صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن حج واعتمر حجة الإسلام وعمرته ، ثم أراد دخول مكة لحاجة نظرت - فإن كان لقتال ، أو دخلها خائفا من ظالم يطلبه ، ولا يمكنه أن يظهر لأداء النسك - جاز أن يدخل بغير إحرام ، { ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح بغير إحرام } ; لأنه كان لا يأمن أن يقاتل ويمنع النسك وإن كان دخوله لتجارة أو زيارة ففيه قولان : ( أشهرهما ) أنه لا يجوز أن يدخل إلا لحج أو عمرة ، لما روى ، ابن عباس أنه قال : " لا يدخل أحدكم مكة إلا محرما . ورخص للحطابين " .

( والثاني ) أنه يجوز لحديث الأقرع بن حابس وسراقة بن مالك وإن كان دخوله لحاجة تتكرر كالحطابين والصيادين جاز بغير نسك لحديث ابن عباس ، ولأن في إيجاب الإحرام على هؤلاء مشقة ، فإن دخل لتجارة وقلنا : إنه يجب عليه الإحرام فدخل بغير إحرام لم يلزمه القضاء ; لأنا لو ألزمناه القضاء لزمه لدخوله للقضاء قضاء ، فلا يتناهى ، قال أبو العباس بن القاص : إن دخل بغير إحرام ثم صار حطابا أو صيادا لزمه القضاء ; لأنه لا يلزمه للقضاء قضاء )


( الشرح ) حديث دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح بغير إحرام صحيح ، فقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر { أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام } هذا لفظ إحدى روايات مسلم ، وثبت في الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم { دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه مغفر } . وأما حكم المسألة فقال أصحابنا : إذا حج واعتمر حجة الإسلام [ ص: 15 ] وعمرته ثم أراد دخول مكة لحاجة لا تتكرر كزيارة أو تجارة أو رسالة ، أو كان مكيا مسافرا فأراد دخولها عائدا من سفره ونحو ذلك ، فهل يلزمه الإحرام بحج أو عمرة ؟ فيه طريقان : ( أحدهما ) أنه مستحب قولا واحدا ، حكاه القاضي أبو الطيب في المجرد في آخر باب مواقيت الحج ، عن أبي موسى المروزي ، وقطع به سليم الرازي في كتابه الكفاية ، وحكاه أيضا الرافعي وآخرون .

( وأصحهما ) وأشهرهما فيه قولان : ( أحدهما ) يستحب ولا يجب ( والثاني ) يجب ، ودليل القولين في الكتاب ، واختلفوا في أصحهما فصحح ابن القاص والمسعودي والبغوي وآخرون الوجوب ، وصحح الشيخ أبو حامد وأصحابه والشيخ أبو محمد الجويني والغزالي والأكثرون الاستحباب ، وصححه أيضا الرافعي في المحرر ، قال البندنيجي : وهو نص الشافعي في عامة كتبه ، قال المتولي : وعلى هذا يكره الدخول ، بغير إحرام ، هذا حكم من لا يتكرر دخوله .

( أما ) من يتكرر دخوله كالحطاب والحشاش والصياد والسقا ونحوهم ( فإن قلنا ) فيمن لا يتكرر : لا يلزمه الإحرام فهذا أولى ، وإلا فطريقان : ( المذهب ) أنه لا يلزمه ، وبه قطع كثيرون أو الأكثرون ( والثاني ) فيه وجهان وبعضهم يحكيهما قولين : ( أحدهما ) يلزمه .

( والثاني ) لا يلزمه ، وممن حكى الخلاف فيه القاضي أبو الطيب في المجرد والمتولي حكياه وجهين ، وحكاه ابن القاص في التلخيص ، والقفال والمحاملي والبندنيجي والدارمي والبغوي وآخرون قولين . ( فإن قلنا ) : يلزمه فقد أطلقه كثيرون ، وممن حكى هذا الخلاف وقيده المحاملي والبندنيجي وآخرون ، بأنه في كل سنة مرة ، قال المحاملي في المجموع : قال الشافعي في عامة كتبه : يدخلها الحطاب ونحوه بغير إحرام ، قال : وقال في بعض كتبه : يحرم في كل سنة مرة ، لئلا يستهين بالحرم . وقال القاضي أبو الطيب : قال أبو علي في الإفصاح : ( إن قلنا ) : غير الحطاب ونحوه لا يلزمه الإحرام ، فالحطاب أولى ، وإلا فقولان ، وظاهر المذهب أنه لا يلزمه ، قال : وقال أبو إسحاق : قال الشافعي في الإملاء : يحرمون كل سنة مرة قال القاضي : وهذا غير مشهور والله أعلم . [ ص: 16 ] وأما ) البريد الذي يتكرر دخوله إلى مكة للرسائل فقطع الدارمي بأنه كالحطاب ونحوه ، وقال القاضي أبو الطيب وصاحبا الشامل والبيان : من أصحابنا من جعله كالحطاب لتكرر دخوله ، ومنهم من قال : إن قلنا : لا يجب على الحطاب ففي البريد وجهان ، فالحاصل أن المذهب أنه لا يجب الإحرام لدخوله مكة على من دخل لتجارة ونحوها مما لا يتكرر ، ولا على من يدخل لمتكرر كالحطاب ولا على البريد ونحوه ، قال أصحابنا : فإن قلنا : يجب فللوجوب شروط .

( أحدها ) أن يجيء الداخل من خارج الحرم ، فأما أهل الحرم فلا إحرام عليهم بلا خلاف لدخوله ، كما لا يشرع تحية المسجد لمن انتقل من موضع منه إلى موضع منه .

( والثاني ) ألا يدخلها لقتال ولا خائفا ، فإن دخلها لقتال بغاة أو قطاع طريق أو غيرهما من القتال الواجب أو المباح ، أو خائفا من ظالم أو غريم يحبسه وهو معسر لا يمكنه الظهور لأداء النسك إلا بمشقة ومخاطرة ، لم يلزمه الإحرام بلا خلاف .

( الثالث ) أن يكون حرا ، فإن كان عبدا فلا إحرام عليه إن لم يأذن سيده فيه بلا خلاف ، وكذا إن أذن على المذهب ; لأنه ليس واجبا عليه بأصل الشرع ، فلا يصير واجبا بإذن سيده ، كصلاة الجمعة وكحجة الإسلام ، وفيه وجه ضعيف أنه يجب عليه إذا أذن سيده ; لأن المنع لحقه فزال بإذنه ، والمذهب الأول ، وهو المنصوص ، وبه قطع جماهير الأصحاب ، والله أعلم . قال أصحابنا : وإذا قلنا : بوجوب الإحرام ، واجتمعت شروطه فدخل بغير إحرام فطريقان : ( أصحهما ) وهو المذهب ، وبه قطع الجمهور لا قضاء ; لأن القضاء متعذر ; لأن الدخول الثاني إحرام يقتضي إحراما آخر ، فيتسلسل ولأن الإحرام مشروع لحرمة الحرم ، لئلا ينتهكه بالدخول بغير إحرام . فإذا دخل بغير إحرام فات بحصول الانتهاك كما قال أصحابنا . وهذا كما إذا دخل المسجد فجلس ولم يصل ، التحية ، فإنها تفوت بالجلوس [ ص: 17 ] ولا يشرع قضاؤها ( الطريق الثاني ) فيه وجهان ، وقيل : قولان ( أصحهما ) لا قضاء ( والثاني ) يجب القضاء ، وحكاه المصنف والأصحاب عن ابن القاص ، فعلى هذا يلزمه أن يخرج ثم يعود محرما ، قال الرافعي : علل أصحابنا عدم القضاء بعلتين : ( إحداهما ) أن القضاء لا يمكن ; لأن الدخول الثاني يحتاج إلى قضاء آخر ، فصار كمن نذر صوم الدهر فأفطر ، وفرع ابن القاص في هذه العلة أنه لو لم يكن ممن يتكرر دخوله كالحطابين ، ثم صار منهم لزمه القضاء . وربما نقلوا عنه أنه يوجب عليه أن يجعل نفسه منهم .

قال : ( والعلة الثانية ) وهي الصحيحة وبها قال العراقيون والقفال أنه تحية للبقعة ، فلا يقضي كتحية المسجد ، هذا كلام الرافعي . قال أصحابنا : وإذا قلنا : يلزمه الإحرام فتركه وترك القضاء عصى ، ولا دم عليه ; لأن الدم يجبر الخلل الحاصل في النسك بالإحرام داخل الميقات من غير رجوع إليه ونحو ذلك ، وهذا لم يدخل في نسك ، قالوا : وإذا أوجبنا الإحرام لزمه أن يحرم من الميقات ، فلو أحرم بعد مجاوزته فعليه دم لما ذكرناه ، وممن صرح بالصورتين القاضي أبو القاسم بن كج والماوردي والدارمي وآخرون ، والله - تعالى أعلم .

( فرع ) إذا أراد دخول الحرم ولم يرد دخول مكة فحكمه حكم دخول مكة ففيه التفصيل والخلاف السابق ، وهذا الخلاف صرح به جميع الأصحاب ، ممن صرح به القاضي والماوردي والدارمي والقاضي أبو الطيب في المجرد في باب المواقيت ، والمحاملي في المقنع وغيره ، والجرجاني في كتابيه البلغة والتحرير والشاشي في المستظهري ، والروياني في الحلية ، وخلائق لا يحصون صرحوا به ، وأشار إليه المتولي والباقون . ( وأما ) قول الرافعي : هل ينزل دخول الحرم منزلة دخول مكة فيما ذكرناه ؟ قال بعض الشارحين : نعم . قال الرافعي : لا يبعد تخريجه على خلاف في نظائره ، كأنه أراد بنظائره إباحة الصلوات في أوقات النهي ، فإنها تباح بمكة ، وكذا في سائر الحرم على الصحيح ، فهذا الذي قاله [ ص: 18 ] الرافعي عجب من وجهين : ( أحدهما ) كونه نقل المسألة عن بعض الشروح ، وهي مشهورة صريحة في هذه الكتب المشهورة التي ذكرها وغيرها .

( والثاني ) كونه قال : يحتمل تخريجه على خلاف ، مع أنه لا خلاف فيه ، فالصواب ما سبق أن الحرم كمكة بلا خلاف ، والله - تعالى - أعلم .

( فرع ) ذكر المصنف وجميع الأصحاب هنا أنه يجوز دخول مكة للقتال بغير إحرام ، قالوا : وصورة ذلك أن يلتجئ إليها طائفة من الكفار أهل الحرب - والعياذ بالله - أو طائفة من البغاة أو قطاع الطريق ونحوهم ، وقطع الأصحاب هنا بجواز قتالهم ، وهو الصواب المشهور ، وذكر القفال في كتاب النكاح من شرح التلخيص ، في كتاب خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم والماوردي في الأحكام السلطانية خلافا في قتالهم في مكة وسائر الحرم ، ووجه التحريم قوله صلى الله عليه وسلم : { إن الله حرم مكة فلم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار } .

( فرع ) قال المصنف والأصحاب هنا : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وهو لا يأمن أن يقاتل ( قد يقال : ) إن هذا مخالف لمذهب الشافعي فإن مذهب الشافعي وجميع الأصحاب أن النبي صلى الله عليه وسلم " دخل مكة يوم الفتح صلحا ، وفتحها صلحا " وقال أبو حنيفة وآخرون : " فتحها عنوة " وقد ذكر المصنف المسألة في كتاب السير ، وهناك ذكرها الرافعي والأصحاب .

( والجواب ) أن هذا لا يخالف ذلك ; لأنه صلى الله عليه وسلم صالح أبا سفيان ، وكان لا يأمن غدر أهل مكة ، فدخل صلحا وهو متأهب للقتال إن غدروا ، والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن أراد دخول الحرم لحاجة لا تتكرر ، كالتجارة والزيارة وعيادة المريض ونحوها قد ذكرنا أن الأصح عندنا أنه يستحب له الإحرام ، ولا يجب ، سواء قربت داره من الحرم أم بعدت ، وبه قال ابن عمر . وقال مالك وأحمد : [ ص: 19 ] يلزمه ، وقال أبو حنيفة : إن كانت داره في الميقات أو أقرب إلى مكة جاز دخوله بلا إحرام ، وإلا فلا .

واحتجوا للوجوب بقول ابن عباس المذكور في الكتاب . واحتج كثيرون بقوله صلى الله عليه وسلم { إن الله حرم مكة فلم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار } ودليلنا الأصح حديث : { آلحج كل عام ؟ قال : لا بل حجة } وهو حديث صحيح كما سبق بيانه قريبا ، ولأنه تحية لبقعة فلم تجب كتحية المسجد ( وأما ) قول ابن عباس فيعارضه مذهب ابن عمر أنه كان لا يراه واجبا ( وأما ) حديث : { لا تحل لأحد بعدي } " فالمراد به القتال كما سبق ، وليس في جميع طرق هذا الحديث ما يقتضي الإحرام ، وإنما هو صريح في القتال ، وقد سبق تأويله ، والله أعلم .

( فرع ) قد ذكرنا أنه إذا قلنا : يجب الإحرام لدخول الحرم فدخل بغير إحرام عصى ، والمذهب لا يلزمه القضاء . وقال أبو حنيفة : يلزمه ، وقال ابن القاص من أصحابنا : إذا صار حطابا ونحوه لزمه القضاء ، وبالأول قال جمهور أصحابنا ، ومأخذ الخلاف بين الجمهور وابن القاص يقول : إنما يمتنع القضاء للخوف من التسلسل فإذا صار حطابا زال التسلسل . فإن الحطاب لا يلزمه الإحرام للدخول ، وقال الجمهور : العلة الصحيحة في عدم وجوب القضاء أن الإحرام وجب لحرمة الدخول والبقعة ، فإذا لم يأت به فات ولا يشرع قضاؤه ، كتحية المسجد إذا جلس فيه ولم يصلها فإنه لا يشرع له قضاؤها ، كما سبق تقريره في باب صلاة التطوع واتفق أصحابنا هنا على أنه لا يشرع قضاؤها ، والصواب فيها ما قدمناه هنا .

قال القفال في شرح التلخيص : وكما لو سلم على إنسان ، ولم يرد عليه حتى مضت أيام ، ثم لقيه فأراد أن يرد عليه فإنه لا يجزئ ; لأنه مؤقت فات وقته ، قال القاضي أبو الطيب في المجرد : كما لو فر في الزحف من اثنين غير متحرف لقتال أو متحيز إلى فئة ، فإنه لا يمكنه قضاؤه ; لأنه متى لقي اثنين ممن يجب قتالهما وجب قتالهما باللقاء لا قضاء ، قال أصحابنا : فعلى [ ص: 20 ] هذا التعليل لو صار حطابا ونحوه لم يلزمه القضاء ، لعدم إمكان تدارك فوات انتهاك الحرمة ( فإن قيل ) : إنما لم نقض تحية المسجد لكونها سنة ، أما الإحرام فواجب فينبغي قضاؤه ، قال الأصحاب : ( فالجواب ) أن التحية لم يترك قضاؤها لكونها سنة ، فإن السنة الراتبة إذا فاتت يستحب قضاؤها على الصحيح ، وإنما لم تقض لتعلقها بحرمة مكان صيانة له من الانتهاك وقد حصل ، فلو صلاها لم يرتفع ما حصل من الانتهاك ، وكذا الإحرام لدخول الحرم واعترض على تعليل ابن القاص فقيل : ينبغي أن يجب القضاء ويدخل فيه إحرام الدخول ، وكما إذا دخل المسجد فصلى فريضة فيدخل فيه تحية المسجد ( والجواب ) ما أجاب به البغوي أن الإحرام الواحد لا يجوز أن يقع عن واجبين من جنس واحد كمن أهل بحجتين لا ينعقد إحرامه بهما بل ينعقد بأحدهما . وقال القفال في شرح التلخيص : قال أصحابنا : هذا التعليل الذي ذكره ابن القاص غلط ، وليس العلة في إسقاط القضاء التسلسل بل فوات الوقت . وقال الشيخ أبو محمد الجويني : اعترض بعض شيوخنا على تعليل ابن القاص فقال : إن كان القضاء واجبا فينبغي أن يجب ، سواء صار حطابا أو لا ، وإلا فيبطل أن يجب بمصيره حطابا والله أعلم ( فرع ) قال ابن القاص في التلخيص : كل عبادة واجبة إذا تركها لزمه القضاء أو الكفارة إلا واحدة وهي الإحرام لدخول مكة .

وهذا الذي قاله ينتقض بأشياء : ( منها ) إمساك يوم الشك إذا ثبت أنه من رمضان ، فإنه يجب إمساكه على المذهب الصحيح ، فلو ترك الإمساك لم يلزمه لترك الإمساك كفارة ، ولا قضاء الإمساك والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية