صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن تعين عليه أداء شهادة لزمه الخروج لأدائها ، لأنه تعين لحق آدمي ، فقدم على الاعتكاف ، وهل يبطل اعتكافه بذلك ؟ ينظر فيه إن كان قد تعين عليه تحملها لم يبطل ، لأنه مضطر إلى الخروج وإلى سببه . وإن لم يتعين عليه تحملها فقد روى المزني أنه قال : يبطل الاعتكاف . وقال في المعتكفة [ إذا طلقت ] تخرج وتعتد ولا يبطل اعتكافها . فنقل أبو العباس جواب كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين .

( أحدهما ) يبطل فيهما ; لأن السبب حصل باختياره ، ( والثاني ) لا يبطل ; لأنه مضطر إلى الخروج . وحمل أبو إسحاق المسألتين على ظاهرهما فقال : في الشهادة تبطل . وفي العدة لا تبطل ; لأن المرأة لا تتزوج لتطلق فتعتد والشاهد إنما يتحمل ليؤدي ; ولأن المرأة محتاجة إلى السبب وهو النكاح للنفقة والعفة ، والشاهد غير محتاج إلى التحمل ) .


( الشرح ) قوله : لأن السبب حصل باختياره ، هذا يصح في الشاهد والمعتدة التي زوجت برضاها ، ولا يصح في المجبرة ، وهي البكر في حق الأب والجد ، وكذا الثيب المجنونة ، وكذا الأمة .

( أما أحكام الفصل ) فقال أصحابنا : إذا خرج لأداء الشهادة له أربعة أحوال : ( إحداها ) أن لا يتعين عليه التحمل ولا الأداء . [ ص: 543 ] والثانية ) أن يتعين التحمل دون الأداء فيبطل اعتكافه بالخروج ، لأنه غير مضطر إليه .

( الثالثة ) أن يتعين الأداء دون التحمل ، فيبطل على المذهب . وهو المنصوص وقول أبي إسحاق : وقال أبو العباس ، فيه قولان ، وذكر المصنف دليل الجميع .

( الرابعة ) أن يتعين الأداء والتحمل ، فالمذهب أنه لا يبطل ; لأنه مضطر إلى الخروج وإلى سببه ، وبهذا قطع المصنف والجمهور ، وقيل : فيه طريقان حكاهما الماوردي والسرخسي وغيرهما ( أصحهما ) هذا ( والثاني ) على وجهين حكاهما الماوردي عن أصحابنا البصريين ( أحدهما ) هذا ( والثاني ) يبطل اعتكافه ; لأنه يمكنه أداء الشهادة في المسجد بأن يحضره القاضي ، وهذا ضعيف غريب ، هذا كله في اعتكاف منذور متتابع ( فأما ) إذا كان الاعتكاف تطوعا وطلب للشهادة فيكون كغير المعتكف فعليه الإجابة حيث تجب على غيره ; لأنها أفضل من الاعتكاف المتطوع به ، وإن كان الاعتكاف نذرا غير متتابع ، فإن كانت الشهادة متعينة لزمه الإجابة سواء دعي لأدائها أو لحملها ; لأنه لا ضرر عليه في ذلك ، لأنه يمكنه البناء إذا عاد إلى المسجد ، وفي امتناعه من الشهادة إضرار بالمشهود له ، وإن لم تكن متعينة بأن كان لصاحب الشهادة شهود آخرون ، ففي لزوم الإجابة وجهان حكاهما المتولي وغيره ( أحدهما ) لا يلزمه ; لأنه مشتغل بفرض متعين عليه ، وليس بالمشهود له ضرورة إليه لتمكنه من غيره .

( والثاني ) يلزمه ، لأن أداء الشهادة عند طلبها فرض كما أن الاعتكاف فرض ولكن الشهادة آكد ; لأنها حق آدمي يخاف فوته ، والاعتكاف يمكن تداركه ، وقول القائل الأول : لا ضرر على المشهود له ، يعارضه أن المعتكف لا ضرر عليه أيضا ، لأنه يمكنه البناء ، والله أعلم .

( فرع ) إذا دعي لتحمل شهادة قال المتولي : إن كان اعتكافه تطوعا ، ولم يتعين بالتحمل ، فالأولى أن لا يخرج ، وإن تعين عليه التحمل لزمه الخروج ، لأن ذلك واجب ، وإن كان اعتكافه واجبا لم يلزمه الإجابة ، سواء كان متتابعا أو لا ; لأنه مشتغل بفرض فلا يلزمه قطعه ، وهل يباح له الخروج ؟ ينظر - فإن لم يكن شرط التتابع - جاز الخروج ولأنه لا يبطل بخروجه عبادته فيخرج ، فإذا عاد [ ص: 544 ] بنى وإن كان شرط التتابع لم يجز الخروج ; لأنه يبطل ما مضى من عبادته ، وإبطال العبادة الواجبة لا يجوز ، هذا آخر كلام المتولي ، وقال الدارمي : إذا دعي لتحمل شهادة وهناك غيره لم يجز ، فإن خرج بطل اعتكافه ، ولم يذكر الدارمي غير هذا ، والله تعالى أعلم .

( فرع ) إذا شرعت المرأة في الاعتكاف ، فوجبت عليها عدة وفاة أو فرق فخرجت لقضائها ، هل يبطل اعتكافها ؟ فيه طريقان حكاهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) عند الأصحاب ، وهو المنصوص : لا يبطل ، حتى إذا نذرت متتابعا أكملت العدة ، ثم عادت المسجد وبنت على ما مضى ( والثاني ) في بطلانه قولان ( المنصوص ) لا يبطل ( والثالث ) خرجه ابن سريج من مسألة الشهادة أنه يبطل ، وذكر المصنف والأصحاب الفرق بين الشهادة والعدة ، هكذا أطلق الجمهور المسألة .

وقال المتولي : إذا نذرت اعتكافا متتابعا بغير إذن الزوج وشرعت فيه فلزمتها العدة ، لزمها العود إلى مسكنها للاعتداد ، فإذا خرجت ففي بطلان اعتكافها الطريقان ، قال : فأما إن شرعت في الاعتكاف بإذنه ولزمتها العدة فهل يلزمها العود إلى منزلها للاعتداد ؟ أم لها البقاء في الاعتكاف حتى ينقضي ؟ فيه خلاف نذكره في كتاب العدد إن شاء الله تعالى . فإن قلنا : لها البقاء ، فخرجت بطل اعتكافها ، لأنها خرجت من غير ضرورة وإن قلنا : يلزمها العود إلى المنزل فعادت ، هل تبني بعد العدة أم يبطل اعتكافها ؟ فيه الطريقان السابقان ، هذا كلام المتولي . وذكر البغوي نحوه . وزاد أنها إذا لزمها الخروج للعدة في الصورة الأولى فمكثت في الاعتكاف ولم تخرج عصت وأجزأها الاعتكاف . قال الدارمي : ولو قال لها الزوج : أنت طالق إن شئت ، فقالت وهي معتكفة : شئت ، فيحتمل وجهين ( أحدهما ) أنها كالشاهد المختار ( والثاني ) أنها كعدة وجبت بغير مشيئتها ( قلت ) الأول أصح ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية