صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن كانت داره فوق الميقات فله أن يحرم من الميقات ، وله أن يحرم من فوق الميقات ، لما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا : " إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك " وفي الأفضل ( أحدهما ) أن الأفضل أن يحرم من الميقات ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة ، ولم يحرم من المدينة ، ولأنه إذا أحرم من بلده لم يأمن أن يرتكب محظورات الإحرام ، وإذا أحرم من الميقات أمن ذلك . فكان الإحرام من الميقات أفضل ، ( والثاني ) أن الأفضل أن يحرم من داره ، لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ووجبت له الجنة } ) .


( الشرح ) حديث إحرام النبي صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة صحيح مشهور مستفيض رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية جماعة من الصحابة ( وأما ) حديث أم سلمة فرواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي وآخرون ، وإسناده ليس بالقوي ( وأما ) الأثر عن عمر وعلي [ ص: 205 ] رضي الله عنهما فرواه الشافعي وغيره بإسناد قوي ( واعلم ) أنه وقع في المهذب في حديث أم سلمة { وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة } بالواو ، وكذا وقع في أكثر كتب الفقه والصواب " أو وجبت " بأو وهو شك من عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس أحد رواته ، هكذا هو بأو في كتب الحديث ، وصرحوا بأن ابن يحنس هو الذي شك فيه ، ويحنس - بمثناة من تحت مضمومة ثم حاء مهملة مفتوحة ثم نون مكسورة ومفتوحة ثم سين مهملة . أما أحكام الفصل فأجمع من يعتد به من السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم على أنه يجوز الإحرام من الميقات ومما فوقه ، وحكى العبدري وغيره عن داود أنه قال : لا يجوز الإحرام مما فوق الميقات وأنه لو أحرم مما قبله لم يصح إحرامه ويلزمه أن يرجع ويحرم من الميقات ، وهذا الذي قاله مردود عليه بإجماع من قبله ، ( وأما ) الأفضل ففيه قولان للشافعي مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما : ( أحدهما ) الإحرام من الميقات أفضل ، ( والثاني ) مما فوقه أفضل وهذان القولان مشهوران في طريقتي العراق وخراسان وفي المسألة طريق آخر : وهو أن الإحرام أفضل من دويرة أهله قولا واحدا ، وهي قول القفال وهي مشهورة في كتب الخراسانيين ، وهي ضعيفة غريبة والصحيح المشهور أن المسألة على القولين ثم إن هذين القولين منصوصان في الجديد نقلهما الأصحاب عن الجديد : ( أحدهما ) الأفضل أن يحرم من دويرة أهله نص عليه في الإملاء ، ( والثاني ) الأفضل الإحرام من الميقات نص عليه في البويطي والجامع الكبير للمزني .

( وأما ) الغزالي فقال في الوسيط : لو أحرم قبل الميقات فهو أفضل ، قطع به في القديم ، وقال في الجديد : هو مكروه وهو متأول ، ومعناه أن [ ص: 206 ] يتوقى المخيط والطيب من غير إحرام ، وكذا نقل الفوراني في الإبانة أنه كره في الجديد الإحرام قبل الميقات ، وكأن الغزالي تابع الفوراني في هذا النقل ، وهو نقل ضعيف غريب لا يعرف لغيرهما ، ونسبه صاحب البحر إلى بعض أصحابنا بخراسان ، والظاهر أنه أراد الفوراني ، ثم قال صاحب البحر : هذا النقل غلط ظاهر ، وهذا الذي قاله صاحب البحر من التغليط هو الصواب ، فإن الذي كرهه الشافعي في الجديد أنه هو التجرد عن المخيط لا الإحرام قبل الميقات ، بل نص في الجديد على الإنكار على من كره الإحرام قبل الميقات . واختلف أصحابنا في الأصح من هذين القولين فصححت طائفة الإحرام من دويرة أهله ، ممن صرح بتصحيحه القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد والروياني في البحر والغزالي والرافعي في كتابيه وصحح الأكثرون والمحققون تفضيل الإحرام من الميقات ممن صححه المصنف في التنبيه وآخرون ، وقطع به كثيرون من أصحاب المختصرات ، منهم أبو الفتح سليم الرازي في الكفاية ، والماوردي في الإقناع ، والمحاملي في المقنع ، ، وأبو الفتح نصر المقدسي في الكافي ، وغيرهم ، وهو الصحيح المختار ، وقال الرافعي : في المسألة ثلاث طرق : ( أصحها ) على قولين ، ( والثاني ) القطع باستحبابه من دويرة أهله ، ( والثالث ) أن من [ خشي ] على نفسه من ارتكاب محظورات الإحرام فدويرة أهله أفضل ، وإلا فالميقات .

( والأصح ) على الجملة أن الإحرام من الميقات أفضل ، للأحاديث الصحيحة المشهورة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم في حجته من الميقات } وهذا مجمع عليه ، وأجمعوا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد وجوب الحج ولا بعد الهجرة غيرها { وأحرم صلى الله عليه وسلم عام الحديبية بالعمرة من ميقات المدينة ذي الحليفة } رواه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي ، وكذلك أحرم معه صلى الله عليه وسلم بالحجة المذكورة والعمرة المذكورة أصحابه من الميقات ، وهكذا فعل بعده صلى الله عليه وسلم [ ص: 207 ] أصحابه والتابعون وجماهير العلماء ، وأهل الفضل ، فترك النبي صلى الله عليه وسلم الإحرام من مسجده الذي صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ، وأحرم من الميقات فلا يبقى بعد هذا شك في أن الإحرام من الميقات أفضل .

( فإن قيل ) : إنما أحرم النبي صلى الله عليه وسلم من الميقات ليبين جوازه ، ( فالجواب ) من أوجه : ( أحدهما ) أنه صلى الله عليه وسلم قد بين الجواز بقوله صلى الله عليه وسلم : { مهل أهل المدينة من ذي الحليفة } ، ( الثاني ) أن بيان الجواز إنما يكون فيما يتكرر فعله ، ففعله صلى الله عليه وسلم مرة أو مرات يسيرة على أقل ما يجزئ بيانا للجواز ، ويداوم في عموم الأحوال على أكمل الهيئات ، كما توضأ مرة مرة في بعض الأحوال ، وداوم على الثلاث ، ونظائر هذا كثيرة ، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أحرم من المدينة ، وإنما أحرم بالحج وعمرة الحديبية من ذي الحليفة ( الثالث ) أن بيان الجواز إنما يكون في شيء اشتهر أكمل أحواله بحيث يخاف أن يظن وجوبه ، ولم يوجد ذلك هنا . وهذا كله إنما يحتاج إليه على تقدير دليل صريح صحيح في مقابلته ولم يوجد ذلك ، فإن حديث أم سلمة قد سبق أن إسناده ليس بقوي ، فيجاب عنه بأربع أجوبة : ( أحدها ) أن إسناده ليس بقوي ، ( الثاني ) أن فيه بيان فضيلة الإحرام من فوق الميقات ، وليس فيه أنه أفضل من الميقات ، ولا خلاف أن الإحرام من فوق الميقات فيه فضيلة ، وإنما الخلاف أيهما أفضل ؟ ( فإن قيل ) : هذا الجواب يبطل فائدة تخصيص المسجد الأقصى ، ( فالجواب ) أن فيه فائدة ، وهي تبيين قدر الفضيلة فيه ، ( الجواب الثالث ) أن هذا معارض لفعله صلى الله عليه وسلم المتكرر في حجته وعمرته ، فكان فعله المتكرر أفضل ، ( الرابع ) أن هذه الفضيلة جاءت في المسجد الأقصى لأن له مزايا عديدة معروفة ، ولا يوجد ذلك في غيره فلا يلحق به ، والله أعلم .

[ ص: 208 ] فرع ) في مذاهب العلماء في هذه المسألة . قد ذكرنا أن الأصح أن يحرم من الميقات ، وبه قال عطاء والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق وروي عن عمر بن الخطاب حكاه ابن المنذر عنهم كلهم ، ورجح آخرون دويرة أهله المشهور عن عمر وعلي وبه قال أبو حنيفة وحكاه ابن المنذر عن علقمة والأسود وعبد الرحمن وأبي إسحاق يعني السبيعي - ودليل الجميع سبق بيانه ، قال ابن المنذر : وثبت أن ابن عمر أهل من إيليا وهو بيت المقدس .

( فرع ) إن قيل : ما الفرق بين ميقات الزمان والمكان ؟ حيث جاز تقديم الإحرام على ميقات المكان دون الزمان ؟ فالجواب ما أجاب به الجرجاني ، في المعاياة أن ميقات المكان يختلف باختلاف البلاد ، بخلاف ميقات الزمان ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية