صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وأما العبد فلا يجب عليه [ الحج ; لأن منافعه مستحقة لمولاه ، وفي إيجاب الحج عليه إضرار بالمولى ] ويصح منه ; لأنه من أهل العبادة ، فصح منه الحج كالحر ، فإن أحرم بإذن السيد وفعل ما يوجب الكفارة ، فإن ملكه السيد مالا وقلنا : إنه يملكه لزمه الهدي ( وإن قلنا ) : لا يملك أو لم يملكه السيد وجب عليه الصوم ( ويجوز ) للسيد أن يمنعه من الصوم ; لأنه لم يأذن في سببه ، وإن أذن له في التمتع أو القران وقلنا : لا يملك المال صام ، وليس للمولى منعه من الصوم ; لأنه وجب بإذنه ( وإن قلنا : ) [ إنه ] يملك ففي الهدي قولان ( أحدهما ) يجب في مال السيد ; لأنه وجب بإذنه ( والثاني ) لا يجب عليه ; لأن إذنه رضاء بوجوبه على عبده لا في ماله ، ولأن موجب التمتع في حق العبد هو الصوم ; لأنه لا يقدر على الهدي ، فلا يجب عليه الهدي )


( الشرح ) أجمعت الأمة على أن العبد لا يلزمه الحج ; لأن منافعه مستحقة لسيده ، فليس هو مستطيعا ، ويصح منه الحج بإذن سيده وبغير إذنه بلا خلاف عندنا ، قال القاضي أبو الطيب : وبه قال الفقهاء كافة ، وقال داود : لا يصح بغير إذنه . دليلنا ذكره المصنف ، قال أصحابنا : فإن أحرم بإذنه لم يكن للسيد تحليله ، سواء بقي نسكه صحيحا أو أفسده ، ولو باعه والحالة هذه لم يكن للمشتري تحليله ، وله الخيار إن جهل إحرامه ، قال أصحابنا : ويصح بيعه بلا خلاف ، ويخالف بيع العين المستأجرة على قول ; لأن يد المستأجر تمنع المشتري من التصرف بخلاف [ ص: 41 ] العبد ، ولو أحرم بغير إذنه فالأولى أن يأذن له في إتمام نسكه ، فإن حلله جاز على المذهب ، وبه قطع المصنف في باب الفوات والإحصار وجمهور الأصحاب . وحكى ابن كج وجها أنه ليس له تحليله ; لأنه يلزم بالشروع تخريجا من أحد القولين في المزوجة إذا أحرمت بحج تطوع ، وهذا شاذ منكر ; لأن إذن السيد تبرع فجاز الرجوع فيه كالعارية ، فلو باعه والحالة هذه فللمشتري تحليله ولا خيار له ، ذكره البندنيجي والجرجاني في المعاياة وآخرون ، ولو أذن له في الإحرام فله الرجوع في الإذن قبل الإحرام ، فإن رجع ولم يعلم العبد فأحرم فهل له تحليله ؟ فيه وجهان مشهوران في طريقتي العراق وخراسان ، قال أصحابنا : هما مبنيان على القولين فيما إذا عزل الموكل الوكيل ، وتصرف بعد العزل وقبل العلم ( أصحهما ) له تحليله كما أن الأصح هناك بطلان تصرفه . وإن علم العبد رجوع السيد قبل الإحرام ثم أحرم فله تحليله وجها واحدا ; لأنه أحرم بغير إذن ، ويجيء فيه الوجه السابق عن حكاية ابن كج ، وإن رجع السيد بعد إحرام العبد لم يصح رجوعه ولم يكن له تحليله عندنا ، وقال أبو حنيفة : له ذلك كالعارية يرجع فيها متى شاء ، ودليلنا : أنه عقد عقده بإذن سيده فلم يكن لسيده إبطاله كالنكاح ، ولأن من صح إحرامه بإذن غيره لم يكن للغير إبطاله كالزوج ( والجواب ) عن العارية أن الرجوع فيها لا يبطل ما مضى بخلاف الإحرام ، والله أعلم .

قال أصحابنا : ولو أذن له في العمرة فأحرم بالحج فله تحليله ، ولو كان بالعكس لم يكن له تحليله ، هكذا ذكره البغوي قال : لأن العمرة دون الحج . وقال الدارمي : إن أذن له في حج فأحرم بعمرة أو في عمرة فأحرم بحج فله تحليله ، وقيل : لا يحلله ، وذكر الرافعي كلام البغوي ، ثم قال فيما إذا أذن في حج فأحرم بعمرة : ظني أنه لا يسلم عن خلاف ، هذا كلام الرافعي فحصل في الصورتين ثلاثة أوجه : ( أصحها ) وبه قطع البغوي له أن يحلله فيما إذا أذن في عمرة فأحرم بحج دون عكسه ( والثاني ) [ ص: 42 ] له تحليله فيهما ، وهو اختيار الدارمي ( والثالث ) ليس له فيهما ، وهذا غلط في صورة الإذن في عمرة ; لأنه زيادة على المأذون فيه ، ولو أذن له في التمتع فله منعه من الحج بعد تحلله من العمرة وقبل إحرامه بالحج ، كما لو رجع في الإذن قبل الإحرام بالعمرة ، ويجيء فيه الوجه السابق عن ابن كج ، وليس له تحليله من العمرة ولا من الحج بعد الشروع فيهما . ولو أذن في الحج أو التمتع فقرن ليس له تحليله بالاتفاق ، صرح به البغوي وآخرون ; لأن الإذن في التمتع إذن في الحج هذا هو المعروف ، وفي كلام الدارمي إشارة إلى خلاف فيه ، فإنه قال : لو أذن له في القران فأفرد أو تمتع يحتمل وجهين ، وكذا إن أذن في الإفراد فقرن أو تمتع ، وكذا لو أذن في التمتع أو الإفراد فقرن ، هذا آخر كلام الدارمي .

قال الدارمي : فلو أذن في الإحرام مطلقا فأحرم وأراد صرفه إلى نسك وأراد السيد غيره فوجهان : ( أحدهما ) القول قول العبد ( والثاني ) هو كاختلاف الزوجين إذا قالت : راجعتني بعد انقضاء عدتي ، وقال : قبلها ( فإن قلنا ) قولان فمثله ( وإن قلنا ) : القول قول الزوج في الرجعة . وقولها في انقضاء العدة فمثله ( وإن قلنا ) يراعى السابق بالدعوى فمثله ، قال البغوي وغيره : ولو أذن له في الإحرام في ذي القعدة فأحرم في شوال ، فله فيه تحليله قبل دخول ذي القعدة ، ولا يجوز بعد دخوله ، قال الدارمي : ولو أذن له في الإحرام من مكان فأحرم من غيره فله تحليله ، ومراد الدارمي إذا أحرم من أبعد منه قال الدارمي : ولو قال العبد لسيده أذنت لي في الإحرام وقال السيد : لم آذن ، فالقول قول السيد

قال : ولو نذر العبد حجا ، ففي صحته وجهان ، فإن صححنا فعله بعد عتقه وبعد حجة الإسلام ، وإن أذن له السيد في فعله رقيقا ففعله ، ففي صحته الوجهان المشهوران في قضاء الصبي والعبد للحجة الفاسدة في حال الصبا والرق ، والأصح عند الأصحاب صحة نذره والله أعلم .

قال أصحابنا : وأم الولد والمدبر والأمة المزوجة والمعلق عتقه بصفة ، ومن بعضه رقيق كالعبد القن في كل ما ذكرناه وما سنذكره إن شاء الله [ ص: 43 ] تعالى - في إحرام العبد وما يتعلق به سواء ،

ولو أحرم المكاتب بغير إذن مولاه ففي جواز تحليله لسيده طريقان : ( أحدهما ) فيه قولان كمنعه من سفر التجارة ( والثاني ) له تحليله قطعا ; لأن للسيد منفعة في سفره للتجارة ، بخلاف الحج ، وهذا الثاني أصح ، وممن صححه البندنيجي . وقد ذكر المصنف المسألة في آخر باب الفوات والإحصار ، والله أعلم .

( فرع ) إذا أفسد العبد الحجة بالجماع فهل يلزمه القضاء ؟ فيه طريقان : ( أحدهما ) فيه وجهان كالصبي حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه والبندنيجي والمصنف في باب محظورات الإحرام وطائفة قليلة ( الصحيح ) لزومه ( والثاني ) لا يلزمه ، وهذا الطريق غريب ( والطريق الثاني ) وهو الصحيح وبه قطع جماهير الأصحاب في كل الطرق أنه يلزمه القضاء بلا خلاف ; لأنه مكلف بخلاف الصبي على قول ، وهل يجزئه القضاء في حال رقه ؟ فيه قولان كما سبق في الصبي : ( أصحهما ) يجزئه فإن قلنا : لم يلزم السيد أن يأذن له في القضاء إن كان إحرامه الأول بغير إذنه ، وكذا إن كان بإذنه على أصح الوجهين ; لأنه لم يأذن في الإفساد ، هكذا ذكره البندنيجي والبغوي وآخرون وهو الصحيح وقال المصنف في باب محظورات الإحرام وآخرون : إن قلنا : القضاء على التراخي لم يلزم السيد الإذن ، وإلا فوجهان ، قال المصنف وسائر الأصحاب فإذا قلنا : يجزئه القضاء في حال الرق فشرع فيه فعتق قبل الوقوف بعرفات أو حال الوقوف أجزأه عن حجة الإسلام ، وإن قضى بعد العتق فهو كالصبي إذا قضى بعد البلوغ ، فإن كان عتقه قبل الوقوف أو حال الوقوف أجزأه القضاء عن حجة الإسلام ; لأنه لولا فساد الأداء لأجزأه عن حجة الإسلام ، وإن كان عتقه بعد الوقوف لم يجزئه القضاء عن حجة الإسلام ، فعليه حجة الإسلام ، ثم حجة القضاء . وقد سبق بيان هذا واضحا قريبا في جماع الصبي في الإحرام ، وذكرنا هناك القاعدة المتناولة لهذه المسألة ونظائرها ، والله أعلم .

[ ص: 44 ] فرع ) كل دم لزم العبد المحرم بفعل محظور كاللباس والصيد أو بالفوات لم يلزم السيد بحال ، سواء أحرم بإذنه أم بغيره ؟ ; لأنه لم يأذن في ارتكاب المحظور ، ثم إن المذهب الصحيح الجديد أن العبد لا يملك المال بتمليك السيد وعلى القديم يملك به ، فإن ملكه ، وقلنا : يملك لزمه إخراجه وعلى الجديد فرضه الصوم ، وللسيد منعه في حال الرق إن كان أحرم بغير إذنه ، وكذا بإذنه على أصح الوجهين ; لأنه لم يأذن في التزامه ، ولو قرن أو تمتع بغير إذن سيده فحكم دم القران والتمتع حكم دماء المحظورات ، وإن قرن أو تمتع بإذنه فهل يجب الدم على السيد أم لا ؟ قال في الجديد : لا يجب ، وهو الأصح وفي القديم قولان : ( أحدهما ) هذا ( والثاني ) يجب ، بخلاف ما لو أذن له في النكاح ، فإن السيد يكون ضامنا للمهر على القول القديم قولا واحدا ; لأنه لا بدل للمهر وللدم بدل ، وهو الصوم والعبد من أهله . وعلى هذا لو أحرم بإذن السيد فأحصر وتحلل ( فإن قيل ) : لا بدل لدم الإحصار صار السيد ضامنا على القديم قولا واحدا ( وإن قلنا ) : له بدل ففي صيرورته ضامنا له في القديم قولان وإذا لم نوجب الدم على السيد فواجب العبد الصوم ، وليس لسيده منعه على أصح الوجهين ، وبه قطع البندنيجي لإذنه في سببه ، ولو ملكه سيده هديا وقلنا : يملكه أراقه وإلا لم تجز إراقته ، ولو أراقه السيد عنه فعلى هذين القولين ، ولو أراق عنه بعد موته أو أطعم عنه جاز قولا واحدا ; لأنه حصل الإياس من تكفيره ، والتمليك بعد الموت ليس بشرط ; ولهذا لو تصدق عن ميت جاز . وهذا الذي ذكرناه من جواز الهدي والإطعام عنه بعد موته بلا خلاف فيه ، صرح به الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والمحاملي والبندنيجي والبغوي والمتولي وسائر الأصحاب ، وصرحوا بأنه لا خلاف فيه ، قال أصحابنا : ولو عتق العبد قبل صومه ووجد هديا ، فعليه الهدي إن اعتبرنا في الكفارة حال الأداء ، أو الأغلظ ، وإن اعتبرنا حال الوجوب فله الصوم ، وهل له الهدي ؟ فيه قولان حكاهما البغوي وآخرون : ( أصحهما ) له ذلك [ ص: 45 ] كالحر المعسر يجد الهدي ( والثاني ) ; لأنه لم يكن من أهله حال الوجوب بخلاف الحر المعسر والله أعلم .

( فرع ) إذا نذر العبد الحج ، فهل يصح منه في حال رقه ؟ قال الروياني فيه وجهان كما في قضاء الحجة التي أفسدها .

( فرع ) قال أصحابنا : حيث جوزنا للسيد تحليله أردنا أنه يأمره بالتحلل لا أنه يستقل بما يحصل به التحلل ; لأن غايته أن يستخدمه ويمنعه المضي ، ويأمره بفعل المحظورات أو يفعلها به ، ولا يرتفع الإحرام بشيء من هذا بلا خلاف . وحيث جاز للسيد تحليله ، جاز للعبد التحلل ، وطريق التحلل أن ينظر ( فإن ) ملكه السيد هديا - وقلنا : يملكه - ذبح ونوى التحلل ، وحلق ونوى به أيضا التحلل ، وإن لم يملكه فطريقان : ( أحدهما ) أنه كالحر ، فيتوقف تحلله على وجود الهدي إن قلنا : لا بدل لدم الإحصار - أو على الصوم إن قلنا له بدل ، هذا كله على أحد القولين ، وعلى أظهرهما لا يتوقف بل يكفيه نية التحلل والحلق إن قلنا : هو نسك ( والطريق الثاني ) القطع بهذا القول الثاني ، وهذا الطريق هو الأصح عند الأصحاب لعظم المشقة في انتظار العتق ، وأن منافعه لسيده ، وقد يستعمله في محظورات الإحرام ، وقد ذكر المصنف تحليل العبد ، وما يتعلق به في باب الفوات والإحصار ، والله أعلم .

( فرع ) حيث جاز تحليله فأعتقه السيد قبل التحلل لم يجز له التحليل بل يلزمه إتمام الحج ; لأن التحلل إنما جاز لحق السيد ، وقد زال ، فإن فاته الوقوف فله حكم الفوات في حق الحر الأصلي . هكذا صرح به الدارمي وغيره ، وهو ظاهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية