صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويستحب أن يصوم يوم عاشوراء ، لحديث أبي قتادة ، ويستحب أن يصوم يوم تاسوعاء ; لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع } ) .


( الشرح ) حديث أبي قتادة سبق بيانه ولفظ مسلم فيه " { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال : [ ص: 433 ] يكفر السنة الماضية } وأما حديث ابن عباس فرواه مسلم بلفظه ، وفي رواية لمسلم زيادة قال : { فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم } وعاشوراء وتاسوعاء اسمان ممدودان ، هذا هو المشهور في كتب اللغة ، وحكي عن أبي عمرو الشيباني قصرهما . قال أصحابنا : عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم ، وتاسوعاء هو التاسع منه هذا مذهبنا ، وبه قال جمهور ، العلماء وقال ابن عباس : عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم ، ثبت ذلك في صحيح مسلم ، وتأوله على أنه مأخوذ من إظماء الإبل ، فإن العرب تسمي اليوم الخامس من أيام الورد ربعا - بكسر الراء - وكذا تسمي باقي الأيام على هذه النسبة فيكون التاسع على هذا عشرا - بكسر العين - والصحيح ما قاله الجمهور وهو أن عاشوراء هو اليوم العاشر وهو ظاهر الأحاديث ومقتضى إطلاق اللفظ ، وهو المعروف عند أهل اللغة .

( وأما ) تقدير أخذه من إظماء الإبل فبعيد ، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس ما يرد قوله ; لأنه قال : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم عاشوراء فذكروا أن اليهود والنصارى تصومه فقال صلى الله عليه وسلم : إنه في العام المقبل يصوم التاسع } وهذا تصريح بأن الذي كان يصومه صلى الله عليه وسلم ليس هو التاسع فتعين كونه العاشر ، واتفق أصحابنا وغيرهم على استحباب صوم عاشوراء وتاسوعاء .

وذكر العلماء من أصحابنا وغيرهم في حكمة استحباب صوم تاسوعاء أوجها : ( أحدها ) أن المراد منه مخالفة اليهود في اقتصارهم على العاشر ، وهو مروي عن ابن عباس ، وفي حديث رواه الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عباس قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { صوموا يوم عاشوراء ، وخالفوا اليهود وصوموا قبله يوما وبعده يوما } .

( الثاني ) أن المراد به وصل يوم عاشوراء بصوم ، كما نهى أن يصام يوم الجمعة وحده ، ذكرهما الخطابي وآخرون .

( الثالث ) الاحتياط في صوم العاشر خشية نقص الهلال ، ووقوع غلط فيكون التاسع في العدد هو العاشر في نفس الأمر .

( فرع ) اختلف أصحابنا في صوم يوم عاشوراء هل كان واجبا [ ص: 434 ] في أول الإسلام ؟ ثم نسخ ؟ أم لم يجب في وقت أبدا ؟ على وجهين مشهورين لأصحابنا وهما احتمالان ذكرهما الشافعي ( أصحهما ) وهو ظاهر مذهب الشافعي وعليه أكثر أصحابنا ، وهو ظاهر نص الشافعي ، بل صريح كلامه أنه لم يكن واجبا قط .

( الثاني ) أنه كان واجبا ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وأجمع المسلمون على أنه اليوم ليس بواجب ، وأنه سنة ، فأما دليل من قال : كان واجبا فأحاديث كثيرة صحيحة ( منها ) { أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا يوم عاشوراء إلى قومه يأمرهم فليصوموا هذا اليوم ، ومن طعم منهم فليصم بقية يومه } رواه البخاري ومسلم من رواية سلمة بن الأكوع ، وروياه في صحيحيهما بمعناه من رواية الربيع - بضم الراء وتشديد الياء - بنت معوذ . وعن عائشة قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام يوم عاشوراء قبل أن يفرض رمضان فلما فرض صيام رمضان ، كان من شاء صام عاشوراء ومن شاء أفطر } رواه البخاري ومسلم من طرق . وعن ابن عمر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوم عاشوراء والمسلمون قبل أن يفرض رمضان فلما افترض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شاء صام ومن شاء ترك } رواه مسلم .

وعن ابن مسعود في يوم عاشوراء قال : { إنما كان يوما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه ، نزل رمضان ، فلما نزل رمضان ترك } رواه مسلم وعن جابر بن سمرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم { يأمرنا بصيام عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده ، فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا ولم يتعهدنا عنده } رواه مسلم .

وعن أبي موسى الأشعري وعن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصيامه } رواهما البخاري ومسلم . قال أصحاب أبي حنيفة والأمر للوجوب : وقوله صلى الله عليه وسلم : { من شاء صام ومن شاء أفطر } دليل على تخييره مع أنه سنة اليوم ، فلو لم يكن قبل ذلك واجبا لم يصح التخيير . واحتج أصحابنا على أنه لم يكن واجبا بل كان سنة بأحاديث [ ص: 435 ] صحيحة ( منها ) حديث معاوية بن أبي سفيان { أنه يوم عاشوراء قال : وهو على المنبر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن هذا اليوم يوم عاشوراء ، ولم يكتب عليكم صيامه فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر } رواه البخاري ومسلم ، وقال البيهقي : وقوله { لم يكتب عليكم صيامه } يدل على أنه لم يكن واجبا قط ; لأن " لم " لنفي الماضي ، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { يوم عاشوراء يوم كان يصومه أهل الجاهلية فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه ، ومن كرهه فليدعه } رواه مسلم . وعن عائشة قالت : { كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شاء صام ومن شاء تركه } رواه مسلم ( وأما ) الجواب عن الأحاديث فهو أنها محمولة على تأكد الاستحباب جمعا بين الأحاديث ، وقوله : " فلما فرض رمضان ترك " أي ترك تأكد الاستحباب وكذا قوله : { فمن شاء صام ومن شاء أفطر } .

التالي السابق


الخدمات العلمية