صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويجوز أن يخرج لحاجة الإنسان ولا يبطل اعتكافه ; لحديث عائشة رضي الله عنها ولأن ذلك خروج لما لا بد منه فلم يمنع منه ، وإن كان للمسجد سقاية ، لم يلزمه قضاء الحاجة فيها ; لأن ذلك نقصان مروءة وعليه في ذلك مشقة فلم يلزمه ، وإن كان بقربة بيت صديق له ، لم [ ص: 527 ] يلزمه قضاء الحاجة فيه ; لأنه ربما احتشم وشق عليه فلم يكلف ذلك ، وإن كان له بيتان قريب وبعيد ففيه وجهان ( أظهرهما ) أنه لا يجوز أن يمضي إلى البعيد ، فإن خرج إليه بطل اعتكافه ; لأنه لا حاجة به إليه فأشبه إذا خرج لغير حاجة . وقال أبو علي بن أبي هريرة : يجوز أن يمضي إلى الأبعد ولا يبطل اعتكافه ; لأنه خروج لحاجة الإنسان فأشبه إذا لم يكن له غيره ) .


( الشرح ) حديث عائشة سبق بيانه وفي الفصل مسائل : ( إحداها ) يجوز الخروج لحاجة الإنسان وهي البول والغائط وهذا لا خلاف فيه . وقد نقل ابن المنذر والماوردي وغيرهما إجماع المسلمين على هذا . قال أصحابنا : وله أيضا الخروج لغسل الاحتلام بلا خلاف ، ودليلهما في الكتاب .

( الثانية ) إذا كان للمسجد سقاية لم نكلفه قضاء الحاجة فيها ، بل له الذهاب إلى داره ، وكذا لو كان بجنبه دار صديق له وأمكنه دخولها لم نكلفه ذلك ; لما ذكره المصنف .

( الثالثة ) إذا كان له بيتان أحدهما أقرب وكل واحد منهما بحيث لو انفرد جاز الذهاب إليه فهل يجوز الذهاب إلى الأبعد ؟ فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) عنده وعند غيره لا يجوز ، اتفق الأصحاب على تصحيحه ، والله أعلم .

( فرع ) إذا كانت داره بعيدة بعدا فاحشا - فإن لم يجد في طريقه موضعا كسقاية أو بيت صديق يأذن فيه - فله الذهاب إلى داره وجها واحدا ; لأنه مضطر إلى ذلك ، وإن وجد وكان لا يليق به دخول غير داره فله الذهاب إلى داره ، أيضا بلا خلاف وإلا فوجهان مشهوران ، حكاهما البندنيجي والدارمي والفوراني وإمام الحرمين والبغوي والسرخسي وصاحبا العدة والبيان وآخرون ( أصحهما ) لا يجوز الذهاب إلى غير داره ; لأنه يذهب جملة مقصودة من أوقات الاعتكاف في الذهاب والمجيء وهو غير مضطر إليه . [ ص: 528 ] والثاني ) يجوز ; لأنه يشق قضاء الحاجة في غير بيته ، وهذا الوجه هو ظاهر نص الشافعي فإنه قال في المختصر : ويخرج المعتكف للغائط والبول إلى منزله وإن بعد ، وممن جزم بهذا الوجه المحاملي والماوردي وهو ظاهر كلام المصنف وشيخه القاضي أبي الطيب ، وممن جزم بالأول الشيخ أبو حامد والصيدلاني ، وهو ظاهر كلام صاحب الشامل وغيره ، وصححه البندنيجي والرافعي وغيره ، قال الشيخ أبو حامد في التعليق : هذه اللفظة التي نقلها المزني وهي قوله : وإن بعد ، لا أعرفها للشافعي ، وتأولها غير أبي حامد على ما إذا كان المنزل بعيدا غير متفاحش ، والله أعلم .

وذكر المتولي طريقة تخالف ما ذكرناه عن الجمهور في بعضها ، فقال : إن كان المنزل بعيدا عن المسجد أو لم يجد غيره فله الذهاب إليه ، وإن وجد غيره كسقاية مسبلة - فإن كان عادة مثله قضاء الحاجة في السقاية المذكورة - لم يجز الذهاب إلى منزله ، فإن ذهب بطل اعتكافه المتتابع ، فإن لم يكن ممن عادة مثله قضاء الحاجة في السقاية فوجهان ، قال : وهما شبيهان بالوجهين فيمن هدد بما يذهب مروءته على فعل شيء ففعله ، هل يكون ذلك إكراها أم لا ؟ والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا لا يشترط في الخروج لقضاء الحاجة شدة الحاجة ; لأن في اعتباره ضررا بينا ، ونقل إمام الحرمين اتفاق الأصحاب على هذا .

( فرع ) قال أصحابنا : إذا خرج لقضاء الحاجة لا يكلف الإسراع ، بل له المشي على عادته . قال المتولي ويكره له أن ينقص عن عادة مشيه ; لأنه لا مشقة في تكليفه المشي على العادة ، فلو خرج في الثاني عن حد عادته من غير عذر بطل اعتكافه على الصحيح ، ذكره المتولي والروياني في البحر .

( فرع ) لو كثر خروجه للحاجة لعارض يقتضيه ، كإسهال ونحوه فوجهان ، حكاهما إمام الحرمين ( أصحهما ) وهو مقتضى إطلاق الجمهور لا يضره ، نظرا إلى جنسه .

( والثاني ) يقطع التتابع لندوره ، والله أعلم .

[ ص: 529 ] فرع ) أوقات الخروج لقضاء الحاجة لا يجب تداركها ، وقضاؤها في الاعتكاف المنذور لعلتين ( أحدهما ) أن الاعتكاف مستمر فيها على الصحيح من وجهين حكاهما المتولي وغيره ، وبهذا الصحيح قطع آخرون ، قالوا : ولهذا لو جامع في أثناء طريقه في الخروج لقضاء الحاجة من غير مكث بطل اعتكافه على الصحيح ، ويتصور ذلك بأن يذهب لقضاء الحاجة راكبا مع المرأة في هودج ونحوه . وصوروه أيضا في وقفة لطيفة جدا ( والعلة الثانية ) أن زمن الخروج لقضاء الحاجة مستثنى ; لأنه ضروري ، والله أعلم .

( فرع ) إذا خرج لقضاء الحاجة في اعتكاف منذور متتابع ثم عاد ففي اشتراط تجديد النية طريقان ( المذهب ) أنه لا يشترط ; لأن الأولى باقية حكما ، كما لا يجب تجديد النية في ركعات الصلاة ولا في أعضاء الوضوء وأفعال الحج ( والطريق الثاني ) أن قرب الزمان لم يشترط التجديد وإلا فوجهان .

( فرع ) إذا فرغ من قضاء الحاجة واستنجى فله أن يتوضأ خارج المسجد ; لأن ذلك يقع تابعا . ونقل إمام الحرمين الاتفاق على هذا ( وأما ) إذا احتاج إلى الوضوء لغير بول وغائط ومن غير حاجة إلى استنجاء - فإن لم يمكنه في المسجد - جاز الخروج له ولا يقطع الاعتكاف . وإن أمكنه في المسجد فوجهان حكاهما إمام الحرمين وغيره ( أصحهما ) لا يجوز الخروج له . ونقله الإمام عن الأكثرين ثم ، قال : ولا شك أن هذا الخلاف في الوضوء الواجب يعني أن التجديد لا يجوز الخروج له وجها واحدا . وقد صرح صاحب الشامل بامتناع الخروج لتجديد الوضوء ولم يذكر فيه خلافا .

( فرع ) قد ذكرنا أن زمن الخروج لقضاء الحاجة لا يقطع التتابع ولا يؤثر في الاعتكاف ، ولكن هل يكون ذلك الزمان محسوبا من الاعتكاف ؟ ويعد في حال خروجه للحاجة إلى أن يرجع إلى المسجد معتكفا ؟ فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين والمتولي وغيرهما .

( أحدهما ) لا يكون في ذلك معتكفا . قال المتولي : لأنه مشغول بضده ، فلا يكون معتكفا ، ولكنه زمن مستثنى من الاعتكاف ، كما أن أوقات الصلوات تكون مستثناة من زمن الإجارة .

( والثاني ) يكون معتكفا تلك الحال ، [ ص: 530 ] لأنه لو جامع في تلك الحال أو استمتع بقبلة أنزل - وقلنا بتأثير ذلك - بطل اعتكافه على المذهب - وبه قطع المتولي وغيره ، ولولا أنه معتكف حينئذ لم يبطل ; لأن مفسد العبادة إذا لم يصادفها لا ، يفسدها كوطء الصائم في ليالي رمضان هذا معنى كلام المتولي . وأوضح إمام الحرمين هذين الوجهين فقال : اتفق الأصحاب على أن أوقات قضاء الحاجة لا تؤثر في قطع التتابع . وإن بلغت ما بلغت . قال . حتى قال طوائف من المحققين : إن الخارج لقضاء الحاجة معتكف وإن لم يكن في المسجد . واستدلوا بالاعتداد بهذا الزمان وكان يمكن أن لا يعتد به ، وإن حكم بأن التتابع لا يقطع . واستدلوا أيضا بأنه لو جامع في حال خروجه لقضاء الحاجة فله اعتكافه وكان من الممكن أن يقال : لا يفسد ويعد الجماع الواقع فيه كالجماع الواقع في ليالي الصيام المتتابع ، وقال القائلون : ليس الخارج معتكفا . ولكن زمان خروجه مستثنى وكأنه قال : لله علي اعتكاف عشرة أيام إلا أوقات خروجي لقضاء الحاجة . وأجابوا عن الجماع وحملوا كونه مفسدا على اشتغال الخارج بما لا يتعلق بحاجته ، وقد يقولون : لو عاد مريضا ينقطع تتابعه وإن كان خروجه لقضاء الحاجة كما سنفصله حتى لو فرض الجماع مع الاشتغال بقضاء الحاجة على بعد في تصويره لم يفسد الاعتكاف ، وهذا بعيد ، والصحيح أنه يفسد الاعتكاف ، وإن قلنا : إنه غير معتكف ، فإنه عظيم الموقع في الشريعة ، وهو وإن قرب زمانه أظهر تأثيرا من عيادة المريض .

وقد ذكر الأصحاب أن الخارج لقضاء الحاجة إن عاد مريضا في طريقه ، ولم يحتج إلى الازورار فلا بأس بذلك ، ولو ازور وعاد المريض انقطع التتابع ، وإن قرب الزمان على وجه كان يحتمل مثله في الأناة فإن هذا يقدح في القصد المجرد إلى قضاء الحاجة . ذكر الأصحاب أن الخارج لقضاء الحاجة لو أكل لقما فلا بأس إذا لم يجد كل مقصوده ، ولم يظهر طول زمان معتبر ، والجماع في هذا الوقت مؤثر بلا خلاف ومن تكلف تصويره فرضه في جريانه مع الاشتغال بالذهاب لقضاء الحاجة ، هذا آخر كلام إمام الحرمين .

[ ص: 531 ] فرع ) لو جامع الخارج لقضاء الحاجة في مروره بأن كان في هودج أو جامع في وقفة يسيرة أو قبل امرأته بشهوة وأنزل وقلنا بالمذهب : إنه يؤثر ، ففي بطلان اعتكافه وجهان سبقا في كلام إمام الحرمين وذكرهما آخرون ( أصحهما ) بطلان اعتكافه وبه قطع المتولي وآخرون ; لأنه أشد منافاة للاعتكاف ، ممن أطال الوقوف لعيادة مريض ( والثاني ) لا يبطل ; لأنه لم يصرف إليه زمنا وليس هو في هذه الحالة معتكفا على أحد الوجهين كما سبق ، والله أعلم . .

التالي السابق


الخدمات العلمية