صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن بلغ الميقات مريدا للنسك لم يجز أنه يجاوزه حتى يحرم ، لما ذكرناه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما فإن جاوزه وأحرم دونه نظرت [ ص: 213 ] فإن كان له عذر بأن يخشى أن يفوته الحج ، أو الطريق مخوف - لم يعد وعليه دم ، وإن لم يخش شيئا لزمه أن يعود لأنه نسك واجب مقدور عليه ، فلزمه الإتيان به ، فإن لم يرجع لزمه الدم ، وإن رجع نظرت - فإن كان قبل أن يتلبس بنسك - سقط عنه الدم ; لأنه قطع المسافة بالإحرام وزاد عليه ، فلم يلزمه دم ، وإن عاد بعدما وقف أو بعدما طاف لم يسقط عنه الدم . لأنه عاد بعد فوات الوقت فلم يسقط عنه الدم ، كما لو دفع من الموقف قبل الغروب ثم عاد في غير وقته ) .


( الشرح ) قال الشافعي والأصحاب : إذا انتهى الآفاقي إلى الميقات وهو يريد الحج أو العمرة أو القران حرم عليه مجاوزته غير محرم بالإجماع ، فإن جاوزه فهو مسيء سواء كان من أهل تلك الناحية أم من غيرها . كالشامي يمر بميقات المدينة . قال أصحابنا : ومتى جاوز موضعا يجب الإحرام منه غير محرم أثم وعليه العود إليه والإحرام منه إن لم يكن له عذر ، فإن كان عذر كخوف الطريق أو انقطاع عن رفقته أو ضيق الوقت ، أو مرض شاق أحرم من موضعه ومضى وعليه دم إذا لم يعد فقد أثم بالمجاوزة ، ولا يأثم بترك الرجوع ، فإن عاد فله حالان : ( أحدهما ) يعود قبل الإحرام فيحرم منه فالمذهب الذي قطع به المصنف والجماهير لا دم عليه ، سواء كان دخل مكة أم لا . وقال إمام الحرمين والغزالي : إن عاد قبل أن يبعد عن الميقات بمسافة القصر سقط الدم ، وإن عاد بعد دخول مكة وجب ولم يسقط بالعود ، وإن عاد بعد مسافة القصر وقبل دخول مكة فوجهان : ( أصحهما ) يسقط ، وهذا التفصيل شاذ منكر .

( الحال الثاني ) أن يحرم بعد مجاوزة الميقات محرما فطريقان : ( أحدهما ) في سقوط الدم وجهان وقيل قولان حكاهما الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب في تعليقه وصاحب الشامل وآخرون . قال القاضي أبو الطيب : هما قولان وكان الشيخ أبو حامد يقول وجهان . قال : والصحيح قولان ، وسواء عند هؤلاء رجع من مسافة قريبة أو بعيدة ، [ ص: 214 ] لكنهم شرطوا رجوعه قبل تلبسه بنسك ( والطريق الثاني ) وهو الصحيح ، وبه قطع المصنف والجمهور أنه يفصل ، فإن عاد قبل التلبس بنسك سقط الدم ، وإن عاد بعده لم يسقط سواء كان النسك ركنا كالوقوف والسعي أو سنة كطواف القدوم وفيه وجه ضعيف أنه لا أثر للتلبس بالسنة فيسقط بالعود بعد ، حكاه البغوي والمتولي وآخرون ، كما لو كان محرما بالعمرة مما دون الميقات وعاد إليه بعد طوافها ، فإنه لا يسقط الدم بالعود بلا خلاف والمذهب الأول .

ويخالف المعتمر ، فإنه عاد بعد فعله معظم أفعال النسك . والحاج لم يأت بشيء من أعمال النسك الواجبة فسقط عنه الدم ، واعلم أن جمهور الأصحاب لم يتعرضوا لزوال الإساءة بالعود ، وقد قال صاحب البيان : وهل يكون مسيئا بالمجاوزة إذا عاد إلى الميقات حيث سقط الدم ؟ فيه وجهان حكاهما في الفروع . الظاهر أنه لا يكون مسيئا ; لأنه حصل فيه محرما ، ( والثاني ) يصير مسيئا ; لأن الإساءة حصلت بنفس المجاوزة فلا يسقط . قال أصحابنا : ولا فرق في لزوم الدم في كل هذا بين المجاوز للميقات عامدا عالما أو جاهلا أو ناسيا لكن يفترقون في الإثم ، فلا إثم على الناسي والجاهل ، قال القاضي أبو الطيب والمتولي وغيرهما : ويخالف ما لو تطيب ناسيا لا دم عليه ; لأن الطيب من المحظورات ، والنسيان عذر عندنا في المحرمات كالأكل والصوم والكلام في الصلاة ، ( وأما ) الإحرام من الميقات فمأمور به والجهل والنسيان في المأمور به لا يجعل عذرا والله أعلم .

( وأما ) إذا مر بالميقات وأحرم بأحد النسكين ، ثم بعد مجاوزته أدخل النسك الآخر عليه بأن أدخل الحج على العمرة أو عكسه - وجوزناه - ففي وجوبه عليه وجهان حكاهما المتولي والبغوي وآخرون : ( أحدهما ) يلزمه لأنه جاوز الميقات مريدا للنسك وأحرم بعده ( والثاني ) لا يلزمه لأنه جاوز [ ص: 215 ] الميقات محرما فصار كما لو أحرم بالميقات إحراما مبهما ، فلما جاوز صرفه إلى الحج ، والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في هذه المسألة : قد ذكرنا أن مذهبنا أنه إذا جاوز الميقات مريدا للنسك فأحرم دونه أثم فإن عاد قبل التلبس بالنسك سقط عنه الدم ، سواء عاد ملبيا أم غير ملب . هذا مذهبنا وبه قال الثوري وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور . وقال مالك وابن المبارك وزفر وأحمد : لا يسقط عنه الدم بالعود . وقال أبو حنيفة : إن عاد ملبيا سقط الدم وإلا فلا وحكى ابن المنذر عن الحسن والنخعي أنه لا دم على المجاوز مطلقا ، قال : وهو أحد قولي عطاء . وقال ابن الزبير : يقضي حجته ثم يعود إلى الميقات فيحرم بعمرة ، وحكى ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير أنه لا حج له ، والله أعلم .

( فرع ) قال صاحب البيان : سمعت الشريف العثماني من أصحابنا يقول : إذا جاوز المدني ذا الحليفة غير محرم وهو مريد للنسك ، فبلغ مكة غير محرم ، ثم خرج منها إلى ميقات بلد آخر كذات عرق أو يلملم وأحرم منه . فلا دم عليه بسبب مجاوزة ذي الحليفة ، لأنه لا حكم لإرادته النسك لما بلغ مكة غير محرم " فصار كمن دخل مكة غير محرم ، وقلنا : يجب الإحرام لدخولها لا دم عليه ، هذا نقل صاحب البيان ، وهو محتمل وفيه نظر .

التالي السابق


الخدمات العلمية