صفحة جزء
[ ص: 532 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( وفي الخروج إلى المنارة الخارجة عن رحبة المسجد ليؤذن ثلاثة أوجه ( أحدها ) يجوز ، وإن خرج لم يبطل اعتكافه ; لأنها بنيت للمسجد فصارت كالمنارة التي في رحبة الجامع ( والثاني ) لا يجوز ; لأنها خارجة من المسجد فأشبهت غير المنارة ، وقال أبو إسحاق المروزي : إن كان المؤذن ممن يألف الناس صوته جاز أن يخرج ولا يبطل اعتكافه ; لأن الحاجة تدعوا إليه لإعلام الناس بالوقت ، وإن لم يألفوا صوته لم يخرج فإن خرج بطل اعتكافه لأنه لا حاجة إليه ) .


( الشرح ) قال الشافعي رحمه الله تعالى في المختصر : ولا بأس إذا كان مؤذنا أن يصعد المنارة وإن كان خارجا ، هذا نصه . قال أصحابنا : للمنارة حالان ( أحدهما ) أن تكون مبنية في المسجد أو في رحبته . أو يكون بابها في المسجد أو رحبته المتصلة به فلا يضر المعتكف صعودها ، سواء صعدها للأذان أو غيره كسطح المسجد . هكذا قال الجمهور أنه لا فرق بين أن تكون المنارة في المسجد أو رحبته أو بابها متصلا بالمسجد أو رحبته . وإن كانت خارجة عن سمت البناء وتربيعه فلا يبطل الاعتكاف بصعودها بلا خلاف ، سواء صعدها المؤذن أو غيره ، هكذا صرح به الأصحاب واتفقوا عليه ، ونقله إمام الحرمين عن الأصحاب فقال : لو كانت المنارة خارجة عن سمت المسجد متصلة به وبابها لاط ، فقد قطع الأصحاب بأن صعودها لا يقطع التتابع ، وإن كانت لا تعد من المسجد ، ولو اعتكف فيها لم يصح ; لأن حريم المسجد لا يثبت له حكم المسجد في صحة الاعتكاف فيه ، وتحريم المكث فيه على الجنب ولكن النص قاطع بما ذكرته ولم أر فيه خلافا مع الاحتمال الظاهر ، لأن الخارج إليها خارج إلى بقعة لا تصلح للاعتكاف ، هذا كلام الإمام . واختصره الرافعي فقال : وأبدى إمام الحرمين احتمالا في الخارجة عن سمته قال : لأنها حينئذ لا تعد من المسجد ، ولا يصح الاعتكاف فيها ، قال الرافعي : وكلام الأصحاب ينازعه فيما استدل به وهذا الذي قاله الرافعي صحيح ، وسيأتي في كلام المحاملي وغيره في فرع بعد هذا التصريح بخلاف ما استدل به إمام الحرمين رحمه الله تعالى ، والله تعالى أعلم .

[ ص: 533 ] الحال الثاني ) أن لا يكون بابها في المسجد ولا رحبته المتصلة به بل تكون منفصلة عنهما ، فلا يجوز للمعتكف الخروج إليها لغير الأذان بلا خلاف ، وفي المؤذن أوجه ( أصحها ) لا يبطل في المؤذن الراتب في المسجد ويبطل في غيره ( والثاني ) يبطل فيهما ( والثالث ) لا يبطل فيهما ، وهذا ظاهر النص كما سبق ، وهو مقتضى إطلاق المصنف في التنبيه ، لكن يتأول كلامه على موافقة الأكثرين في الفرق بين المؤذن الراتب وغيره ، فيقال : مراده إذا كان المؤذن راتبا ، وهكذا يحمل قول المحاملي في المجموع وقول القاضي أبي الطيب في المجرد ، فإنهما قالا : إذا كانت المنارة خارجة عن المسجد والرحبة فالذي عليه عامة أصحابنا أن له صعودها للأذان ، ولا يضره في اعتكافه ، قالا : وهو ظاهر نص الشافعي ، قال : ومن منعه تأول نص الشافعي على ما إذا كانت المنارة في الرحبة ، فالحاصل أن من قال : لا يبطل الاعتكاف بصعود المنارة المنفصلة ، أخذ بظاهر نص الشافعي ومن قال : يبطل ، حمله على المنارة التي في رحبة المسجد . قال المتولي : وهذا القائل يقول : إنما قال الشافعي : وإن كانت خارجا ; لأن الناس في العادة لا يعدون الرحبة من المسجد ، ومن فرق بين المؤذن الراتب وغيره حمل النص على الراتب ، وقد قدمنا أن الفرق بين الراتب وغيره هو الأصح ، وممن صححه البغوي والرافعي .

( واعلم ) أن صورة المسألة في منارة قريبة من المسجد مبنية له ، فأما غيرها فيبطل اعتكافه بالذهاب إليها بلا خلاف ، وسواء الراتب وغيره ، هكذا صرح به جميع الأصحاب منهم الماوردي والسرخسي وآخرون ، وهو المفهوم من كلام المحاملي وابن الصباغ وصاحب العدة وغيرهم . وأما قول الرافعي : فرض الغزالي المسألة ، والخلاف فيما إذا كان باب المنارة خارج المسجد وهي ملصقة بحريمه ، قال : ولم يشترط الجمهور في صورة الخلاف سوى كون بابها خارج المسجد ، قال : وزاد أبو القاسم الكرخي - بالخاء المعجمة - فذكر الخلاف فيما إذا كانت المنارة في رحبة منفصلة عن المسجد ، بينها وبينه طريق . فهذا الذي ذكر الرافعي لا يخالف ما نقلته من اتفاق الأصحاب ; لأن مراده أنهم لم يشرطوا ما شرطه الغزالي ، والله أعلم .

[ ص: 534 ] فرع ) قال القاضي أبو الطيب في المجرد - قال الشافعي في البويطي - ويصح الاعتكاف في المنارة ( قلت ) هذا محمول على منارة في رحبة المسجد أو بابها إليها كما سبق .

( فرع ) قد ذكرنا أن المنارة التي في رحبة المسجد يجوز للمؤذن وغيره صعودها ، ولا يبطل الاعتكاف بذلك ، نص عليه الشافعي ، واتفق الأصحاب عليه . ومن المهم بيان حقيقة هذه الرحبة . قال صاحب الشامل والبيان : المراد بالرحبة ما كان مضافا إلى المسجد محجرا عليه ، قالا : والرحبة من المسجد ، قال صاحب البيان وغيره : وقد نص الشافعي على صحة الاعتكاف في الرحبة . قال القاضي أبو الطيب في المجرد : قال الشافعي : يصح الاعتكاف في رحاب المسجد لأنها من المسجد .

وقال المحاملي في المجموع : للمنارة أربعة أحوال : ( إحداها ) أن تكون مبنية داخل المسجد فيستحب الأذان فيها ; لأنه طاعة .

( الثانية ) أن تكون خارج المسجد إلا أنها في رحبة المسجد فالحكم فيها كما لو كانت في المسجد ، لأن رحبة المسجد من المسجد ، ولو اعتكف فيها صح اعتكافه .

( الثالثة ) أن تكون خارج المسجد وليست في رحبته ، إلا أنها متصلة ببناء المسجد ولها باب إلى المسجد فله أن يؤذن فيها ; لأنها متصلة بالمسجد ومن جملته .

( والرابعة ) أن تكون خارج المسجد غير متصلة به ، ففيها الخلاف السابق هذا كلام المحاملي بحروفه وفيه فوائد ، وعبارة شيخه أبي حامد في التعليق نحو هذا وكلام غيرهما نحوه ، وفيه التصريح بخلاف ما استدل بل إمام الحرمين في المنارة المتصل بابها بالمسجد كما قدمناه عنه قريبا ، ووعدنا بذكر التصريح بنقل خلافه ، والله تعالى أعلم .

فرع اتفق الأصحاب على أن المأموم لو صلى في رحبة المسجد مقتديا بالإمام الذي في المسجد صحت صلاته ، وإن حال بينهما حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة لم يضره ، لأن الرحب من المسجد كما سبق ، ومما يتعلق بهذا هذا الموضع الذي هو باب جامع دمشق وهو باب [ ص: 535 ] الساعات ، فلو صلى المأموم تحت الساعات بصلاة الإمام في الجامع هل تصح صلاته ؟ يصح ; لأن هذا الموضع رحبة المسجد . وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : لا يصح لأنه ليس برحبة وإنما الرحبة صحن الجامع ، وطال النزاع بينهما وصفا فيه ، والصحيح قول ابن عبد السلام ، وهو الموافق لما قدمناه من كلام المحاملي وابن الصباغ وصاحب البيان وغيرهم ، وقد تأملت ما صنفه أبو عمرو واستدلاله ، فلم أر فيه دلالة على المقصود والله تعالى أعلم ( فرع ) لو دخل المؤذن المعتكف إلى حجرة مهيأة للسكنى بجنب المسجد ، وبابها إلى المسجد بطل اعتكافه بلا خلاف ، صرح بالاتفاق عليه إمام الحرمين ، قال : وإنما قلنا ما قلنا في المنارة ; لأنها مبنية لإقامة شعار المسجد ، والله أعلم .

( فرع ) المنارة هنا - بفتح الميم - بلا خلاف ، وكذلك منارة السراج - بفتح الميم - بلا خلاف وجمعهما مناور ومنائر بهمزة بعد الألف ، والأصل مناور بالواو ، لأنها من النور ، قال الجوهري : من قال : مناور بالواو ; لأنه من النور ، ومن قال : منائر بالهمز فقد شبه الأصلي بالزائد ، كما قالوا : مصائب ، وأصله مصاوب ، والمنارة مفعلة من الاستنارة ، وقال صاحب المحكم جمعها مناور على القياس ، ومنائر على غير القياس قال ثعلب : من همز شبه الأصلي بالزائد ، وأما سيبويه فيحمل ما همز من هذا على الغلط .

( فرع ) رحبة المسجد ، قال الجوري : وهي بفتح الحاء وجمعها رحب ورحاب ورحبات كقصبات . .

التالي السابق


الخدمات العلمية