صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز أن يصوم أيام التشريق صوما غير صوم التمتع ، فإن صام لم يصح صومه ، لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن صيام ستة أيام ، يوم الفطر ، ويوم النحر ، وأيام التشريق ، واليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان } وهل يجوز للمتمتع صومه ؟ فيه قولان ، قال في القديم : يجوز ، لما روي عن ابن عمر وعائشة أنهما قالا : " لم يرخص في أيام التشريق إلا لمتمتع لم يجد الهدي " وقال في الجديد : لا يجوز ; لأن كل يوم لا يجوز فيه صوم غير المتمتع لم يجز فيه صوم التمتع كيوم العيد ) .


[ ص: 484 ] الشرح حديث أبي هريرة هذا رواه البيهقي بإسناد ضعيف عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم " { نهى عن صيام قبل رمضان بيوم والأضحى والفطر وأيام التشريق ثلاثة بعد يوم النحر } هذا لفظه وضعف إسناده ، ويغني عنه حديث نبيشة - بضم النون وفتح الباء الموحدة ثم ياء مثناة تحت ساكنة ثم شين معجمة - الصحابي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى } رواه مسلم . وعن كعب بن مالك " { أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه وأنس بن الحدثان أيام التشريق فنادى أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، وأيام التشريق أيام أكل وشرب } رواه مسلم . وعن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام ، وهي أيام أكل وشرب } رواه أبو داود والترمذي والنسائي قال الترمذي : حديث حسن صحيح وعن عمرو بن العاص قال : { هذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإفطارها وينهى عن صيامها . قال مالك : هي أيام التشريق } رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم . وأما ما ذكره المصنف عن ابن عمر وعائشة في صوم المتمتع فصحيح ، رواه البخاري في صحيحه ، ولفظه عن عائشة وابن عمر قالا : " لم يرخص في أيام التشريق أن يضمن إلا لمن لم يجد الهدي " وفي رواية للبخاري عنهما قالا : " الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة ، فإن لم يجد هديا ولم يصم صام أيام منى " فالرواية الأولى مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنها بمنزلة قول الصحابي : " أمرنا بكذا ونهينا عن كذا ورخص لنا في كذا " وكل هذا وشبهه مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة قوله : قال صلى الله عليه وسلم كذا .

وقد سبق بيان هذا في مقدمة هذا الشرح ، ثم في مواضع . وأيام التشريق هي الثلاثة التي بعد النحر ويقال لها : أيام منى ; لأن الحجاج يقيمون فيها بمنى ، واليوم الأول يقال له : يوم القر - بفتح القاف - لأن الحجاج يقرون فيه بمنى ، والثاني يوم النفر الأول ; لأنه يجوز النفر فيه لمن تعجل ، والثالث يوم النفر الثاني . وسميت أيام التشريق ; لأن الحجاج يشرقون فيها [ ص: 485 ] لحوم الأضاحي والهدايا - أي ينشرونها ويقددونها - وأيام التشريق هي الأيام المعدودات .

( أما حكم المسألة ) ففي صوم أيام التشريق قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أحدهما ) وهو الجديد لا يصح صومها لا لمتمتع ولا غيره ، هذا هو الأصح عند الأصحاب .

( والثاني ) وهو القديم يجوز للمتمتع العادم الهدي صومها عن الأيام الثلاثة الواجبة في الحج ، فعلى هذا هل يجوز لغير المتمتع أن يصومها ؟ فيه وجهان مشهوران في طريقة الخراسانيين وذكرهما جماعات من العراقيين ، منهم القاضي أبو الطيب في المجرد والبندنيجي والمحاملي في كتابيه المجموع والتجريد وآخرون منهم ( أصحهما ) عند جميع الأصحاب لا يجوز ، وبه قطع المصنف وكثيرون أو الأكثرون ; لعموم الأحاديث في منع صومها ، وإنما رخص للمتمتع ( والثاني ) يجوز . قال المحاملي في كتابيه وصاحب العدة : هذا القائل بالجواز هو أبو إسحاق المروزي قال أصحابنا الذين حكوا هذا الوجه : " إنما يجوز في هذه الأيام صوم له سبب من قضاء أو نذر أو كفارة أو تطوع له سبب " فأما تطوع لا سبب له فلا يجوز فيها بلا خلاف . كذا نقل اتفاق الأصحاب عليه القاضي أبو الطيب والمحاملي والسرخسي وصاحب العدة وآخرون .

وأكثر القائلين قالوا : هو نظير الأوقات المنهي عن الصلاة فيها ، فإنه يصلي فيها ما لها سبب دون ما لا سبب لها . قال السرخسي : مبنى الخلاف على أن إباحتها للمتمتع للحاجة ، أو لكونها سببا . وفيه خلاف لأصحابنا من علل بالحاجة ، خصه بالمتمتع فلم يجوزها لغيره ومن علل بالسبب جوز صومها عن كل صوم له سبب دون ما لا سبب له ، قال السرخسي : وعلى هذا الوجه لو نذر صومها بعينها فهو كنذر صوم يوم الشك ، وسبق بيانه ، هذا هو المشهور في المذهب أن الوجه القائل بجواز الصوم في أيام التشريق لغير المتمتع مختص بصوم له سبب ، ولا يصح فيها ما لا سبب له بالاتفاق . [ ص: 486 ] وقال إمام الحرمين : اختلف أصحابنا في التفريع على القديم ، فقال بعضهم : لا تقبل هذه غير صوم المتمتع لضرورة تختص به ، وقال آخرون . إنها كيوم الشك ، ثم ذكر متصلا به في يوم الشك أنه إن صامه بلا سبب فهو منهي عنه ، وفي صحته وجهان ، وقد سبق بيان ذلك .

( واعلم ) أن الأصح عند الأصحاب هو القول الجديد أنها لا يصح فيها صوم أصلا ، لا للتمتع ولا لغيره ( والأرجح ) في الدليل صحتها للتمتع وجوازها له ، لأن الحديث في الترخيص له صحيح كما بيناه وهو صريح في ذلك فلا عدول عنه . وأما قول صاحب الشامل في كتاب الحج : إنه حديث ضعيف ، فباطل مردود ; لأنه رواه من جهة ضعيفة وضعفه بذلك السبب ، والحديث صحيح ثابت في صحيح البخاري بإسناده المتصل من غير الطريق الذي ذكره صاحب الشامل ، وإنما ذكرت كلام صاحب الشامل لئلا يغتر به .

فرع في مذاهب العلماء في صوم أيام التشريق . قد ذكرنا مذهبنا فيها ، وأن الجديد أنه لا يصح فيها صوم ( والقديم ) صحته لمتمتع لم يجد الهدي ، وممن قال به من السلف العلماء بامتناع صومها للمتمتع ولغيره علي بن أبي طالب وأبو حنيفة وداود وابن المنذر ، وهو أصح الروايتين عن أحمد وحكى ابن المنذر جواز صومها للمتمتع وغيره عن الزبير بن العوام وابن عمر وابن سيرين ، وقال ابن عمر وعائشة والأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق في رواية عنه : يجوز للمتمتع صومها . .

التالي السابق


الخدمات العلمية