صفحة جزء
[ ص: 479 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويكره أن يصوم يوم الجمعة وحده ، فإن وصله بيوم قبله أو بيوم بعده لم يكره ; لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده } ) .


( الشرح ) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم ، وفي المسألة أحاديث أخر ، من ذلك حديث محمد بن عباد قال : { سألت جابرا أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة ؟ قال : نعم } رواه البخاري ومسلم . وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { لا تخصوا ليلة الجمعة بصيام من بين سائر الليالي ، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم } رواه مسلم . وعن جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة ، فقال : أصمت أمس ؟ قالت : لا ، قال : أتريدين أن تصومي غدا ؟ قالت : لا ، قال : فأفطري } رواه البخاري . وعن ابن مسعود قال : " { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام ، وقلما كان يفطر يوم الجمعة } رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم ، قال الترمذي : " حديث حسن ، قال أصحابنا : يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم فإن وصله بصوم قبله أو بعده أو وافق عادة له بأن نذر صوم يوم شفاء مريضه ، أو قدوم زيد أبدا ، فوافق الجمعة لم يكره " لحديث أبي هريرة وغيره مما سبق ، هذا الذي ذكرته من كراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم هو الصحيح المشهور ، وبه قطع المصنف والجمهور .

وقال القاضي أبو الطيب في المجرد : روى المزني في الجامع الكبير عن الشافعي أنه قال : لا أستحب صوم يوم الجمعة لمن كان إذا صامه منعه من الصلاة ما لو كان مفطرا فعله ، هذا نقل القاضي ، وقال [ ص: 480 ] صاحب الشامل : وذكر في جامعه قال الشافعي : ولا يبين لي أن أنهى عن صوم يوم الجمعة إلا على اختيار لمن كان إذا صامه منعه عن الصلاة التي لو كان مفطرا فعلها . قال صاحب الشامل : وذكر الشيخ أبو حامد في التعليق أنه يكره صومه مفردا قال : وهذا خلاف ما نقله المزني ، قال : وحمل الشافعي الأحاديث الواردة في النهي على من كان الصوم يضعفه ويمنعه عن الطاعة . هذا كلام صاحب الشامل ، ونقل ابن المنذر عن الشافعي هذا الذي قاله صاحب الشامل مختصرا ، ولم يذكر عنه غيره ، وقد قال صاحب البيان : في كراهة إفراده بالصوم وجهان ( المنصوص ) الجواز ، ويحتج لظاهر ما قاله الشافعي ، واختاره صاحب الشامل بحديث ابن مسعود السابق ، ومن قال بالمذهب المشهور أجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم الخميس فوصل الجمعة به ، وهذا لا كراهة فيه بلا خلاف .

( فرع ) قال الأصحاب وغيرهم : الحكمة في كراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم أن الدعاء فيه مستحب ، وهو أرجى فهو ، يوم دعاء وذكر وعبادة من الغسل والتبكير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة وإكثار الذكر بعدها لقوله تعالى { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا } ويستحب فيه أيضا الإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من العبادات في يومها فاستحب له الفطر فيه ليكون أعون على هذه الطاعات وأدائها بنشاط وانشراح والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة ، وهو نظير الحاج بعرفات فإن الأولى له الفطر كما سبق لهذه الحكمة ، ( فإن قيل ) : لو كان كذلك لم تزل الكراهة بصيام قبله أو بعده لبقاء المعنى الذي نهى بسببه .

( فالجواب ) : أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه ، فهذا هو المعتمد في كراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم . [ ص: 481 ] وقيل : سببه خوف المبالغة في تعظيمه بحيث يفتتن به كما افتتن قوم بالسبت ، وهذا باطل منتقض بصلاة الجمعة وسائر ما شرع في يوم الجمعة مما ليس في غيره من التعظيم والشعائر ، وقيل بسببه لئلا يعتقد وجوبه ، وهذا باطل ومنتقض بيوم الاثنين فإنه يندب صومه ولا يلتفت إلى هذا الخيال البعيد وبيوم عرفة وعاشوراء وغير ذلك ، فالصواب ما قدمناه ، والله أعلم . فرع في مذاهب العلماء في إفراد يوم الجمعة بالصوم . قد ذكرنا أن المشهور من مذهبنا كراهته . وبه قال أبو هريرة والزهري وأبو يوسف وأحمد وإسحاق وابن المنذر .

وقال مالك وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن : لا يكره ، قال مالك في : " الموطأ لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة ، وصيامه حسن . قال : وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه " فهذا كلام مالك وقد يحتج لهم بحديث ابن مسعود السابق ودليلنا عليهم الأحاديث الصحيحة السابقة في النهي ، وسبق الجواب عن حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الخميس والجمعة فلا يفرده . وأما قول مالك في الموطأ : أنه ما رأى من ينهى فيعارضه ، أن غيره رأى ، فالسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره وقد ثبتت الأحاديث بالنهي عن إفراده فيتعين العمل بها لعدم المعارض لها ومالك معذور فيها فإنها لم تبلغه . قال الداودي من أصحاب مالك : لم يبلغ مالكا حديث النهي ولو بلغه لم يخالفه .

( فرع ) يكره إفراد يوم السبت بالصوم ، فإن صام قبله أو بعده معه لم يكره صرح بكراهة إفراده أصحابنا ، منهم الدارمي والبغوي والرافعي وغيرهم ; لحديث عبد الله بن بسر - بضم الباء الموحدة والسين المهملة - عن أخته الصماء رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا تصوموا يوم السبت إلا [ ص: 482 ] فيما افترض عليكم ، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي وغيرهم ، وقال الترمذي : هو حديث حسن ، قال ومعنى النهي أن يختصه الرجل بالصيام ; لأن اليهود يعظمونه . وقال أبو داود : هذا الحديث منسوخ . وليس كما قال .

وقال مالك : هذا الحديث كذب وهذا القول لا يقبل ، فقد صححه الأئمة قال الحاكم أبو عبد الله : هو حديث صحيح على شرط البخاري ، قال : وله معارض صحيح وهو حديث جويرية السابق في صوم يوم الجمعة قال : وله معارض آخر بإسناد صحيح . ثم روى بإسناده { عن كريب مولى ابن عباس أن ابن عباس وناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوه إلى أم سلمة يسألها أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما لها ؟ قالت : يوم السبت والأحد ، فرجعت إليهم فأخبرتهم ، فكأنهم أنكروا ذلك ، فقاموا بأجمعهم إليها فقالوا : إنا بعثنا إليك هذا في كذا وكذا فذكر أنك قلت كذا وكذا ، فقالت : صدق ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد ، وكان يقول إنهما يوما عيد للمشركين ، وأنا أريد أن أخالفهم } هذا آخر كلام الحاكم . وحديث أم سلمة هذا رواه النسائي أيضا والبيهقي وغيرهما . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : " { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس } رواه الترمذي وقال حديث حسن والصواب على الجملة ما قدمناه عن أصحابنا أنه يكره إفراد السبت بالصيام إذا لم يوافق عادة له ; لحديث الصماء .

وأما قول أبي داود : إنه منسوخ فغير مقبول ، وأي دليل على نسخه ؟ وأما الأحاديث الباقية التي ذكرناها في صيام السبت فكلها واردة في صومه مع الجمعة والأحد فلا مخالفة فيها لما قاله أصحابنا من كراهة إفراد السبت . [ ص: 483 ] وبهذا يجمع بين الأحاديث ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الصماء ( لحاء عنبة ) - هو بكسر اللام وبالحاء المهملة وبالمد - وهو قشر الشجر ويمضغه - بفتح الضاد وضمها لغتان . .

التالي السابق


الخدمات العلمية