صفحة جزء
( السادسة ) قال الشافعي والأصحاب : له أن يستظل سائرا ونازلا للحديث الذي ذكره المصنف ، ولحديث أم الحصين الذي ذكرناه معه . هذا مذهبنا لا خلاف فيه عندنا ، ونقله ابن المنذر عن ربيعة والثوري وابن عيينة قال : وروي ذلك عن عثمان بن عفان وعطاء والأسود بن يزيد ، قال : [ ص: 378 ] وكره ذلك مالك وأحمد . وقال عبد الرحمن بن مهدي : لا أستظل ، قال : وروينا عن ابن عمر قال : أضح لمن أحرمت له " قال ابن المنذر : ولا بأس به عندي لأني لا أعلم خبرا ثابتا يمنع منه ، وما كان للحلال فعله كان للمحرم فعله إلا ما نهي عنه المحرم . قال : كل ما نهي عنه المحرم يستوي فيه الراكب ومن على الأرض كالطيب واللباس السابقين في حديث ضرب القبة بنمرة ، وحديث أم الحصين . هذا كلام ابن المنذر ، ونقل أصحابنا عن مالك وأحمد أنهما قالا : يجوز الاستظلال للنازل ، ولا يجوز للسائر ، فإن استظل لزمه الفدية وعن أحمد رواية أنه لا فدية .

قال العبدري ووافقنا أنه لو كان زمن استظلاله يسيرا فلا فدية ، وكذا لو استظل بيده ونحوها ، دليلنا الحديثان السابقان ، ( وأما ) ما رواه البيهقي وغيره بالإسناد الصحيح عن نافع قال : " أبصر ابن عمر رجلا على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس فقال له : أضح لمن أحرمت له " فمحمول على الاستحباب ، ( وقوله ) أضح أي ابرز إلى الشمس ( وأما ) حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { ما من محرم يضحى للشمس حتى تغرب إلا غربت بذنوبه ، حتى يعود كما ولدته أمه } " فرواه البيهقي وقال : هو إسناد ضعيف ولو صح لم يكن فيه دليل للمنع من الاستظلال ، ولا كراهة فيه ، ولا فيه فرق بين سائر ونازل . قال أبو علي البندنيجي وغيره من أصحابنا : الاستظلال وإن كان جائزا فالبروز للشمس أفضل منه للرجل ، ما لم يخف ضررا ، والستر للمرأة أفضل .


( السابعة ) قال المصنف والأصحاب : يكره للمحرم لبس الثياب المصبغة كراهة تنزيه . فإن لبسها فلا فدية سواء في هذا المصبوغ بالنيل والمغرة وغيرهما مما ليس بطيب .

( الثامنة ) يكره للمحرم أن يستصحب معه بازيا أو كلبا معلما أو غيرهما من جوارح السباع والطير لما ذكره المصنف ، وهذا متفق عليه [ ص: 379 ] نص عليه الشافعي وتابعه الأصحاب ، وسبقت المسألة بفروعها في فصل الصيد .

( التاسعة ) قال المصنف والأصحاب : ينبغي أن ينزه إحرامه من الشتم والكلام القبيح والخصومة والمراء والجدال ، ومخاطبة النساء بما يتعلق بالجماع والقبلة ونحوها من أنواع الاستمتاع ، وكذا ذكره بحضرة المرأة . ويستحب أن يكون كلامه وكلام الحلال بذكر الله - تعالى - ، وما في معناه من الكلام المندوب ، كتعليم وتعلم وغير ذلك ، لحديثي [ أبي شريح الخزاعي ] وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت } " ولا بأس عليهما بالكلام المباح من شعر وغيره لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن من الشعر لحكمة } " رواه البخاري ، وعن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { الشعر كلام حسنه كحسن الكلام ، وقبيحه كقبيحه } " رواه الشافعي والبيهقي هكذا مرسلا عن عروة وروى البيهقي " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه غنى وهو محرم " والله أعلم .

( العاشرة ) قال أصحابنا لا بأس بنظر المحرم في المرآة ولا كراهة في ذلك سواء كان رجلا أو امرأة هذا هو الصحيح المشهور في المذهب وبه قطع القاضي أبو الطيب والماوردي وآخرون ، وقال أبو علي البندنيجي في كتابه الجامع : لا بأس بنظر المحرم والمحرمة إلى وجهه في المرآة قال : وقال الشافعي في سنن حرملة : يكره لهما ذلك هذا كلام البندنيجي . وقال صاحب العدة : قال الشافعي في الأم لا بأس به ، وقال في سنن حرملة : يكره ذلك لأنه زينة .

وقال صاحب البيان قال : صاحب المعتمد لا يكره [ ص: 380 ] قال : ونقل صاحب الفروع عن الشافعي أنه نص في الإملاء أنه يكره فحصل للشافعي في المسألة قولان : ( الأصح ) لا يكره ، وبه قطع الأكثرون ، ونقل ابن المنذر عدم الكراهة عن ابن عباس وأبي هريرة وطاوس والشافعي وأحمد وإسحاق . قال : وبه أقول ، وكره ذلك عطاء الخراساني ، وقال مالك . لا يفعل ذلك إلا عن ضرورة . قال : وعن عطاء في المسألة قولان : ( أحدهما ) يكره ( والثاني ) لا بأس به واحتج البيهقي بحديث نافع " أن ابن عمر نظر في المرآة " رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وعن ابن عباس أنه كره أن ينظر المحرم في المرآة إلا من وجع ، قال البيهقي : وعطاء الخراساني ضعيف لقوله والرواية الأولى أصح .

( الحادية عشر ) أشار المصنف في كلامه في هذا الفصل وغيره إلى أنه يستحب كون الحاج أشعث ، وكذا صرح به الأصحاب . ودليله قوله تعالى - : { ثم ليقضوا تفثهم } وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن الله - تعالى - يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم : انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا } " رواه البيهقي بإسناد صحيح .

( فرع ) قال الشافعي في هذا الباب من المختصر : المرأة كالرجل في ذلك إلا ما أمرت به من الستر ، فأستر لها أن تخفض صوتها بالتلبية ، ولها [ ص: 381 ] أن تلبس القميص والقباء ، إلى آخر كلامه ، وشرح الأصحاب هذا الكلام فأحسنهم شرحا صاحب الحاوي قال : ( أما ) أركان الحج والعمرة فلا يختلف الرجل والمرأة في شيء منها ، وإنما يختلفان في هيئات الإحرام ، فهي تخالفه في خمسة أشياء : ( أحدها ) أنها مأمورة بلبس المخيط كالقميص والقباء والسراويل والخفين ، وما هو أستر لها ، لأن عليها ستر جميع بدنها غير وجهها وكفيها ، والرجل منهي عن المخيط وتلزمه به الفدية ، ( الثاني ) أنها مأمورة بخفض صوتها بالتلبية ، والرجل مأمور برفعه ; لأن صوتها يفتن : ( الثالث ) أن إحرامها في وجهها فلا تغطيه ، فإن سترته لزمها الفدية ، وللرجل ستره ولا فدية عليه ، ( الرابع ) ليس للرجل لبس القفازين بلا خلاف وفي المرأة قولان مشهوران ، ( الخامس ) يستحب لها أن تختضب لإحرامها بحناء ، والرجل منهي عن ذلك .

( قلت ) وتخالفه في شيء سادس من هيئات الإحرام ، وهو أن كراهة الاحتكال في حقها أشد من الرجل ، وقد سبق بيانه قريبا ، وفي سابع وهو أنه يستحب لها مس وجهها عند إرادة الإحرام بشيء من الحناء لتستتر بشرته عن الأعين ، وقد سبق بيان هذا واضحا في أوائل هذا الباب قال الأصحاب : وفي أشياء من هيئات الطواف : ( أحدها والثاني ) الرمل والاضطباع يشرعان للرجل دونها ، قال الماوردي : هي منهية عنهما ، بل تمشي على هينتها ، وتستر جميع بدنها غير الوجه والكفين ، ( الثالث ) يستحب لها أن تطوف ليلا لأنه أستر لها ، والرجل يطوف ليلا ونهارا ، قال الماوردي وغيره : ويستحب لها أن لا تدنو من الكعبة في الطواف إن كان هناك رجال وإنما تطوف في حاشية الناس ، والرجل بخلافها ، قال السرخسي وهكذا يستحب لها في الطريق أن لا تخالط الناس وتسير على [ ص: 382 ] حاشيتهم تحرزا عنهم .

قال أصحابنا : وتخالفه في أشياء من هيئات السعي : ( أحدها ) أنها تمشي جميع المسافة بين الصفا والمروة ، لا تسعى في شيء منها بخلاف الرجل ، ( والثاني ) ذكره الماوردي أنها تمنع من السعي راكبة ، والرجل لا يمنع منه ، ( والثالث ) ذكره الماوردي أيضا أنها تمتنع من صعود الصفا والمروة والرجل يؤمر به . قال الماوردي : وتخالفه في ثلاثة أشياء من هيئات الوقوف بعرفات : ( أحدها ) يستحب لها أن تقف نازلة لا راكبة ، لأنه أصون لها وأستر ، والرجل يستحب أن يكون راكبا على الأصح ، ( والثاني ) يستحب لها أن تكون جالسة والرجل قائما ، ( والثالث ) أنه يستحب لها أن تكون في حاشية الموقف وأطراف عرفات ، والرجل يستحب كونه عند الصخرات السود بوسط عرفات .

قال الماوردي : وتخالفه في ثلاثة أشياء من هيئات باقي المناسك : ( أحدها ) يستحب للرجل رفع يده في رمي الجمار ، ولا يستحب للمرأة ، ( والثاني ) يستحب له أن يذبح نسكه ، ولا يستحب ذلك للمرأة ، ( والثالث ) الحلق في حق الرجل أفضل من التقصير ، وتقصيرها هي أفضل من حلقها ، بل حلقها مكروه ، قال : وما سوى المذكور فالمرأة والرجل فيه سواء والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية