة في ذلك اليوم بلا خلاف ; لأنه لم يفسد به صوما .

( الثانية ) إذا وطئ الصائم في نهار رمضان وقال : جهلت تحريمه ، فإن كان ممن يخفى عليه ; لقرب إسلامه ونحوه فلا كفارة ، وإلا وجبت ، ولو قال : علمت تحريمه وجهلت وجوب الكفارة ، لزمته الكفارة بلا خلاف ، ذكره الدارمي وغيره ، وهو واضح وله نظائر معروفة ; لأنه مقصر .

( الثالثة ) إذا أفسد الحج بالجماع ، قال الدارمي : ففي الكفارة الأقوال الأربعة السابقة في كفارة الجماع في الصوم .

فرع في مذاهب العلماء في كفارة الجماع في صوم رمضان وما يتعلق بها وفيه مسائل : ( إحداها ) قد ذكرنا أن مذهبنا أن من أفسد صوم يومين من رمضان بجماع تام أثم به بسبب الصوم لزمته الكفارة ، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وداود والعلماء كافة إلا ما حكاه [ ص: 382 ] العبدري وغيره من أصحابنا عن الشعبي وسعيد بن جبير والنخعي وقتادة أنهم قالوا : لا كفارة عليه بإفساد الصلاة ، دليلنا حديث أبي هريرة السابق في قصة الأعرابي ، ويخالف الصلاة فإنه لا مدخل للمال في جبرانها .

( الثانية ) يجب على المكفر مع الكفارة قضاء اليوم الذي جامع فيه . هذا هو المشهور من مذهبنا وفيه خلاف سبق . قال العبدري : وبإيجاب قضائه قال جميع الفقهاء سوى الأوزاعي فقال : إن كفر بالصوم لم يجب قضاؤه ، وإن كفر بالعتق أو الإطعام قضاه .

( الثالثة ) قد ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا أنه لا يجب على المرأة كفارة أخرى وبه قال أحمد . وقال مالك وأبو حنيفة وأبو ثور وابن المنذر : عليها كفارة أخرى وهي رواية عن أحمد .

( الرابعة ) هذه الكفارة على الترتيب فيجب عتق رقبة فإن عجز فصوم شهرين متتابعين فإن عجز فإطعام ستين مسكينا ، وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد في أصح الروايتين عنه .

وقال مالك : هو مخير بين الخصال الثلاث ، وأفضلها عنده الإطعام . وعن الحسن البصري أنه مخير بين عتق رقبة ونحر بدنة ، واحتجا بحديثين على وفق مذهبيهما . دليلنا حديث أبي هريرة . وأما حديث الحسن فضعيف جدا ، وحديث مالك يجاب بجوابين ( أحدهما ) حديثنا أصح وأشهر .

( والثاني ) أنه محمول على الترتيب جمعا بين الروايات .

( الخامسة ) يشترط في صوم هذه الكفارة عندنا وعند الجمهور التتابع وجوز ابن أبي ليلى تفريقه ، لحديث في صوم شهرين من غير ذكر الترتيب . دليلنا حديث أبي هريرة السابق وهو مقيد بالتتابع فيحمل المطلق عليه .

( السادسة ) إذا كفر بالإطعام فهو إطعام ستين مسكينا كل مسكين مد ، سواء البر والزبيب والتمر وغيرها . وقال أبو حنيفة : يجب لكل [ ص: 383 ] مسكين مدان حنطة أو صاع من سائر الحبوب ، وفي الزبيب عنه روايتان : رواية : صاع ، ورواية : مدان .

( السابعة ) لو جامع في صوم غير رمضان من قضاء أو نذر أو غيرهما فلا كفارة كما سبق وبه قال الجمهور ، وقال قتادة : تجب الكفارة في إفساد قضاء رمضان .

التالي السابق


الخدمات العلمية