صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى ( فإن لم يكن واجدا للهدي في موضعه انتقل إلى الصوم ، وهو صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ، لقوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } فأما صوم ثلاثة أيام ( في الحج ) فلا يجوز قبل الإحرام بالحج ; لأنه صوم واجب . فلا يجوز قبل وجوبه كصوم رمضان ، ويجوز بعد الإحرام بالحج إلى يوم النحر ، والمستحب أن يفرغ منه قبل يوم عرفة فإنه يكره للحاج صوم يوم عرفة ، وهل يجوز صيامها في أيام التشريق ؟ فيه قولان ، وقد ذكرناهما في كتاب الصيام ( وأما ) صوم السبعة ففيه قولان ، قال في حرملة : لا يجوز حتى يرجع إلى أهله ، لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : من كان معه هدي فليهد ، ومن لم يكن يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله } وقال في الإملاء : يصوم إذا أخذ في السير خارجا من مكة لقوله تعالى : { وسبعة إذا رجعتم } وابتداء الرجوع إذا ابتدأ بالسير من مكة ، فإذا قلنا بهذا ففي الأفضل قولان : ( أحدهما ) الأفضل أن يصوم بعد الابتداء بالسير لأن تقديم العبادة في أول وقتها أفضل ، ( والثاني ) الأفضل أن يؤخر إلى أن يرجع إلى الوطن ليخرج من الخلاف فإن لم يصم الثلاثة حتى رجع إلى أهله لزمه صوم عشرة أيام . وهل يشترط التفريق بينهما ؟ وجهان : ( أحدهما ) ليس بشرط لأن التفريق وجب بحكم الوقت ، وقد فات فسقط كالتفريق بين الصلوات ( والثاني ) أنه يشترط وهو المذهب ; لأن ترتيب أحدهما على الآخر لا يتعلق بوقت فلم يسقط بالفوات كترتيب أفعال الصلاة ، ( فإن قلنا ) : بالوجه الأول صام عشرة أيام كيف شاء ، ( وإن قلنا ) : بالمذهب فرق بينهما بمقدار ما وجب التفريق بينهما في الأداء ) .


[ ص: 186 ] الشرح ) أما حديث جابر فرواه البيهقي من رواية جابر بإسناد جيد ، ورواه البخاري ومسلم من رواية ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه هذا . وأما أحكام الفصل فقال أصحابنا : إذا وجد المتمتع الهدي في موضعه لم يجز له العدول إلى الصوم لقوله تعالى : { فمن لم يجد } وهذا مجمع عليه ، فإن عدم الهدي في موضعه لزم صوم عشرة أيام ، سواء كان له مال غائب في بلده أو غيره ، أم لم يكن ، بخلاف الكفارة فإنه يشترط في الانتقال إلى الصوم فيها العدم مطلقا ، والفرق أن بدل الدم مؤقت بكونه في الحج ولا توقيت في الكفارة ولأن الهدي يختص ذبحه بالحرم بخلاف الكفارة ، قال أصحابنا : من وجد الهدي وثمنه لكنه لا يباع إلا بأكثر من ثمن المثل فهو كالمعدوم ، فله الانتقال إلى الصوم ولو وجد الثمن وعدم الهدي في الحال وعلم أنه يجده قبل فراغ الصوم هل يجوز الانتقال إلى الصوم ؟ فيه قولان حكاهما البغوي : ( أصحهما ) الجواز وهو مقتضى كلام الجمهور ، وسبق مثل هذا الخلاف في التيمم . قال البغوي : ولو كان يرجو الهدي ولا يتيقنه جاز الصوم ، وهل يستحب انتظار الهدي ؟ فيه قولان كالتيمم ، قال : فإن لم يجد هديا لم يجز تأخير الصوم لأنه مضيق ، كمن عدم الماء يصلي بالتيمم ، ولا يجوز التأخير بخلاف جزاء الصيد ، فإنه يجوز تأخيره إذا غاب ماله ; لأنه يقبل التأخير ككفارة القتل والجماع والله أعلم .

ثم الصوم الواجب يقسم ثلاثة وسبعة ، فالثلاثة يصومها في الحج ولا يجوز تقديمها على الإحرام بالحج ، ولا يجوز صوم شيء منها يوم النحر ، وفي أيام التشريق قولان سبقا في كتاب الصيام . ويستحب صوم جميع الثلاثة قبل يوم عرفة ; لأنه يستحب للحاج فطر يوم عرفة ، ( وأما ) قول المصنف : يكره صومه فخلاف عبارة الجمهور كما سبق في بابه ، وإنما يمكنه هذا إذا تقدم إحرامه بالحج على اليوم السادس من ذي الحجة . [ ص: 187 ] وقال أصحابنا : يستحب للمتمتع الذي هو من أهل الصوم أن يحرم بالحج قبل السادس . وحكى الحناطي وجها أنه إذا لم يتوقع هديا وجب تقديم الإحرام بالحج على السابع ، ليمكنه صوم الثلاثة قبل يوم النحر ، ( والمذهب ) أنه مستحب لا واجب ، ( وأما ) واجد الهدي فيستحب أن يحرم بالحج يوم التروية ، وهو الثامن من ذي الحجة ، وقد سبق بيانه قريبا ولا يجوز تأخير الثلاثة ولا شيء منها عن يوم عرفة ، نص عليه الشافعي في المختصر ، وتابعه الأصحاب . ودليله قوله تعالى ( { ثلاثة أيام في الحج } ) . قال أصحابنا : وإذا فات صوم الثلاثة في الحج لزمه قضاؤها ، ولا دم عليه ، وخرج ابن سريج وأبو إسحاق المروزي قولا أنه يسقط الصوم ويستقر الهدي في ذمته ، حكاه الشيخ أبو حامد والماوردي وآخرون عن أبي إسحاق وحكاه المحاملي وابن الصباغ وآخرون عن ابن سريج وحكاه صاحب البيان وآخرون عنهما . والمذهب الأول ، قال أصحابنا : ويحصل فواتها بفوات يوم عرفة إن قلنا : لا يجوز صوم أيام التشريق ، وإن جوزناه حصل الفوات بخروج أيام التشريق ، ولا خلاف أنها تفوت بخروج أيام التشريق حتى لو تأخر طواف الزيارة عن أيام التشريق كأن يعيد في الحج ، وكان صوم الثلاثة بعد التشريق قضاء وإن بقي الطواف ; لأن تأخيره بعيد في العادة فلا يحمل على قول الله - تعالى - ( ثلاثة أيام في الحج ) هكذا ذكره إمام الحرمين وآخرون ، وحكى البغوي فيه وجها آخر ، قال أصحابنا : ( فإن قلنا ) : أيام التشريق يجوز له صومها فصامها كان صومها أداء والله أعلم . .

( وأما ) السبعة فوقتها إذا رجع ، وفي المراد بالرجوع قولان مشهوران ، ذكرهما المصنف بدليلهما : ( أصحهما ) عند الأصحاب الرجوع إلى أهله ووطنه ، نص عليه الشافعي في المختصر وحرملة ، ( والثاني ) أنه الفراغ من الحج ، وهو نصه في الإملاء ( فإذا قلنا ) : بالوطن فالمراد به كل [ ص: 188 ] ما يقصد استيطانه بعد فراغه من الحج ، سواء كان بلده الأول أم غيره . قال أصحابنا : فلو أراد أن يتوطنمكة بعد فراغه من الحج صام بها ، وإن لم يتوطنها لم يصح صومه بها ، وهل يجوز في الطريق وهو متوجه إلى وطنه ؟ فيه طريقان : ( أصحهما ) القطع بأنه لا يجوز ، وبه قطع العراقيون ، ( والثاني ) فيه وجهان : ( أصحهما ) لا يجوز ; لأنه قبل وقته ، ( والثاني ) يجوز ; لأنه يسمى راجعا . حكاه الخراسانيون .

( وإن قلنا ) : المراد بالرجوع الفراغ فأخره حتى رجع إلى وطنه جاز ، وهل هو أفضل أم التقديم ؟ فيه قولان مشهوران ، ذكرهما المصنف بدليلهما : ( أصحهما ) التأخير أفضل ، ولا يجوز صوم شيء من السبع في أيام التشريق ، وإن جوزنا صيامها لغيره فهذا لا خلاف فيه ; لأنه لا يسمى راجعا ، ولأنه يعد في الحج وإن تحلل . وحكى الخراسانيون قولا أن المراد بالرجوع الرجوع إلى مكة من منى ، وجعل إمام الحرمين والغزالي هذا قولا غير قول الفراغ من الحج ، قال الرافعي : ومقتضى كلام كثير من الأصحاب أنهما شيء واحد ، قال : وهو الأشبه ، قال : وعلى تقدير كونه قولا آخر يتفرع عليه أنه لو رجع من منى إلى مكة صح صومه ، وإن تأخر طواف الوداع ، وهذا الذي قاله الرافعي عجب ، فإن الرجوع إلى مكة غير الفراغ فقد يفرغ ويتأخر عن مكة يوما أو أياما بعد التشريق . وذكر الماوردي خلافا في معنى نصه في الإملاء قال : قال أصحابنا البصريون : مذهبه في الإملاء أنه يصومها بعد شروعه من مكة إلى وطنه ، ولا يجوز صومها في مكة قبل خروجه ، قال : وقال أصحابنا البغداديون : مذهبه في الإملاء أنه يصومها إذا رجع إلى مكة من منى بعد فراغ مناسكه ، سواء أقام بمكة أو خرج منها ، وهذا الخلاف الذي حكاه الماوردي . حكاه أيضا صاحب الشامل وآخرون فحصل في المراد بالرجوع أربعة أقوال : ( أصحها ) إذا رجع إلى أهله ، ( والثاني ) إذا توجه من مكة راجعا [ ص: 189 ] إلى أهله ، ( والثالث ) إذا رجع من منى إلى مكة ، ( والرابع ) إذا فرغ من أفعال الحج وإن لم يرجع إلى مكة والله أعلم . .

( وأما ) من بقي عليه طواف الإفاضة فلا يجوز صيامه ، سواء قلنا : الرجوع إلى أهله أم الفراغ ، سواء كان بمكة أو في غيرها ، وحكى الدارمي فيه وجها ضعيفا أنه يجوز إذا قلنا : الرجوع الفراغ . قال أصحابنا : وإذا لم يصم الثلاثة في الحج ورجع ، لزمه صوم العشرة ، فالثلاثة قضاء والسبعة أداء ، وفي الثلاثة القول المخرج السابق أنه لا يصومها ، بل تستقر الهدي في ذمته ، فعلى المذهب هل يجب التفريق بين الثلاثة والسبعة ؟ فيه قولان ، وقيل وجهان ، وهما مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما : ( أصحهما ) عند المصنف والجمهور : يجب ، قال صاحب الشامل : وبهذا الوجه قال أكثر أصحابنا ، ممن صرح بتصحيحه المصنف والماوردي ( وأصحهما ) عند إمام الحرمين لا يجب فعلى الأول هل يجب التفريق بقدر ما يكون تفريق الأداء ؟ فيه قولان : ( أحدهما ) لا ، بل يكفي التفريق بيوم ، نص عليه الشافعي في الإملاء وبه قال أبو سعيد الإصطخري ( وأصحهما ) يجب ، وفي قدره أربعة أقوال تتولد من أصلين سبقا ، وهما صوم المتمتع أيام التشريق ، وأن الرجوع من ماذا ؟ .

( فإن قلنا ) بالأصح : إن المتمتع ليس له صوم أيام التشريق ، وأن الرجوع رجوعه إلى الوطن فالتفريق بأربعة أيام ، ومدة إمكان السير إلى أهله على العادة الغالبة ، وبهذا جزم المصنف وغيره ، ( وإن قلنا ) : له صومها ، والرجوع هو الرجوع إلى الوطن ، فالتفريق بمدة إمكان السير فقط ، ( وإن قلنا ) : له صومها والرجوع الفراغ فوجهان : ( أصحهما ) لا يجب التفريق ; لأنه ليس في الأداء تفريق ، وبه قطع صاحبا الشامل والبيان ( والثاني ) يجب التفريق بيوم ; لأن التفريع كله على وجوب التفريق .

فإن أردت اختصار الأقوال التي تجيء فيمن لم يصم الثلاثة في الحج [ ص: 190 ] كانت ستة : ( إحداها ) لا صوم بل ينتقل إلى الهدي ، ( والثاني ) عليه صوم عشرة أيام متفرقة أو متتابعة ، ( والثالث ) عشرة ويفرق بيوم فصاعدا ، ( والرابع ) يفرق بأربعة فقط ، ( والخامس ) يفرق بمدة إمكان السير ، ( والسادس ) بأربعة ومدة إمكان السير ، وهذا أصحها فلو صام عشرة متوالية وقلنا بالمذهب : وهو وجوب قضاء الثلاثة أجزأه إن لم نشترط التفريق ، فإن شرطناه واكتفينا بالتفريق بيوم لم يعتد باليوم الرابع ويستحب ما بعده ، فيصوم يوما آخر ، هذا هو الصحيح المشهور ، وفي وجه لا يعتد بشيء سوى الثلاثة حكاه الفوراني وآخرون ، وفي وجه الإصطخري لا يعتد بالثلاثة أيضا إذا نوى السابع ، وهما شاذان ضعيفان ، وممن حكى هذا الأخير الدارمي والماوردي والرافعي وآخرون . قال الماوردي : هذا الذي قاله الإصطخري غلط فاحش ; لأن تفريق الصوم ومتابعته يتعلق بالفعل لا بالنية ، ولأن فساد بعض الأيام لا يلزم منه فساد غيره فلا يجوز إفساد الثلاثة لفساد السبعة ، قال أصحابنا : وإن شرطنا التفريق بأكثر من يوم لم يعتد بذلك القدر . هكذا ذكر الأصحاب هذا التفصيل وقال صاحب البيان بعد أن نقل هذا عن الأصحاب : ينبغي أن يقال في القول الأخير : يفرق بقدر مدة السير وثلاثة أيام لا أربعة ، وفي القول الخامس بقدر مدة السير إلا يوما ، واستدل له بما لا دلالة فيه . قال صاحب الشامل والأصحاب : قال الشافعي في الإملاء : أقل ما يفرق بينهما بيوم ، قالوا : واختلف أصحابنا في معناه فقال أبو إسحاق : هذا تفريع على جواز صيام أيام التشريق عن كل صوم له سبب ; لأنه كان يمكنه أن يفرغ من الثلاثة يوم عرفة ويفطر يوم النحر ، ثم يصوم التشريق عن سبعة . قال صاحب الشامل : وهذا الوجه خطأ فاحش من قائله ، لأن صوم السبعة لا يجوز في أيام التشريق بالإجماع ; لأنه إنما يجوز بعد فراغ الحج أو بعد الرجوع إلى أهله ، ومن أصحابنا من قال : هذا قول [ ص: 191 ] للشافعي مستقل ليس مبنيا على شيء ; لأن الله - تعالى - أمر بالتفريق بينهما ، والتفريق يحصل بيوم ، والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : كل واحد من صوم الثلاثة والسبعة لا يجب التتابع فيه ، لكن يستحب ، هكذا صرح به صاحب الشامل والجمهور ، وقال الدارمي : في وجوب التتابع في كل واحد منهما وجهان ، وحكى الماوردي والرافعي وغيرهما في وجوب التتابع قولا مخرجا من كفارة اليمين ، وهو شاذ ضعيف والمذهب ما سبق .

( فرع ) ينوي بهذا الصوم صوم التمتع ، وإن كان قارنا نوى صوم القران ، وإذا صام الثلاثة في الحج والسبعة بعد الرجوع لم يلزمه نية التفرقة . هذا هو المذهب ، وحكى الدارمي فيه طريقين : ( أحدهما ) هذا ، ( والثاني ) في وجوبه وجهان حكاه عن حكاية ابن القطان ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية