صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( والمستطيع بغيره اثنان ( أحدهما ) : من لا يقدر على الحج بنفسه لزمانة أو كبر ، وله مال يدفعه إلى من يحج عنه ، فيجب عليه فرض الحج ; لأنه يقدر على أداء الحج بغيره ، كما يقدر على أدائه بنفسه ، فيلزمه فرض الحج ( والثاني ) : من لا يقدر على الحج بنفسه ، وليس له مال ولكن له ولد يطيعه إذا أمره بالحج ، فينظر فيه فإن كان الولد مستطيعا بالزاد والراحلة وجب على الأب الحج ، ويلزمه أن يأمر الولد بأدائه عنه ; لأنه قادر على أداء الحج بولده كما يقدر على أدائه بنفسه وإن لم يكن للولد مال ، ففيه وجهان ( أحدهما ) : يلزمه ; لأنه قادر على تحصيل الحج بطاعته ( والثاني ) : لا يلزمه ; لأن الصحيح لا يلزمه فرض الحج من غير زاد ولا راحلة ، فالمعضوب أولى أن لا يلزمه ، وإن كان الذي يطيعه غير الولد ، ففيه وجهان ( أحدهما ) : لا يلزمه الحج بطاعته ; لأن في الولد إنما وجب عليه ; لأنه بضعة منه فنفسه كنفسه وماله كماله في النفقة وغيرها ، وهذا المعنى لا يوجد في غيره ، فلم يجب الحج بطاعته ( والثاني ) : يلزمه ، وهو ظاهر النص ; لأنه واجد لمن يطيعه ، فأشبه الولد ، وإن كان له من يجب الحج عليه بطاعته ، فلم يأذن له ، ففيه وجهان : ( أحدهما ) : أن الحاكم ينوب عنه في الإذن كما ينوب عنه إذا امتنع من إخراج الزكاة ( والثاني ) : لا ينوب عنه كما إذا كان له مال ، ولم يجهز من يحج عنه لم ينب الحاكم عنه في تجهيز من يحج عنه وإن بذل له الطاعة ، ثم رجع الباذل ففيه وجهان ( أحدهما ) : أنه لا يجوز ; لأنه لما لم يجز للمبذول له أن يرد لم يجز للباذل أن يرجع ( الثاني ) : أنه يجوز ، وهو الصحيح ; لأنه متبرع بالبذل ، فلا يلزمه الوفاء بما بذل ( وأما ) إذا بذل له [ ص: 76 ] مالا يدفعه إلى من يحج عنه ففيه وجهان : ( أحدهما ) : أنه يلزمه قبوله كما يلزمه قبول الطاعة ( والثاني ) : لا يلزمه ، وهو الصحيح ; لأنه إيجاب كسب لإيجاب الحج ، فلم يلزمه كالكسب بالتجارة )


( الشرح ) : قوله : لأنه بضعة منه وهو - بفتح الباء - لا غير ، وهي قطعة من اللحم ، وأما البضع والبضعة في العدد ففيه لغتان مشهورتان - كسر الباء وفتحها - والكسر أفصح ، وبه جاء القرآن ، وأما المعضوب - فهو بالعين المهملة والضاد المعجمة - وأصل العضب للقطع ، كأنه قطع عن كمال الحركة والتصرف ، ويقال له أيضا : المعصوب - بالصاد المهملة - قال الرافعي : كأنه قطع عصبه أو ضرب عصبه . أما الأحكام فأولها بيان حقيقة المعضوب ، قال أصحابنا : من كان به علة يرجى زوالها ، فليس هو بمعضوب ، ولا يجوز الاستنابة عنه في حياته بلا خلاف ، كما سنذكره واضحا بعد هذا ، حيث ذكره المصنف إن شاء الله - تعالى - وإن كان عاجزا عن الحج بنفسه عجزا لا يرجى زواله ، لكبر أو زمانة أو مرض لا يرجى زواله . أو كان كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة إلا بمشقة شديدة ، أو كان شابا نضو الخلق لا يثبت على الراحلة إلا بمشقة شديدة أو نحو ذلك ، فهذا معضوب فينظر فيه ، فإن لم يكن له مال ولا من يطيعه ، لم يجب عليه الحج ، وإن كان له مال - ولم يجد من يستأجره ، أو وجده وطلب أكثر من أجرة المثل - لم يجب الحج ، ولا يصير مستطيعا والحالة هذه ، فلو دام حاله هكذا حتى مات ، فلا حج عليه . وإن وجد مالا ، ووجد من يستأجره بأجرة المثل لزمه الحج ، فإن استأجره وحج الأجير عنه ، وإلا فقد استقر الحج في ذمته لوجود الاستطاعة بالمال ، وهكذا إذا كان للمعضوب ولد لا يطيعه في الحج عنه ، أو يطيعه ولم يحج الولد عن نفسه لا يجب الحج على المعضوب ، وإن كان الولد يطيعه - وقد حج عن نفسه - وجب الحج على المعضوب ، ولزمه [ ص: 77 ] أن يأذن للولد في أن يحج عنه .

قال أصحابنا : وإنما يلزم المعضوب الاستنابة ، ويجب عليه الإحجاج عن نفسه في صورتين ( إحداهما ) : أن يجد مالا يستأجر به من يحج ، وشرطه أن يكون بأجرة المثل ، وأن يكون المال فاضلا عن الحاجات المشترطة فيمن يحج بنفسه ، إلا أنه يشترط هناك أن يكون المصروف إلى الزاد والراحلة فاضلا عن نفقة عياله ذهابا ورجوعا ، وهنا لا يشترط إلا كونه فاضلا عن نفقتهم وكسوتهم يوم الاستئجار خاصة . وفيه وجه ضعيف ذكره إمام الحرمين والبغوي وغيرهما ، أنه يشترط أن يكون فاضلا عن ذلك مدة ذهاب الأجير كما لو حج بنفسه . والمذهب أنه لا يشترط ذلك كما في الفطرة والكفارة ، بخلاف من يحج بنفسه ، فإنه إذا لم يفارق ولده أمكنه تحصيل نفقاتهم ، ثم إن وفى ما يجده بأجرة راكب ، فقد استقر الحج عليه ، وإن لم يف إلا بأجرة ماش ، ففي وجوب الاستئجار وجهان ( أحدهما ) : لا يجب ، كما لا يجب على عاجز عن الراحلة ( وأصحهما ) : يجب ; إذ لا مشقة عليه في مشي الأجير ، بخلاف من يحج بنفسه ، وقد سبق أنه لو طلب الأجير أكثر من أجرة المثل لا يجب الحج ; لأن وجود الأجير بأكثر من أجرة المثل كعدمه كما في نظائر المسألة ، ولو رضي الأجير بأقل من أجرة المثل ، ووجد المعضوب ذلك لزمه الحج ; لأنه مستطيع ، وليس في ذلك كثير منة . وإذا تمكن من الاستئجار بشرطه ، فلم يستأجر ، فهل يستأجر عنه الحاكم لامتناعه أم لا ؟ فيه وجهان مشهوران : ( أصحهما ) : لا ; لأن الحج على التراخي ، فيصير كما لو امتنع القادر من تعجيل الحج ( والثاني ) : يستأجر عنه كما يؤدي زكاة الممتنع ، هكذا علله المصنف والجمهور .

وقال المتولي : إذا لزمه الحج ، فلم يحج حتى صار معضوبا ، فهل يلزمه الحج على الفور ؟ أم يبقى على التراخي ؟ فيه وجهان إن قلنا : على الفور فامتنع ، استأجر الحاكم عنه وإلا ، فلا ( الصورة الثانية ) : لوجوب [ ص: 78 ] الحج على المعضوب أن لا يجد المال ، لكن يجد من يحصل له الحج ، وله أحوال : ( أحدها ) : أن يبذل له أجنبي مالا ليستأجر به ، ففي وجوب قبوله الوجهان اللذان ذكرهما المصنف في آخر الفصل ( أصحهما ) : عند المصنف والأصحاب لا يلزمه ، وادعى المتولي الاتفاق عليه ( والثاني ) : يلزمه ويستقر به الحج على هذا في ذمته ، ودليلهما في الكتاب ( الثاني ) : أن يبذل واحد من بنيه أو بناته أو أولادهم وإن سفلوا الإطاعة في الحج عنه ، فيلزمه الحج بذلك وعليه الإذن للمطيع ، هذا هو المذهب ونص عليه الشافعي في جميع كتبه ، واتفق عليه الأصحاب في جميع الطرق ، إلا السرخسي فحكى في الأمالي وجها عن حكاية أبي طاهر الزيادي من أصحابنا ، أنه لا يلزم المطاع الحج بذلك ، وهذا غلط والصواب اللزوم ، وسنوضح دليله في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله - تعالى ، قال أصحابنا : وإنما يصير الحج واجبا على المطاع بأربعة شروط ( أحدها ) : أن يكون المطيع ممن يصح منه فرض حجة الإسلام ، بأن يكون مسلما بالغا عاقلا حرا ( والثاني ) : أن يكون المطيع قد حج عن نفسه ، وليس عليه حجة واجبة عن إسلام أو قضاء أو نذر ( والثالث ) : أن يكون موثوقا بوفائه بطاعته ( والرابع ) : ألا يكون معضوبا ، هكذا ذكر هذه الشروط الأصحاب في الطريقين ، واتفقوا عليها إلا الدارمي فقال : إذا كان على المطيع حج ففي وجوب الحج على المطاع وجهان : ( الصحيح ) لا يلزمه كما قال الأصحاب ( والثاني ) : يلزمه ويلزم المطيع الحج عن نفسه ، ثم عن المطاع ، وهذا شاذ ضعيف .

قال أصحابنا : ولو شك في طاعة الولد لم يلزمه الحج بلا خلاف للشك في حصول الاستطاعة ، ولو توسم فيه أمر الطاعة وظنها ، فهل يلزمه أن يأمره بالحج ؟ فيه وجهان حكاهما المتولي والبغوي والشاشي ( الصحيح ) : المنصوص يلزمه لحصول الاستطاعة ، وبهذا قطع القاضي أبو الطيب وآخرون ( والثاني ) : لا يلزمه ما لم يصرح بالطاعة ; لأن الظن قد يخطئ [ ص: 79 ] فلا يتحقق القدرة بذلك ، قال المتولي : وهذا اختيار القاضي حسين ، ولو بذل المطيع الطاعة وجب على الوالد المطاع أن يأذن له في ذلك ، فإن لم يأذن ألزمه الحاكم بذلك فإن أصر على الامتناع ، فهل ينوب الحاكم عنه ؟ فيه وجهان مشهوران ، ذكرهما المصنف بدليلهما ( الصحيح ) : لا ; لأن الحج على التراخي : قال الدارمي : قال ابن القطان : هذا قول ابن أبي هريرة ( والثاني ) : قول أبي إسحاق المروزي . وإذا اجتمعت شروط وجوب الحج بالطاعة ، فمات المطيع قبل أن يأذن له أو رجع عن الطاعة - وصححنا رجوعه ، فإن مضى بعد وجود الشرط زمن إمكان الحج - استقر وجوب الحج في ذمة الميت ، وإلا فلا ، ولو كان له من يطيعه ، ولم يعلم بطاعته ، فهو كما لو كان له مال موروث ، ولم يعلم به ، وهكذا أطلقه الشيخ أبو حامد وآخرون ، ولم يذكروا حكمه ، قال ابن الصباغ والمتولي وصاحب العدة : هو كمن فقد الماء في رحله وصلى بالتيمم ، والمذهب وجوب إعادة الصلاة ، ومعنى هذا أنه يجيء هنا خلاف كذلك الخلاف فيكون الصحيح أنه يجب الحج ، ولا يعذر بالجهل ; لأنه مقصر ( والثاني ) : يعذر ولا يجب عليه الحج ، وقال الشاشي في المعتمد هو شبيه بالمال الضال في الزكاة والمذهب وجوبها فيه .

قال الرافعي : ولك أن تقول : لا يجب بمال مجهول ; لأنه متعلق بالاستطاعة ، ولا استطاعة مع عدم العلم بالمال والطاعة ، قال المتولي : ولو ورث المعضوب مالا ولم يعلمه حتى مات ، ففي وجوب قضاء الحج من تركته هذا الخلاف ، قال : وكذا لو كان له من يطيعه ، ولم يعلم به حتى مات . ولو بذل الولد الطاعة ثم أراد الرجوع - فإن كان بعد إحرامه - لم يجز بلا خلاف ، وإن كان قبله فوجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما ( أصحهما ) : له ذلك ; لأنه تبرع بشيء لم يتصل به الشروع ، فإن كان رجوعه قبل حج أهل بلده تبينا أنه لا حج على المطاع ، هكذا أطلق المصنف والأصحاب الوجهين وقال الدارمي : الوجهان إذا بذل الطاعة [ ص: 80 ] وقبلها الوالد ، فأما إذا بذلها ، ولم يقبل الوالد ولا الحاكم - إذا قلنا : يقوم مقامه عند الامتناع - فللباذل الرجوع .

( الحال الثالث ) : أن يبذل الأجير الطاعة ، فيجب قبولها على أصح الوجهين وهو ظاهر نص الشافعي ، كما ذكره المصنف وجها واحدا ، وهذا الذي قاله ظاهر ، وكلام الأصحاب محمول على الرجوع ( والثاني ) : لا يجب والأخ كالأجنبي مطيعا ; لأن استخدامه يثقل على الإنسان كاستخدام الأجنبي بخلاف الولد ( وأما ) ابن الأخ والعم وابن العم فكالأخ ( وأما ) الجد والأب فالمذهب أنهما كالأخ وبهذا قطع الجمهور ، وهو المنصوص في الأم والإملاء ، وقيل : هما كالولد لاستوائهما في النفقة والعتق بالملك . ومنع الشهادة ونحوها حكاه المتولي وغيره ، والمذهب الأول بعد القبول . والله أعلم . قال الدارمي : ولو رجع فاختلفا فقال الأب : رجعت بعد قبول ، وقال الابن : بل قبله ، فأيهما يصدق ؟ يحتمل وجهين ( واعلم ) أن ما صححناه من الوجهين في أصل المسألة ، وهو جواز الرجوع قبل الإحرام هو الصحيح عند المصنف وجماهير الأصحاب في الطريقين وشذ الماوردي فصحح منع الرجوع وفرق بينه وبين بذل الماء للمتيمم ، ثم رجع قبل قبضه بأن للماء بدلا وهو التيمم والله أعلم .

( الحال الرابع ) : أن يبذل له الولد المال ، فهل يجب قبوله والحج ؟ فيه وجهان مشهوران ، وذكر المصنف دليلهما ( أصحهما ) : لا يجب ; لأنه مما يمن به بخلاف خدمته بنفسه ، والوجهان مرتبان على بذل الأجنبي المال ، فإن أوجبنا القبول من الأجنبي ، فالولد أولى وإلا فوجهان ( الأصح ) : لا يجب ، ولو بذل المال للمعضوب أبوه ، فهل هو كبذل الأجنبي ؟ أم كبذل الولد ؟ فيه احتمالان ذكرهما إمام الحرمين ( أصحهما ) : كالولد لعدم المنة بينهما غالبا ، وهذا الذي ذكرناه في بذل الطاعة كله مفروض فيما إذا كان الباذل يحج راكبا ، فلو بذل الابن ليحج ماشيا ففي لزوم القبول وجهان ( أصحهما ) : لا يلزم ، قال الشيخ أبو محمد الجويني وغيره : هما مرتبان [ ص: 81 ] على الوجهين في وجوب استئجار الماشي وهنا الأولى منع الوجوب ; لأنه يشق عليه مشي ولده ، وفي معناه الولد إذا أطاع - وأوجبنا قبوله - ولا يجيء الترتيب إذا كان المطيع أجنبيا ، فالحاصل أن الأصح أنه لا يجب القبول إذا كان المطيع ماشيا أبا أو ولدا ويجب إذا كان أجنبيا . وإذا أوجبنا القبول - والمطيع ماش - فذلك إذا كان له زاد ، فإن لم يكن وعول على الكسب في طريقه ، ففي وجوب القبول وجهان ، حكاهما إمام الحرمين وغيره ; لأن الكسب قد ينقطع ، فإن لم يكن مكتسبا وعول على السؤال ، قال الإمام : فالخلاف قائم على الترتيب ، وأولى بأن لا يجب ، قال : فإن احتاج إلى ركوب مفازة ليس بها كسب ولا سؤال ينفع ، لم يجب القبول بلا خلاف ; لأنه يحرم التغرير بالنفس على الابن المطيع ، فإذا حرم ذلك عليه استحال وجوب استنابته والحالة هذه وذكر المصنف والجمهور في اشتراط الزاد والراحلة للمطيع وجهين من غير ترتيب ، وعلل المتولي الوجوب بأن المطاع صار قادرا فلزمه الحج كمن كان معه مال ، ولا يكفيه لحج فرض ، ووجد من يحج بذلك المال ، يلزمه الاستئجار لتمكنه .

( فرع ) : قال أصحابنا : إذا أفسد المطيع الباذل حجه انقلب إليه ، كما سيأتي في الأجير إن شاء الله تعالى .

( فرع ) : قال الدارمي : إذا بذل الولد الطاعة لأبويه فقبلا لزمه ، ويبدأ بأيهما شاء ، قال : وإذا قبل الوالد البذل لم يجز له الرجوع .

( فرع ) : قال أصحابنا : وإذا كان على المعضوب حجة نذر أو قضاء فهي كحجة الإسلام فيما سبق .

( فرع ) : قال أصحابنا : لا يجزئ الحج عن المعضوب بغير إذنه بخلاف قضاء الدين عن غيره ، لأن الحج يفتقر إلى النية ، وهو أهل للإذن بخلاف الميت ، وفيه وجه ضعيف أنه يجوز بغير إذنه . حكاه المتولي عن القاضي أبي حامد المروذي ، وحكاه أيضا الرافعي ، وهو شاذ [ ص: 82 ] ضعيف ، واتفق أصحابنا على جواز الحج عن الميت ، ويجب عند استقراره عليه سواء أوصى به أم لا ويستوي فيه الوارث والأجنبي كالدين ، قال المتولي : ويخالف ما لو كان على الميت عتق رقبة فأعتقها أجنبي ، فإنه لا يصح على أحد الطريقين ; لأن العتق يقتضي الولاء ، والولاء يقتضي الملك ، وإثبات الملك بعد موته مستحيل .

( وأما ) صحة الحج فلا تقتضي ثبوت ملك له قال أصحابنا : تجوز الاستنابة عن الميت إذا كان عليه حجة ، وله تركة ، وسيأتي تفصيله في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى ( وأما ) المعضوب فتلزمه الاستنابة سواء طرأ العضب بعد الوجوب ، أو بلغ معضوبا واجدا للمال ، ولوجوب الاستنابة صورتان سبق بيانهما ، والله أعلم .

( فرع : ) قال المتولي : المعضوب إذا كان من مكة ، أو بينه وبينها دون مسافة القصر ، لا يجوز أن يستنيب في الحج ; لأنه لا تكثر المشقة عليه في أداء الحج ، ولهذا لو كان قادرا لا يشترط في وجوب الحج عليه الراحلة .

( فرع ) : قال أصحابنا : إذا طلب الوالد المعضوب العاجز عن الاستئجار من الولد أن يحج عنه ، استحب للولد إجابته ولا تلزمه إجابته ولا الحج بلا خلاف ، قال المتولي وغيره : والفرق بينه وبين الإعفاف وهو التزويج فإنه يلزم الولد عند حاجة الأب على المذهب ، وأنه ليس على الوالد في امتناع الولد من الحج ضرر ; لأنه حق الشرع ، فإن عجز عنه لم يأثم ، ولا يجب عليه ، بخلاف ، الإعفاف ، فإنه حق الأب واضطراره عليه ، فهو شبيه بالنفقة ، والله أعلم .

( فرع ) : قال المتولي : لو استأجر المطيع إنسانا ليحج عن المطاع المعضوب فإن كان المطيع ولدا فالمذهب أنه يلزم المطاع الحج ، وإن كان أجنبيا ، وقلنا : يجب الحج بطاعة الأجنبي ، فوجهان : ( أحدهما ) : يلزمه ; لأنه وجد من يطيعه ، فصار كما لو بذل الطاعة بنفسه ( والثاني ) : لا ; لأن هذا في الحقيقة بذل مال ، ولا يجب الحج ببذل الأجنبي المال ، وهذا [ ص: 83 ] إذا قلنا بالمذهب : إن بذل الأجنبي المال لا يجب قبوله ، وقد جزم الشيخ أبو حامد والمحاملي وصاحب الشامل وغيرهم باللزوم فيما إذا كان المطيع ولدا .

( فرع ) : إذا كان للمعضوب مال ، ولم يستأجر من يحج عنه لامتناعه ، فيه طريقان : ( أحدهما ) : أن فيه وجهين كالوجهين السابقين فيما إذا امتنع المطاع من الإذن للمطيع الباذل للطاعة ، وبهذا الطريق قطع الفوراني والبغوي وغيرهما من الخراسانيين ( والثاني ) : لا يستأجر عنه وجها واحدا قال صاحب البيان : وبه قطع العراقيون من أصحابنا ، والفرق بينه وبين الإذن للمطيع أن للمعضوب غرضا في تأخير الاستئجار بأن ينتفع بماله .

( فرع ) : قال أصحابنا : يشترط أن ينوي الباذل للحج عن المعضوب .

( فرع ) : إذا بذل الولد الطاعة وقبلها الأب ثم مات الباذل قبل الحج ، قال الدارمي : لمن كان قدر على الحج فلم يحج قضى من ماله ، وإن كان لم يقدر ، فلا شيء عليه ، قال : وعلى قول من قال : للباذل الرجوع يقوم ورثته مقامه في اختيار الرجوع ، وهذا الذي قاله من وجوب قضائه من تركة الباذل فيه نظر ، وهو محتمل .

( فرع ) : قال الدارمي وغيره : يلزم الباذل أن يحج من الميقات ، فإن جاوزه لزمه دم ، وكذا كل عمل يتعلق به فدية .

( فرع ) : قال أصحابنا : وشروط الباذل الذي يصح بذله ويجب به الحج أربعة : ( أحدها ) : أن يكون ممن يصح منه أداء حجة الإسلام بنفسه ، بأن يكون بالغا عاقلا حرا مسلما ( والثاني ) : كونه لا حج عليه ( والثالث ) : أن يكون موثوقا ببذله له ( والرابع ) : أن لا يكون معضوبا ، وقد سبق بيان هذه الشروط وقد أخذ المصنف بإيضاحها ، فأردت التنبيه عليها مفردة لتحفظ ، قال السرخسي : وذكر القفال مع هذه الشروط شرطا آخر ، وهو [ ص: 84 ] بقاء المطيع على الطاعة مدة إمكان الحج ، فلو رجع قبل الإمكان ، فلا وجوب ، كما إذا استجمع أسباب الاستطاعة في حق نفسه ، ففات بعضها قبل إمكان الحج ، فإنه يسقط الوجوب ، ولا نقول : إنه لم يجب ، والله أعلم .

( فرع ) : في مذاهب العلماء في وجوب الحج على المعضوب ، إذا وجد مالا وأجيرا بأجرة المثل ، قد ذكرنا أن مذهبنا وجوبه ، وبه قال جمهور العلماء منهم علي بن أبي طالب والحسن البصري والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وابن المنذر وداود ، وقال مالك : لا يجب عليه ذلك ، ولا يجب إلا أن يقدر على الحج بنفسه . واحتج بقوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وهذا لا يستطيع وبأنها عبادة لا تصح فيها النيابة مع القدرة ، فكذا مع العجز كالصلاة .

واحتج أصحابنا بحديث ابن عباس { أن امرأة من خثعم قالت : يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا ، لا يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : نعم . وذلك في حجة الوداع } رواه البخاري ومسلم ، وعن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : { إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال : حج عن أبيك واعتمر } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي : حديث حسن صحيح . وعن علي رضي الله عنه { أن جارية شابة من خثعم استفتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أبي شيخ كبير قد أقر ، وقد أدركته فريضة الله تعالى في الحج ، فهل يجزئ عنه أن أؤدي عنه ؟ قال : نعم فأدي عن أبيك } رواه أحمد والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .

وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال : { جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل ، والحج مكتوب عليه ، أفأحج عنه ؟ قال أنت أكبر ولده ؟ قال : نعم ، قال : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه [ ص: 85 ] أكان ذلك يجزئ عنه ؟ قال : نعم ، قال : فاحجج عنه } رواه أحمد والنسائي . والجواب عن قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } أنه وجد من المعضوب السعي وهو بذل المال والاستئجار ، عن قوله تعالى : ( من استطاع ) أن هذا مستطيع بماله ، وعن القياس على الصلاة أنها لا يدخلها المال والله أعلم .

( فرع ) : في مذاهبهم في المعضوب ، إذا لم يجد مالا يحج به غيره ، فوجد من يطيعه . قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب الحج عليه . وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد : لا يجب عليه ودليلنا ودليلهم يعرف مما ذكره المصنف مع ما ذكرته في الفرع قبله .

( فرع ) : في مذاهبهم فيما إذا أحج المعضوب عنه ، ثم شفي ، وقدر على الحج بنفسه . قد ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا أنه لا يجزئه ، وعليه أن يحج بنفسه ونقله القاضي عياض عن جمهور العلماء ، وقال أحمد وإسحاق : يجزئه .

التالي السابق


الخدمات العلمية