صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويجوز للصائم أن ينزل الماء وينغطس فيه ; لما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال : { حدثني من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم صائف يصب على رأسه الماء من شدة الحر والعطش وهو صائم } . ويجوز أن يكتحل ; لما روي عن أنس " أنه كان يكتحل وهو صائم " ولأن العين ليس بمنفذ ، فلم يبطل الصوم بما يصل إليها ) .


( الشرح ) أما حديث أبي بكر بن عبد الرحمن هذا فصحيح رواه مالك في الموطأ ، وأحمد بن حنبل في مسنده وأبو داود والنسائي في سننهما ، والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين والبيهقي وغيرهم بأسانيد صحيحة وإسناد مالك وأبي داود والنسائي على شرط البخاري ومسلم ، ولفظ روايتهم " من شدة الحر أو العطش " وفي رواية النسائي " الحر " ولفظ رواية أبي داود عن أبي بكر عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حدثه قال : { لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب على رأسه الماء وهو صائم من [ ص: 387 ] العطش أو من الحر } هذا لفظه . وكذا لفظ الباقين مصرح بأن الذي حدث أبا بكر صحابي ، ولو ذكره المصنف كذلك لكان أحسن ، ولفظ رواية المصنف بمعناه ، فإن الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسلم صحابي . ثم إن هذا الصحابي وإن كان مجهول الاسم لا يقدح في صحة الحديث ; لأن الصحابة كلهم عدول . ولهذا احتج به مالك في الموطإ ، وسائر الأئمة . وأما الأثر المذكور عن أنس في الاكتحال فرواه أبو داود بإسناد كلهم ثقات إلا رجلا مختلفا فيه ، ولم يبين الذي ضعفه سبب تضعيفه ، مع أن الجرح لا يقبل إلا مفسرا وقول المصنف : ولأن العين ليس بمنفذ .

هكذا هو في نسخ المهذب ( ليس ) وهي لغة ضعيفة غريبة والمشهور الفصيح ليست بإثبات التاء . وأما المنفذ فبفتح الفاء .

( أما الأحكام ) ففيها مسألتان : ( إحداهما ) يجوز للصائم أن ينزل إلى الماء وينغطس فيه ويصبه على رأسه ، سواء كان في حمام أو غيره ولا خلاف في هذا ، ودليله الحديث الذي ذكره ، وحديث عائشة وغيرها في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان يصبح جنبا وهو صائم ثم يغتسل } ( الثانية ) يجوز للصائم الاكتحال بجميع الأكحال ولا يفطر بذلك سواء وجد طعمه في حلقه أم لا ; لأن العين ليست بجوف ولا منفذ منها إلى الحلق ، قال أصحابنا : ولا يكره الاكتحال عندنا ، قال البندنيجي وغيره : سواء تنخمه أم لا . فرع في مذاهب العلماء في الاكتحال ذكرنا أنه جائز عندنا ولا يكره ولا يفطر به ، سواء وجد طعمه في حلقه أم لا . وحكاه ابن المنذر عن عطاء والحسن البصري والنخعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور ، وحكاه غيره عن ابن عمر وأنس وابن أبي أوفى الصحابيين رضي الله عنهم وبه قال داود . وحكى [ ص: 388 ] ابن المنذر عن سليمان التيمي ومنصور بن المعتمر وابن شبرمة وابن أبي ليلى أنهم قالوا : يبطل به صومه . وقال قتادة : يجوز بالإثمد ويكره بالصبر . وقال الثوري وإسحاق : يكره .

قال مالك وأحمد : يكره وإن وصل إلى الحلق أفطر . واحتج للمانعين بحديث معبد بن هوذة الصحابي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم . وقال : ليتقه الصائم } رواه أبو داود وقال : قال لي يحيى بن معين : هو حديث منكر . واحتج أصحابنا بأحاديث ضعيفة نذكرها لئلا يغتر بها . منها حديث عائشة قالت : { اكتحل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم } رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف من رواية بقية عن سعيد بن أبي سعيد الزبيدي شيخ بقية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة . قال البيهقي : وسعيد الزبيدي هذا من مجاهيل شيوخ بقية ينفرد بما لا يتابع عليه ( قلت ) وقد اتفق الحفاظ على أن رواية بقية عن المجهولين مردودة . واختلفوا في روايته عن المعروفين فلا يحتج بحديثه هذا بلا خلاف . وعن أنس قال : { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اشتكت عيني أفأكتحل وأنا صائم ؟ قال : نعم } رواه الترمذي وقال : ليس إسناده بالقوي . قال : ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء . وعن نافع عن ابن عمر قال : { خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مملوءتان من الكحل وذلك في رمضان وهو صائم } في إسناده من اختلف في توثيقه . وعن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يكتحل بالإثمد وهو صائم } رواه البيهقي وضعفه ; لأن راويه محمد هذا ضعيف قال البيهقي : وروي عن أنس مرفوعا بإسناد ضعيف جدا أنه لا بأس به . واحتجوا بالأثر المذكور عن أنس وقد بينا إسناده . وفي سنن أبي داود [ ص: 389 ] عن الأعمش قال : ما رأيت أحدا من أصحابنا يكره الكحل للصائم ، والمعتمد في المسألة ما ذكره المصنف .

التالي السابق


الخدمات العلمية