صفحة جزء
[ ص: 218 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى - باب الإحرام وما يحرم فيه ( إذا أراد أن يحرم فالمستحب أن يغتسل ، لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل للإحرام } وإن كانت امرأة حائضا أو نفساء اغتسلت للإحرام ، لما روى ، القاسم بن محمد { أن أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء فذكر ذلك أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مروها فلتغتسل ثم لتهل } ولأنه غسل يراد به النسك فاستوى فيه الحائض والطاهر ، ومن لم يجد الماء تيمم لأنه غسل مشروع فانتقل فيه إلى التيمم عند عدم الماء كغسل الجنابة ، قال في الأم : ويغتسل لسبعة مواطن : للإحرام ودخول مكة والوقوف بعرفة والوقوف بالمزدلفة ولرمي الجمرات الثلاث ; لأن هذه المواضع تجتمع لها الناس فاستحب لها الاغتسال ، ولا يغتسل لرمي جمرة العقبة ; لأن وقته من نصف الليل إلى آخر النهار ، فلا يجتمع له الناس في وقت واحد ، وأضاف إليها في القديم الغسل لطواف الزيارة وطواف الوداع ; لأن الناس يجتمعون لهما ولم يستحبه في الجديد ; ولأن وقتهما متسع فلا يتفق اجتماع الناس فيهما ) .


( الشرح ) حديث زيد بن ثابت رواه الدارمي والترمذي وغيرهما ، قال الترمذي : حديث حسن وفي معناه حديث القاسم في قصة أسماء وهو صحيح كما سنوضحه إن شاء الله - تعالى - ( وأما ) حديث القاسم فصحيح رواه مالك في الموطأ هكذا مرسلا ، كما رواه المصنف عن القاسم { أن أسماء ولدت } فذكره بكماله ، وهذا اللفظ يقتضي إرسال الحديث ، فإن القاسم تابعي وهو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ورواه ابن ماجه كذلك في رواية له ، ورواه مسلم في صحيحه عن القاسم عن عائشة { أن أسماء ولدت } فذكره بلفظه هكذا متصلا بذكر عائشة ، وكذلك رواه أبو داود في سننه والدارمي وابن ماجه في روايته الأخرى وغيرهم فالحديث متصل صحيح وكفى به صحة رواية مسلم له في صحيحه ووصله [ ص: 219 ] ثابت في صحيح مسلم من رواية عبيد الله بن عمر العمري عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة وناهيك بهذا صحة ، وثبت هذا الحديث في صحيح مسلم أيضا من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، وأسماء هذه هي امرأة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، وأبوها عميس - بضم العين المهملة وفتح الميم - وسبق بيانه في أول كتاب الطهارة ، والبيداء - بفتح الباء والمد - والمراد به هنا مكان بذي الحليفة ، وقد جاء في كثير من الروايات في صحيح مسلم وغيره : ولدت أسماء بذي الحليفة فذكره إلى آخره . وقوله صلى الله عليه وسلم " مروها أن تغتسل ثم لتهل " يجوز في - لام لتهل - الكسر والإسكان والفتح ، وهو غريب ، ووقع في كثير من نسخ المهذب " مرها " وفي بعضها " مروها " بزيادة واو وذكر الإمام محمود بن خيلياشي بن عبد الله الخيلياشي أنه رآه هذا بخط المصنف .

( وأما ) قول المصنف : باب الإحرام وما يحرم فيه ، فكذا قاله في التنبيه ، وهو - بفتح الياء وضم الراء - من يحرم وليس هو بضم الياء وكسر الراء ; لأنه صدر الباب بمقدمات الإحرام من الاغتسال والتنظيف والتطيب والصلاة ، ثم ذكر الإحرام نفسه وهو النية ، فكل هذا داخل في ترجمة الإحرام ، ثم ذكر بعد هذا كله ما يحرم بسبب الإحرام ، ولو كان بضم الياء على إرادة ما يلبسه المحرم لكانت الترجمة قاصرة ; لأنه يكون مدخلا في الباب ما لم يترجم له وهو محرمات الإحرام وهي معظم الباب فتعين ما قلناه ، والحمد لله وهو أعلم .

( وقوله ) لأنه غسل يراد للنسك احتراز من غسل الجنابة والحيض والجمعة وأراد بالنسك ما يختص بالحج أو العمرة ، ( وقوله ) غسل مشروع ذكر القلعي أنه احتراز من الغسل للدخول على السلطان ، ولبس الثوب ونحوهما ، وهذا محتمل ويحتمل أنه أراد تقريب الفرع من الأصل دون الاحتراز .

[ ص: 220 ] أما الأحكام ففيها مسائل : ( إحداها ) اتفق العلماء على أنه يستحب الغسل عند إرادة الإحرام بحج أو عمرة أو بهما ، سواء كان إحرامه من الميقات الشرعي أو غيره ، ولا يجب هذا الغسل وإنما هو سنة متأكدة يكره تركها ، نص عليه الشافعي في الأم واتفق عليه الأصحاب كما سأذكره قريبا إن شاء الله - تعالى - قال ابن المنذر في الأشراف : أجمع عوام أهل العلم على أن الإحرام بغير غسل جائز ، قال : وأجمعوا على أن الغسل للإحرام ليس بواجب إلا ما روي عن الحسن البصري أنه قال : إذا نسي الغسل يغتسل إذا ذكره ، قال أصحابنا : والدليل على عدم وجوبه أنه غسل لأمر مستقبل ، فلم يكن واجبا كغسل الجمعة والعيد ، والله أعلم .

قال الشافعي رضي الله عنه في الأم : ( أستحب الغسل عند الإحرام للرجل والصبي والمرأة والحائض والنفساء ، وكل من أراد الإحرام قال : وأكره ترك الغسل له وما تركت الغسل للإحرام ، ولقد كنت أغتسل له مريضا في السفر وأني أخاف ضرر الماء ، وما صحبت أحدا أقتدي به رأيته تركه ، وما رأيت أحدا منهم عدا به أن رآه اختيارا ، قال : وإذا أتت الحائض والنفساء الميقات وعليهما من الزمان ما يمكن فيه طهرهما وأدركهما الحج بلا علة أحببت استئخارهما ليطهرا فيحرما طاهرتين ، وإن أهلتا غير طاهرتين أجزأ عنهما ولا فدية ) قال : ( وكل ما عملته الحائض عمله الرجل الجنب والمحدث والاختيار له أن لا يعمله كله إلا طاهرا ، قال : وكل عمل الحج تعمله الحائض ، وغير الطاهر من الرجال إلا الطواف بالبيت وركعتيه ) هذا آخر نصه في الأم بحروفه واتفق أصحابنا في [ ص: 221 ] جميع الطرق على جميع هذا إلا قولا شاذا ضعيفا حكاه الرافعي أن الحائض والنفساء لا يسن لهما الغسل ، ( والصواب ) استحبابه لهما للحديث السابق ، قال أصحابنا : ويغتسلان بنية غسل الإحرام كما ينوي غيرهما ، ولإمام الحرمين في نيتهما احتمال .

( الثانية ) إذا عجز المحرم عن الغسل تيمم ، هكذا نص عليه الشافعي في الأم ، وقطع به الأصحاب في جميع الطرق إلا أن الرافعي قال : يتيمم العاجز . قال : وقد ذكرنا في غسل الجمعة احتمالا لإمام الحرمين أنه لا يتيمم ، قال : وذلك لاحتمال جار هنا ، والمذهب ما سبق ، وهذا الذي ذكرته من أنه يتيمم إذا عجز عن الغسل أحسن وأعم من عبارة المصنف ومن وافقه في قولهم : إن لم يجد الماء يتيمم لأن العجز يعم عدم الماء والخوف من استعماله وغير ذلك ، والحكم في الجميع واحد .

( وأما ) إذا وجد من الماء ما لا يكفيه للغسل فقد قال المحاملي في كتبه الثلاثة المجموع والتجريد والمقنع ، والبغوي والرافعي : يتوضأ به ، وهذا الذي قالوه إن أرادوا به أنه يتوضأ مع التيمم فحسن ، وإن أرادوا أنه يقتصر على الوضوء فليس بمعول ، ولا يوافقون عليه ، لأن التيمم يقوم مقام الغسل عند العجز عن الماء ، ولا يقوم الوضوء مقام الغسل ، ولا يرد هذا على الجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع فإنه يستحب له الوضوء ولا يستحب له التيمم ; لأن الجنب الذي فيه الكلام واجد لما يكفيه لغسله ، ولا يفيده التيمم شيئا ، ولا يصح للقدرة على الماء ويفيده الوضوء في رفع الحدث عن أعضائه فاستحب له ، وفي مسألة المحرم هو عادم لما يكفيه لغسله فنظيره من الجنب أن يكون عادما لما يكفيه من الماء ، فإنه يتيمم مع الوضوء أو يتيمم من غير وضوء ، على القولين المعروفين في باب التيمم .

( الثالثة ) قال المصنف : قال الشافعي رحمه الله في الأم : يغتسل [ ص: 222 ] المحرم لسبعة مواطن : للإحرام ، ودخول مكة ، والوقوف بمزدلفة ، ولرمي الجمرات الثلاث ; لأن هذه المواضع يجتمع لها الناس ويستحب لها الاغتسال ، وهذا النص الذي نقله عن الأم كذا هو في الأم ، وكذا نقله أصحابنا عن الأم ، ونقله بعضهم عن نصوصه قديما وجديدا . وليس هذا التعليل في الأم - أعني قوله : لأن هذه المواطن يجتمع لها الناس - بل هو من عند المصنف والأصحاب ، وإنما استدل الشافعي - رحمه الله - في الأم في ذلك بآثار ذكرها ، قال في الأم عقب ذكره هذه المواضع : وأستحب الغسل بين هذه المواضع عند تغير البدن بالعرق وغيره تنظيفا للبدن ، قال : فلذلك أحبه للحائض ، قال : وليس واحد من هذا واجبا والله أعلم .

وقوله : ( للوقوف بمزدلفة ) يعني الوقوف على المشعر الحرام وهو قزح ، وذلك الوقوف يكون بعد صلاة الصبح يوم النحر كما سيأتي بيانه في بابه إن شاء الله - تعالى - ، وهكذا قال جماهير الأصحاب في هذا الغسل : إنه للوقوف بالمزدلفة ونقله عن الأم ، وكذا رأيته في الأم صريحا وخالفهم المحاملي في كتبه الثلاثة المجموع والتجريد والمقنع وأبو الفتح سليم الرازي في الكفاية ، والشيخ نصر المقدسي في الكافي ، فقالوا : الغسل للمبيت بالمزدلفة ، ولم يذكروا الغسل للوقوف بالمزدلفة ، بل جعلوا الغسل السابع هو الغسل للمبيت بها ، والصواب الأول ; لأن المبيت بها ليس فيه اجتماع فلا يحتاج إلى غسل ، بخلاف الوقوف ، فالصواب أن الغسل السابع الوقوف بالمزدلفة ، وأنه لا يشرع للمبيت بها ، وقولهم ( لرمي الجمرات الثلاث ) يعنون الجمرات في أيام التشريق يغتسل في كل يوم من الأيام الثلاثة غسلا واحدا لرمي الجمرات ولا يغتسل لكل جمرة في انفرادها ، هذا الذي ذكرناه من الأغسال المستحبة في الحج سبعة فقط هو نصه في الجديد ، وأضاف إليها في القديم استحبابه لطواف الزيارة وطواف الوداع ، هكذا نقله الأصحاب عن القديم . [ ص: 223 ] ولم يذكر المصنف والشيخ أبو حامد وجمهور الأصحاب في الطريقتين عن القديم أنه أضاف إلى هذين الغسلين ، وزاد القاضي أبو الطيب في تعليقه والرافعي عن القديم غسلا ثالثا ، وهو الغسل للحلق ، واتفقت نصوصه وطرق الأصحاب على أنه لا يستحب الغسل لرمي جمرة العقبة يوم النحر ، وقد ذكر المصنف دليله والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية