صفحة جزء
[ ص: 196 ] باب المواقيت قال المصنف رحمه الله تعالى ( ميقات أهل المدينة ذو الحليفة ، وميقات أهل الشام الجحفة ، وميقات أهل نجد قرن ، وميقات أهل اليمن يلملم ، لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ، وأهل الشام من الجحفة ، وأهل نجد من قرن } قال ابن عمر رضي الله عنهما : { وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يهل أهل اليمن من يلملم وأهل الشام من الجحفة } ( وأما ) أهل العراق فميقاتهم ذات عرق ، وهل هو منصوص عليه ؟ أو مجتهد فيه ؟ قال الشافعي رحمه الله في الأم : هو غير منصوص عليه ووجهه ما روي عن ابن عمر قال { : لما فتح المصران أتوا عمر رضي الله عنه قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرن ، وإنا إذا أردنا أن نأتي قرن شق علينا ، قال : فانظروا حذوها من طريقكم قال : فحد لهم ذات عرق } ومن أصحابنا من قال : هو منصوص عليه ومذهبه ما ثبتت به السنة ، والدليل عليه ما روى جابر بن عبد الله قال { : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يهل أهل المشرق من ذات عرق } وروت عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق } قال الشافعي رحمه الله : ولو أهل أهل المشرق من العقيق كان أحب إلي ; لأنه روي عن ابن عباس قال : { وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق } ولأنه أبعد من ذات عرق فكان أفضل ) . .


( الشرح ) حديث ابن عمر الأول رواه البخاري ومسلم من طرق هكذا ، وروياه من رواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم { وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم ، قال : هن لهن ولكل من أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة } " هذا لفظ رواية البخاري ومسلم وفي رواية لهما : [ ص: 197 ] { فمن كان دونهن فمهله من أهله ، وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها } ( وأما ) حديث ابن عمر الثاني : { لما فتح المصران } إلخ فرواه البخاري في صحيحه .

( وأما ) حديث جابر في ذات عرق فضعيف ، رواه مسلم في صحيحه ، لكنه قال في روايته عن أبي الزبير أنه { سمع جابرا يسأل عن المهل فقال : سمعت أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : مهل أهل العراق من ذات عرق } فهذا إسناد صحيح ، لكنه لم يجزم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا يثبت رفعه بمجرد هذا ، ورواه ابن ماجه من رواية إبراهيم بن يزيد الجوزي - بضم الجيم المعجمة - بإسناده عن جابر مرفوعا بغير شك لكن الجوزي ضعيف لا يحتج بروايته ، ورواه الإمام أحمد في مسنده عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك أيضا ، لكنه من رواية الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف . وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم { وقت لأهل العراق ذات عرق } رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم بإسناد صحيح ، لكن نقل ابن عدي أن أحمد بن حنبل أنكر على أفلح بن حميد روايته هذه ، وانفراده به أنه ثقة وعن ابن عباس قال { : وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق } رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث [ ص: 198 ] حسن ، وليس كما قال ، فإنه من رواية يزيد بن زياد وهو ضعيف باتفاق المحدثين . وعن الحارث بن عمرو السهمي الصحابي رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق } رواه أبو داود

عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه وقت لأهل المشرق ذات عرق } رواه الشافعي والبيهقي بإسناد حسن . وعن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، وعطاء من كبار التابعين ، وقد قدمنا في مقدمة هذا الشرح أن مذهب الشافعي الاحتجاج بمرسل كبار التابعين إذا اعتضد بأحد أربعة أمور ( منها ) أن يقول به بعض الصحابة أو أكثر العلماء ، وهذا قد اتفق على العمل به الصحابة ومن بعدهم ، قال البيهقي : هذا هو الصحيح من رواية عطاء أنه رواه مرسلا ، قال : قد رواه الحجاج بن أرطاة عن عطاء وغيره متصلا ، والحجاج ظاهر الضعف ، فهذا ما يتعلق بأحاديث الباب .

( وأما ) ألقاب الفصل وألفاظه ، ( فقوله ) ذو الحليفة هو - بضم الحاء المهملة وبالفاء - وهو موضع معروف بقرب المدينة بينه وبينها نحو ستة أميال ، وقيل : غير ذلك ، وبينه وبين مكة نحو عشر مراحل فهو أبعد المواقيت من مكة ( وأما ) الجحفة فبجيم مضمومة ثم حاء مهملة ساكنة - ويقال لها : مهيعة - بفتح الميم والياء مع سكون الهاء بينهما - وهي قرية كبيرة بين مكة والمدينة على نحو ثلاث مراحل من مكة سميت جحفة ; لأن السيل جحفها في الزمن الماضي .

( وأما ) يلملم - بفتح الياء المثناة تحت ، واللامين - وقيل له : ألملم - بفتح الهمزة - وحكي صرفه وترك صرفه وهو على مرحلتين من مكة ( وأما ) قرن - فبفتح القاف وإسكان الراء - بلا خلاف بين أهل الحديث واللغة والتواريخ وغيرهم ، وهو جبل بينه وبين مكة مرحلتان ، ويقال له : قرن المبارك ( وأما ) قول الجوهري : إنه بفتح الراء وأن [ ص: 199 ] أويسا القرني منسوب إليه فغلط باتفاق العلماء ، فقد اتفقوا على أنه غلط فيه في شيئين فتح رائه ونسبة أويس إليه وإنما هو منسوب رضي الله عنه إلى قرن قبيلة من مراد بلا خلاف بين أهل المعرفة ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أويس بن عامر من مراد ثم من قرن } ( وقوله ) صلى الله عليه وسلم : " يهل " معناه يحرم برفع الصوت .

( وأما ) ذات عرق - فبكسر العين المهملة - وهي قرية على مرحلتين من مكة ، وقد خربت .

( وأما ) العقيق فقال الإمام أبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة : يقال لكل مسيل ماء شقه السيل فأنهره ووسعه عقيق ، قال : وفي بلاد العرب أربعة أعقة وهي أودية عادية ( منها ) عقيق يدفق ماؤه في غور تهامة ، وهو الذي ذكره الشافعي فقال : لو أهلوا من العقيق كان أحب إلي ( وقوله ) : لما فتح المصران - يعني البصرة والكوفة - ومعنى فتحا نشآ أو أنشئا ، فإنهما أنشئا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهما مدينتان إسلاميتان ، وقد أوضحتهما في تهذيب اللغات . أما الأحكام فقد قال ابن المنذر وغيره : أجمع العلماء على هذه المواقيت . قال أصحابنا : ميقات الحج والعمرة زماني ومكاني ( أما ) الزماني فسبق بيانه واضحا في الباب الذي قبل هذا ( وأما ) المكاني فالناس فيه ضربان : ( أحدهما ) المقيم بمكة مكيا كان أو غيره ، وفي ميقات الحج في حقه وجهان ، وغيره قولان : ( أصحهما ) نفس مكة ، وهو ما كان داخلا منها ، ( والثاني ) مكة وسائر الحرم ، وقال البندنيجي : دليل الأصح حديث ابن عباس السابق لأن مكة والحرم في الحرمة سواء على الصحيح ، فعلى الأول لو فارق بنيان مكة وأحرم في الحرم فهو مسيء يلزمه الدم إن لم يعد ، كمجاوزة سائر المواقيت ، وعلى الثاني حيث أحرم في الحرم لا إساءة . [ ص: 200 ] أما ) إذا أحرم خارج الحرم فمسيء بلا خلاف ، فيأثم ويلزمه الدم إلا أن يعود قبل الوقوف بعرفات إلى مكة على الأصح أو إلى الحرم على الثاني .

قال أصحابنا : ويجوز الإحرام من كل موضع من مكة بلا خلاف ، لعموم حديث ابن عباس ، وفي الأفضل قولان ، وقيل : وجهان : ( أحدهما ) أن يتهيأ للإحرام ويحرم من المسجد قريبا من الكعبة ، إما تحت الميزاب وإما في غيره ( وأصحهما ) أن الأفضل أن يحرم من باب داره ، ويأتي المسجد محرما ، وبه قطع البغوي وغيره لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : { ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ } ( وأما ) الميقات الزماني للمكي فهو كغيره ، لكن يستحب له الإحرام بالحج يوم التروية ، وهو الثامن من ذي الحجة ، وقد سبق بيانه واضحا في الباب قبل .

( الضرب الثاني ) غير المكي وهو صنفان : ( أحدهما ) من مسكنه بين الميقات ومكة ، فميقاته القرية التي يسكنها أو الحلة التي ينزلها البدوي ، فإن أحرم بعد مجاوزتها إلى مكة فمسيء بلا خلاف ، ودليله حديث ابن عباس ( الصنف الثاني ) من مسكنه فوق الميقات الشرعي ، ويسمى هذا الأفقي بضم الهمزة وفتحها - فيجب عليه الإحرام من ميقات بلده ، والمواقيت الشرعية خمسة : ( أحدها ) ذو الحليفة وهو ميقات من توجه من المدينة ( والثاني ) الجحفة ميقات المتوجهين من الشام ومصر والمغرب ، هكذا قال الأصحاب ، وأهمل المصنف ذكر مصر والمغرب مع أنه ذكر مصر في التنبيه ( الثالث ) يلملم ميقات المتوجهين ، من اليمن ( الرابع ) قرن ميقات المتوجهين من نجد اليمن ونجد الحجاز ، هكذا قاله الشافعي في المختصر والأصحاب ، [ ص: 201 ] ولم ينبه المصنف على إيضاحه ( الخامس ) ذات عرق ميقات المتوجهين من العراق وخراسان .

قال أصحابنا : والمراد بقولنا : ميقات اليمن يلملم ، أي ميقات تهامة اليمن لا كل اليمن ، فإن اليمن تشمل نجدا وتهامة ، قال أصحابنا وغيرهم : والأربعة الأولى من هذه الخمسة نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف ، وهذا مجمع عليه للأحاديث ، وفي ذات عرق وجهان ذكرهما المصنف وسائر الأصحاب : ( أحدهما ) وهو نص الشافعي في الأم كما ذكره المصنف وغيره ، أنه مجتهد فيه ، اجتهد فيه عمر رضي الله عنه لحديث ابن عمر السابق : { لما فتح المصران } ( والثاني ) وهو الصحيح عند جمهور أصحابنا أنه منصوص عليه من النبي صلى الله عليه وسلم وممن صرح بتصحيحه الشيخ أبو حامد في تعليقه ، والمحاملي في كتابيه المجموع والتجريد ، وصاحب الحاوي ، واختاره القاضي أبو الطيب في تعليقه وصاحب الشامل وغيرهما ، قال الرافعي : وإليه ميل الأكثرين . ورجح جماعة كونه مجتهدا فيه ، منهم القاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهما ، وقطع به الغزالي في الوسيط ، قال إمام الحرمين : الصحيح أن عمر وقته قياسا على قرن ويلملم ، قال : والذي عليه التعويل أنه باجتهاد عمر وذكر القاضي أبو الطيب في تعليقه أن قول الشافعي قد اختلف في ذات عرق ، فقال في موضع : هو منصوص عليه ، وفي موضع ليس منصوصا عليه ، وممن قال : إنه مجتهد فيه من السلف طاوس وابن سيرين وأبو الشعثاء جابر بن زيد . وحكاه البيهقي وغيره عنهم ، وممن قال من السلف : إنه منصوص عليه ، عطاء بن أبي رباح وغيره . وحكاه ابن الصباغ عن أحمد وأصحاب أبي حنيفة .

( واحتج ) من قال : إنه مجتهد فيه بحديث ابن عمر : " لما فتح المصران " ( واحتج ) القائلون بأنه منصوص عليه بالأحاديث السابقة فيه [ ص: 202 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة ، فمجموعها يقوي بعضه بعضا ، ويصير الحديث حسنا ، ويحتج به ، ويحمل تحديد عمر رضي الله عنه باجتهاده على أنه لم يبلغه تحديد النبي صلى الله عليه وسلم فحدده باجتهاده فوافق النص ، وكذا قال الشافعي في أحد نصيه السابقين : إنه مجتهد فيه ، لعدم ثبوت الحديث عنده ، وقد اجتمعت طرقه عند غيره فقوي وصار حسنا ، والله أعلم .

قال الشافعي في المختصر والمصنف وسائر الأصحاب : لو أحرم أهل المشرق من العقيق كان أفضل ، وهو واد وراء ذات عرق مما يلي المشرق ، وقال أصحابنا : والاعتماد في ذلك على ما في العقيق من الاحتياط ، قيل : وفيه سلامة من التباس وقع في ذات عرق لأن ذات عرق قرية خربت وحول بناؤها إلى جهة مكة ، فالاحتياط الإحرام قبل موضع بنائها الآن ، قالوا : ويجب على من أتى من جهة العراق أن يتحرى ويطلب آثار القرية العتيقة . ويحرم حين ينتهي إليها ، قال الشافعي : ومن علاماتها المقابر القديمة ، فإذا انتهى إليها أحرم ، واستأنس المصنف والأصحاب في ذلك مع ما ذكرناه من الاحتياط بحديث توقيت العقيق السابق ، والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : أعيان ، هذه المواقيت لا تشترط ، بل الواجب عينها أو حذوها ، قالوا : ويستحب أن يحرم من أول الميقات ، وهو الطرف الأبعد من مكة حتى لا يمر بشيء مما يسمى ميقاتا غير محرم ، قال أصحابنا : ولو أحرم من الطرف الأقرب إلى مكة جاز بلا خلاف لحصول الاسم .

( فرع ) قال أصحابنا : الاعتبار في هذه المواقيت الخمسة بتلك المواضع لا باسم القرية والبناء ، فلو خرب بعضها ونقلت عمارته إلى موضع آخر قريب منه وسمي باسم الأول لم يتغير الحكم ، بل الاعتبار بموضع الأول .

التالي السابق


الخدمات العلمية