صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ولا يجوز إخراج تراب الحرم وأحجاره ; لما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما كانا يكرهان أن يخرج من تراب الحرم إلى الحل ، أو يدخل من تراب الحل إلى الحرم . وروى عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر قال : " قدمت مع أمي أو مع جدتي مكة فأتينا صفية بنت شيبة ، فأرسلت إلى الصفا فقطعت حجرا من جنابه فخرجنا به ، فنزلنا أول منزل ، فذكر من علتهم جميعا ، فقالت أمي أو جدتي : ما أرانا أتينا إلا أنا أخرجنا هذه القطعة من الحرم ، قال : وكنت أنا أمثلهم ، فقالت لي : انطلق بهذه القطعة إلى صفية فردها ، وقل لها : إن الله - عز وجل - وضع في حرمه شيئا لا ينبغي أن يخرج منه ، قال عبد الأعلى : فما هو إلا أن نحينا ذلك فكأنما أنشطنا من عقال " ويجوز إخراج ماء زمزم ، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " استهدى راوية من ماء زمزم ، فبعث إليه براوية من ماء ، ولأن الماء يستخلف بخلاف التراب والأحجار ) .


( الشرح ) أما حديث ماء زمزم فروى البيهقي بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنه قال : { استهدى النبي صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو من ماء زمزم } " وبإسناده عن جابر رضي الله عنه قال : { أرسلني صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة قبل أن يفتح مكة إلى سهيل بن عمرو أن أهد لنا من ماء زمزم ولا تترك ، فبعث إليه بمزادتين } وعن عروة بن الزبير { أن عائشة رضي الله عنها كانت تحمل ماء زمزم ، وتخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله } " رواه الترمذي وقال : حديث حسن الإسناد ورواه البيهقي هكذا ثم قال : وفي رواية : { حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأداوى والقرب ، وكان يصب على المرضى ويسقيهم } [ ص: 459 ] وأما ) تراب الحرم وأحجاره فروى الشافعي والبيهقي عن ابن عباس وابن عمر أنهما كرها أن يخرج من تراب الحرم وحجارته إلى الحل شيء .

( وأما ) حديث عبد الأعلى الذي ذكره المصنف فرواه الشافعي والبيهقي بلفظ يخالف رواية المصنف ، فلفظهما عن عبد الأعلى قال : " قدمت مع أمي ، أو قال جدتي فأتتها صفية بنت شيبة فأكرمتها ، وفعلت بها قالت صفية : ما أدري ما أكافئها به فأرسلت إليها بقطعة من الركن فخرجنا بها ، فنزلنا أول منزل ، فذكرنا من مرضهم وعلتهم جميعا ، قال : فقالت أمي أو جدتي : ما أرانا أتينا إلا أنا أخرجنا هذه القطعة من الحرم ، فقالت لي وكنت أمثلهم انطلق بهذه القطعة إلى صفية فردها ، وقل لها : إن الله - تعالى - قد وضع في حرمه شيئا فلا ينبغي أن يخرج منه ، قال عبد الأعلى : فقالوا لي : فما هو إلا أن نجينا بدخولك الحرم ، فكأنما أنشطنا من عقل " هذا لفظ رواية الشافعي والبيهقي وغيرهما .

وذكر أبو الوليد الأزرقي في كتاب مكة في فضل الحجر الأسود أنها أعطتهم قطعة من الحجر الأسود ، كانت عندها أصابتها حين اقتلع الحجر في زمن ابن الزبير ، حين حاصره الحجاج ، وهذا معنى رواية الشافعي قطعة من الركن أي الركن الأسود ، والمراد الحجر الأسود والله أعلم وعبد الأعلى هذا تابعي قريشي ، ( وأما ) صفية هذه فهي صحابية قريشية عبدرية وهي صفية بنت شيبة الصحابي ، حاجب الكعبة ، وهو شيبة بن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة . واسم طلحة هذا عبد الله بن عثمان بن عبد الدار بن قصي قالت صفية : { رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الركن بمحجن } " رواه أبو داود ، ولها في الصحيحين خمسة أحاديث عن عائشة .

أما الأحكام ففيه مسائل : ( إحداها ) اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على جواز نقل ماء زمزم إلى جميع البلاد ، واستحباب أخذه للتبرك ، ودليله ما ذكره المصنف مع ما ذكرته ( الثانية ) اتفقوا على أن الأولى أن [ ص: 460 ] لا يدخل تراب الحل وأحجاره الحرم ; لئلا يحدث لها حرمة لم تكن ، ولا يقال : إنه مكروه ; لأنه لم يرد فيه نهي صحيح صريح ، وأما قول صاحب البيان : قال الشيخ أبو إسحاق : لا يجوز إدخال شيء من تراب الحل وأحجاره إلى الحرم فغلط منه ، ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق هذا الذي ادعاه ، ( الثالثة ) قال المصنف لا يجوز إخراج تراب الحرم وأحجاره إلى الحل ، هذه عبارة المصنف ، وكذا قال المحاملي في كتابيه المجموع والتجريد : لا يجوز إخراجهما ، وتابعهما صاحب البيان في هذه العبارة ، وقال صاحب الحاوي : يمنع من إخراجهما ، وقال الدارمي : لا يخرجهما ، وقال كثيرون ، أو الأكثرون من أصحابنا : يكره إخراجهما ، فأطلقوا لفظ الكراهية . ممن قال يكره : الشيخ أبو حامد في تعليقه ، وأبو علي البندنيجي ، والقاضي حسين والبغوي والمتولي وصاحب العدة والرافعي وآخرون .

وقال القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد : قال الشافعي في الجامع الكبير ولا أجيز في أن يخرج من حجارة الحرم وترابه شيئا إلى الحل ; لأن له حرمة قال : وقال في القديم : ثم أكره إخراجهما ، قال الشافعي : ورخص بعض الناس في ذلك ، واحتج بشراء البرام من مكة ، قال الشافعي : هذا غلط فإن البرام ليست من حجارة الحرم ، بل تحمل من مسيرة يومين أو ثلاثة من الحرم . هذا نقل القاضي . وهكذا نقل الأصحاب عن الشافعي نحو هذا فحصل خلاف للأصحاب في أن إخراجهما مكروه أو حرام ، قال المحاملي وغيره : فإن أخرجه فلا ضمان ، قال الماوردي وغيره : وإذا أخرجه فعليه رده إلى الحرم ، قال الشيخ أبو حامد في موضع آخر ، وهو آخر الحج من تعليقه : ذكر الشافعي هذه المسألة في الأمالي القديمة ، وعللها بأن الحرم بقعة تخالف سائر البقاع ، ولها شرف على غيرها بدليل اختصاص النسكين بها ووجوب الجزاء في صيدها فلا تفوت هذه الحرمة لترابها ، والله أعلم .

[ ص: 461 ] فرع ) في حكم سترة الكعبة ، قال صاحب التلخيص : لا يجوز بيع أستار الكعبة ، وكذا قال أبو الفضل بن عبدان من أصحابنا : لا يجوز قطع أستار الكعبة ، ولا قطع شيء من ذلك ، قال ولا يجوز نقله ولا بيعه وشراؤه ، خلاف ما يفعله العامة : يشترونها من بني شيبة ، وربما وضعوه في أوراق المصاحف ، قال : ومن حمل منه شيئا لزمه رده . وحكى الرافعي قول ابن عبدان وسكت عليه ولم يذكر غيره ، فكأنه ارتضاه ووافقه عليه ، وكذا قال أبو عبد الله الحليمي من أئمة أصحابنا : لا ينبغي أن يؤخذ منها شيء ، وحكى الشيخ أبو عمرو بن الصلاح قول الحليمي وابن عبدان ثم قال : الأمر فيها إلى الإمام يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعا وعطاء ، واحتج بما رواه الأزرقي صاحب كتاب مكة ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينزع كسوة البيت كل سنة ، فيقسمها على الحاج ، وهذا الذي اختاره الشيخ أبو عمرو حسن متعين ; لئلا يؤدي إلى تلفها بطول الزمان .

وقد روى الأزرقي عن عمر رضي الله عنه ما سبق ، وروى الأزرقي أيضا عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما أنهما قالا : تباع كسوتها ويجعل ثمنها في سبيل الله والمساكين وابن السبيل ، قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة : لا بأس أن يلبس كسوتها من صارت إليه من حائض وجنب وغيرهما ، والله أعلم .

( فرع ) لا يجوز أخذ شيء من طيب الكعبة لا للتبرك ولا لغيره ، ومن أخذ شيئا منه لزمه رده إليها ، فإن أراد التبرك أتى بطيب من عنده فمسحها به ثم أخذه ، والله أعلم .

( فرع ) مهم في بيان حدود حرم مكة الذي يحرم فيه الصيد والنبات ، ويمنع أخذ ترابه وأحجاره ، وبيان ما يتعلق به من الأحكام وما يخالف فيه غيره من الأرض ، وفيه مسائل : ( إحداها ) في حدود الحرم ، وقد ذكرها المصنف في أواخر كتاب الجزية مختصرة - والله أعلم - أن الحرم [ ص: 462 ] هو مكة ، وما أحاط بها من جوانبها جعل الله - تعالى - لها حكمها في الحرمة تشريفا لها ، ومعرفة حدود الحرم من أهم ما يعتنى به لكثرة ما يتعلق به من الأحكام وقد اجتهدت في إيضاحه وتتبع كلام الأئمة في إتقانه على أكمل وجوهه بحمد الله - تعالى - ، فحد الحرم من جهة المدينة دون التنعيم عند بيوت بني نفار ، على ثلاثة أميال من مكة ، ومن طريق اليمن ، طرف أضاة لبن على سبعة أميال من مكة ، ومن طريق الطائف على عرفات من بطن نمرة على سبعة أميال ، ومن طريق العراق على ثنية جبل بالمقطع على سبعة أميال ومن طريق الجعرانة في شعب آل عبد الله بن خالد على تسعة أميال ، ومن طريق جدة منقطع الأعشاش على عشرة أميال من مكة .

هكذا ذكر هذه الحدود أبو الوليد الأزرقي في كتاب مكة وأبو الوليد هذا أحد أصحاب الشافعي الآخذين عنه ، الذين رووا عنه الحديث والفقه .

وكذا ذكر هذه الحدود الماوردي صاحب الحاوي في كتابه الأحكام السلطانية وكذا ذكرها المصنف وأصحابنا في كتب المذهب ، إلا أن عبارة بعضهم أوضح من بعض ، لكن الأزرقي قال في حده من طريق الطائف أحد عشرة ميلا ، والذي قاله الجمهور سبعة فقط ، بتقديم السين على الباء ، وفي هذه الحدود ألفاظ غريبة ينبغي ضبطها فقولهم : بيوت نفار هو - بكسر النون وبالفاء - وقولهم أضاة لبن - بفتح الهمزة وبالضاد المعجمة - على وزن القناة ، وهي مستنقع الماء ، ( وأما ) لبن - فبلام مكسورة ثم باء موحدة ساكنة - كذا ضبطها الإمام الحافظ أبو بكر الحازمي المتأخر في كتابه المؤتلف والمختلف في أسماء الأماكن ، ( وقولهم ) : الأعشاش هو - بفتح الهمزة وبشينين معجمتين - جمع عش ( وقولهم ) في جدة من جهة الجعرانة تسعة أميال هو بتقديم التاء على السين ، ( وأما ) الحدود الثلاثة الباقية فإنها بتقديم السين .

( واعلم ) أن الحرم عليه علامات منصوبة في جميع جوانبه ذكر الأزرقي . [ ص: 463 ] وغيره بأسانيدهم أن إبراهيم الخليل عليه السلام علمها ، ونصب العلامات فيها وكان جبريل عليه السلام يريه مواضعها ، ثم أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بتحديدها ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية رضي الله عنهم . وهي إلى الآن بينة ولله الحمد ، قال الأزرقي في آخر كتاب مكة : أنصاب الحرم التي على رأس الثنية ما كان من وجوهها في هذا الشق فهو حرم ، وما كان في ظهرها فهو حل قال : وبعض الأعشاش في الحل وبعضه في الحرم .

( المسألة الثانية ) حكى الماوردي خلافا للعلماء في أن مكة مع حرمتها ، هل صارت حرما آمنا بقول إبراهيم عليه السلام ؟ أم كانت قبله كذلك ؟ فمنهم من قال : لم تزل حرما ، ومنهم من قال : كانت مكة حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد ، وإنما صارت حرما بدعوته ، كما صارت المدينة حرما بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانت حلالا ، واحتج هؤلاء بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جملة حديث طويل : { اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما ، وإني حرمت المدينة حراما مأزميها أن لا يراق فيها دم ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف } " رواه مسلم في آخر كتاب الحج من صحيحه ، وفي رواية لمسلم عن أبي سعيد أيضا أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { إني حرمت ما بين لابتي المدينة كما حرم إبراهيم مكة } " وعن جابر رضي الله عنه قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ، ما بين لابتيها لا يعضد عضاهها ولا يصاد صيدها } " رواه مسلم .

وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة ، وما بين لابتيها } " رواه البخاري ومسلم هذا لفظ البخاري ، ولفظ مسلم ، وفي رواية للبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشرف على المدينة قال : " { اللهم إني أحرم ما بين جبليها ، مثل [ ص: 464 ] ما حرم به إبراهيم مكة } " . وعن رافع بن خديج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها ، يريد المدينة } " رواه مسلم .

وعن عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " { إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها ، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة } " رواه البخاري ومسلم .

واحتج القائلون بأن تحريمها لم يزل من حين خلق الله السموات والأرض بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : " { هذا بلد حرمه الله - تعالى - يوم خلق السموات والأرض ، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة } " رواه البخاري ومسلم وعن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس } رواه البخاري ومسلم ، ومن قال بهذا أجاب عن الأحاديث السابقة بأن إبراهيم عليه السلام أظهر تحريمها بعد أن كان خفيا مهجورا لا يعلم ، لا أنه ابتدأه ، ومن قال بالمذهب الأول أجاب عن حديث ابن عباس بأن المراد أن الله - تعالى - كتب في اللوح المحفوظ أو غيره أن مكة سيحرمها إبراهيم ، أو أظهر ذلك للملائكة ، ( والأصح ) من القولين أنها ما زالت محرمة من حين خلق الله - تعالى - السموات والأرض والله أعلم .

( المسألة الثالثة ) مذهبنا أنه يجوز بيع دور مكة وإجاراتها وسائر المعاملات عليها ، وكذا سائر الحرم كما يجوز في غيرها ، وستأتي المسألة مبسوطة بدلائلها وفروعها ، حيث ذكرها الأصحاب في آخر باب ما يجوز بيعه إن شاء الله - تعالى - . ( الرابعة ) مذهبنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة صلحا لا عنوة ، لكن دخلها صلى الله عليه وسلم متأهبا للقتال خوفا من غدر أهلها [ ص: 465 ] وستأتي المسألة بدلائلها وفروعها حيث ذكرها المصنف في كتاب السير والغنائم إن شاء الله - تعالى - . ( الخامسة ) مذهبنا جواز إقامة الحدود والقصاص في الحرم ، سواء كان قتلا أو قطعا ، سواء كانت الجناية في الحرم أو خارجه ، ثم لجأ إليه وستأتي المسألة بأدلتها وفروعها حيث ذكرها المصنف في آخر باب استيفاء القصاص إن شاء الله - تعالى -

( السادسة ) في الأحكام التي يخالف الحرم فيها غيره من البلاد ، وهي كثيرة ، نذكر منها أطرافا : ( أحدها ) أنه ينبغي أن لا يدخله أحد إلا بإحرام ، وهل ذلك واجب أم مستحب ؟ فيه خلاف سبق ( الأصح ) مستحب ( الثاني ) يحرم صيده على جميع الناس حتى أهل الحرم والمحلين ، ( الثالث ) يحرم شجره وخلاه ، ( الرابع ) منع إخراج ترابه وأحجاره ، وهل هو منع كراهة أو تحريم فيه الخلاف السابق ، ( الخامس ) أنه يمنع كل كافر من دخوله مقيما كان أو مارا هذا مذهبنا ومذهب الجمهور ، وجوزه أبو حنيفة ما لم يستوطنه ، وستأتي المسألة بأدلتها وفروعها حيث ذكرها المصنف في كتاب الجزية إن شاء الله - تعالى - ( السادس ) لا تحل لقطته لمتملك ، ولا تحل إلا لمنشد ، هذا هو المذهب ، وفيه وجه ضعيف ، ( السابع ) تغليظ الدية بالقتل فيه ، ( الثامن ) تحريم دفن المشرك فيه ويجب نبشه منه ، ( التاسع ) تخصيص ذبح دماء الجزاءات في الحج والهدايا ، ( العاشر ) لا دم على المتمتع والقارن إذا كان من أهله ، ( الحادي عشر ) لا يكره صلاة النفل التي لا سبب لها في وقت من الأوقات في الحرم سواء في مكة وسائر الحرم ، وفيما عدا مكة وجه شاذ سبق بيانه في بابه .

( الثاني عشر ) إذا نذر قصده لزمه الذهاب إليه بحج أو عمرة ، بخلاف غيره من المساجد فإنه لا يجب الذهاب إليه إذا نذره ، إلا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى على أحد القولين فيهما [ ص: 466 ] الثالث عشر ) إذا نذر النحر وحده بمكة لزمه النحر بها ، وتفرقة اللحم على مساكين الحرم ، ولو نذر ذلك في بلد آخر لم ينعقد نذره في أصح الوجهين .

( الرابع عشر ) يحرم استقبال الكعبة واستدبارها بالبول والغائط في الصحراء . ( الخامس عشر ) تضعيف الأجر في الصلوات بالمسجد الحرام ، وكذا سائر الطاعات ، ( السادس عشر ) يستحب لأهل مكة أن يصلوا العيد في المسجد الحرام ، ( أما ) غيرهم فهل الأفضل صلاتهم في مسجدهم ؟ أم في الصحراء ؟ فيه خلاف سبق في باب صلاة العيد ( السابع عشر ) لا يجوز إحرام المقيم في الحرم بالحج خارجه .

( المسألة السابعة ) مكة عندنا أفضل الأرض ، وبه قال علماء مكة والكوفة وابن وهب وابن حبيب المالكيان وجمهور العلماء ، قال العبدري : هو قول أكثر الفقهاء ، وهو مذهب أحمد في أصح الروايتين عنه وقال مالك وجماعة : المدينة أفضل وأجمعوا على أن مكة والمدينة أفضل الأرض . وإنما اختلفوا في أيهما أفضل ، دليلنا حديث عبد الله بن عدي ابن الحمراء رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بمكة يقول لمكة : { والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت } " رواه الترمذي والنسائي وغيرهما ، ذكره الترمذي في جامعه في كتاب المناقب وقال : هذا حديث حسن صحيح وسنزيد المسألة بسطا وإيضاحا إن شاء الله - تعالى - حيث ذكرها المصنف في كتاب النذر ، فيمن نذر الهدي إلى أفضل البلاد .

وعن ابن الزبير : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي } " حديث حسن رواه أحمد في مسنده ، والبيهقي بإسناد حسن . ونقل القاضي عياض في آخر كتاب الحج من شرح صحيح مسلم إجماع المسلمين على أن موضع قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الأرض ، وأن الخلاف فيما سواه .

[ ص: 467 ] الثامنة ) يكره حمل السلاح بمكة لغير حاجة . لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يحل أن يحمل السلاح بمكة } " رواه مسلم .

( التاسعة ) قال أصحابنا : من فروض الكفاية أن تحج الكعبة في كل سنة فلا تعطل وليس لعدد المحصلين لهذا الغرض قدر متعين ، بل الغرض وجود حجها كل سنة من بعض المكلفين ، وستأتي المسألة مبسوطة في أول كتاب السير حيث ذكر الشافعي والمزني والأصحاب فروض الكفاية إن شاء الله - تعالى - . ( العاشرة ) عن أبي ذر رضي الله عنه قال : " { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال : المسجد الحرام ، قلت : ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى قلت : كم بينهما ؟ قال أربعون عاما } رواه البخاري ومسلم

( الحادية عشر ) قال الماوردي في الأحكام السلطانية في خصائص الحرم : لا يحارب أهله فإن بغوا على أهل العدل فقد قال بعض الفقهاء : يحرم قتالهم بل يضيق عليهم حتى يرجعوا عن البغي ، ويدخلوا في أحكام أهل العدل ، قال : وقال : جمهور الفقهاء : يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال ، لأن قتال البغاة من حقوق الله - تعالى - التي لا تجوز إضاعتها ، فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها . هذا كلام الماوردي ، وهذا الذي نقله عن أكثر الفقهاء هو الصواب ، وقد نص عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث من كتب الأم ونص عليه الشافعي في آخر كتابه المسمى بسير الواقدي من كتب الأم .

وقال القفال المروزي ، في كتابه شرح التلخيص في أول كتاب النكاح في ذكر الخصائص : لا يجوز القتال بمكة ، قال : حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم فيها ، وهذا الذي قاله القفال غلط نبهت عليه لئلا يغتر به .

[ ص: 468 ] فإن قيل ) : فقد ثبت عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بعد يوم فتح مكة يقول : { إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له : إن الله قد أذن لرسوله ، ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ثم عادت اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلغ الشاهد الغائب } " رواه البخاري ومسلم . وفي الصحيحين أحاديث كثيرة بمعناه في تحريم القتال بمكة ، وأنها لم يحل القتال بها إلا ساعة للنبي صلى الله عليه وسلم ( فالجواب ) أن معنى الحديث تحريم نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره ، إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك ، بخلاف ما إذا تحصن كفار في بلد آخر ، فإنه يجوز قتالهم على كل وجه وبكل شيء ، وقد نص الشافعي رضي الله عنه على هذا التأويل في آخر كتابه المعروف بسير الواقدي من كتب الأم والله أعلم .

( الثانية عشرة ) سدانة الكعبة وحجابتها هي ولايتها وخدمتها وفتحها وإغلاقها ونحو ذلك ، وهذا حق مستحق لبني طلحة الحجبيين من بني عبد الدار بن قصي ، اتفق العلماء على هذا ، وممن نقله عن العلماء القاضي عياض في أواخر كتاب الحج من شرح صحيح مسلم ، وذكرته أنا هناك في شرح صحيح مسلم ، وأوضحته بدليله ، قال العلماء فهي ولاية لهم عليها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبقى دائمة أبدا ولهم ولذرياتهم ، لا تحل لأحد منازعتهم فيها ما داموا موجودين صالحين لذلك ، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { كل مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت } " .

( فرع ) ذكر العلماء أن الكعبة الكريمة بنيت خمس مرات : ( إحداها ) [ ص: 469 ] بنتها الملائكة قبل آدم ، وحجها آدم فمن بعده من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - ، ( الثانية ) بناها إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال الله - تعالى - : { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت } وقال تعالى : { وإذ يرفع إبراهيم [ ص: 470 ] القواعد من البيت } الآية ، ( الثالثة ) بنتها قريش في الجاهلية ، وحضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا البناء قبل النبوة ، ثبت ذلك في الصحيحين ، وكان له صلى الله عليه وسلم حينئذ خمس وعشرون سنة ، وقيل : خمس وثلاثون ، ( الرابعة ) بناها ابن الزبير ثبت ذلك في الصحيحين ، ( الخامسة ) بناها الحجاج بن يوسف في خلافة عبد الملك بن مروان ، ثبت ذلك في الصحيح ، واستقر بناؤها الذي بناه الحجاج إلى الآن ، وقيل : إنها بنيت مرتين أخرتين قبل بناء قريش ، وقد أوضحته في كتاب المناسك الكبير ، [ ص: 471 ] قال القاضي أبو الطيب في تعليقه في باب دخول مكة في آخر مسألة افتتاح الطواف بالاستلام : قال الشافعي : أحب أن تترك الكعبة على حالها فلا تهدم ; لأن هدمها يذهب حرمتها ، ويصير كالتلاعب بها ، فلا يريدون بتغييرها إلا هدمها فلذلك استحببنا تركها على ما هي عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية