صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( إذا وجب على المحرم دم لأجل الإحرام كدم التمتع والقران ، ودم الطيب ، وجزاء الصيد ( وجب ) عليه صرفه لمساكين الحرم لقوله تعالى - { هديا بالغ الكعبة } فإن ذبحه في الحل وأدخله الحرم نظرت فإن تغير وأنتن لم يجزئه لأن المستحق لحم كامل غير متغير فلا يجزئه المنتن المتغير وإن لم يتغير ففيه وجهان : ( أحدهما ) لا يجزئه لأن الذبح أحد مقصودي الهدي فاختص بالحرم كالتفرقة ، ( والثاني ) يجزئه لأن المقصود هو اللحم ، وقد أوصل ذلك إليهم وإن وجب عليه طعام لزمه صرفه إلى مساكين الحرم ، قياسا على الهدي ، وإن وجب عليه صوم جاز أن يصوم في كل مكان ، لأنه لا منفعة لأهل الحرم في الصيام ، وإن وجب عليه هدي وأحصر عن الحرم جاز له أن يذبح ويفرق حيث أحصر لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم { خرج معتمرا فحالت كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية ، وبين الحديبية وبين الحرم ثلاثة أميال } ولأنه إذا جاز أن يتحلل في غير موضع التحلل لأجل الإحصار جاز أن ينحر الهدي في غير موضع النحر ) .


( الشرح ) حديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم ، وسبق أن الحديبية تقال - بالتخفيف والتشديد - والتخفيف أجود ، والمنتن - بضم الميم وكسرها - والهدي بإسكان الدال مع تخفيف الياء وبكسرها مع تشديد الياء لغتان الأولى أفصح . أما الأحكام فقال الأصحاب : الدماء الواجبة في الحج لها زمان ومكان ، ( أما ) الزمان فالدماء الواجبة في الإحرام لفعل محظور أو ترك مأمور ، لا تختص بزمان ، بل تجوز في يوم النحر وغيره ، وإنما تختص [ ص: 482 ] بيوم النحر والتشريق والضحايا . ثم ما سوى دم الفوات يراق في النسك الذي هو فيه ، ( وأما ) دم الفوات فيجوز تأخيره إلى سنة القضاء ، وهل يجوز إراقته في سنة الفوات ؟ فيه وجهان ، وقيل : قولان : ( أصحهما ) لا ، بل يجب تأخيره إلى سنة القضاء ، وقد ذكرهما المصنف بدليلهما في باب الفوات ، ( فإن قلنا : ) يجوز فوقت الوجوب سنة الفوات ، ( وإن قلنا ) بالأصح ففي وقت الوجوب وجهان : ( أصحهما ) وقته إذا أحرم بالقضاء ، كما يجب دم التمتع بالإحرام بالحج ولهذا لو ذبح قبل تحلله من الفائت لم يجز على أصح الوجهين ، كما لو ذبح المتمتع قبل فراغ العمرة . هذا إذا كفر بالذبح فإذا كفر بالصوم ( فإن قلنا ) : وقت الوجوب أن يحرم بالقضاء لم يقدم صوم الثلاثة على القضاء ويصوم السبعة إذا رجع ، ( وإن قلنا ) : يجب بالفوات ففي جواز صوم ثلاثة في حجة الفوات وجهان : ووجه المنع أنه إحرام ناقص والله أعلم .

( وأما ) المكان فالدماء الواجبة على المحرم ضربان واجب على المحصر بالإحصار ، أو بفعل محظور ، وسيأتي بيانه قريبا في فصل الدماء إن شاء الله - تعالى - ( والضرب الثاني ) واجب على غير المحصر ، فيختص بالحرم ، ويجب تفريقه على مساكين الحرم ، سواء الغرباء الطارئون والمستوطنون ، لكن الصرف إلى المستوطنين أفضل ، وله أن يخص به أحد الصنفين ، نص عليه الشافعي ، واتفقوا عليه وفي اختصاص ذبحه بالحرم خلاف حكاه المصنف وآخرون وجهين وحكاه آخرون قولين : ( أصحهما ) يختص ، فلو ذبحه في طرف الحل ونقله في الحال طريا إلى الحرم لم يجزئه ، ( الثاني ) لا يختص ، فيجوز ذبحه خارج الحرم بشرط أن ينقله ويفرقه في الحرم قبل تغيير اللحم ، وسواء في هذا كله دم التمتع والقران وسائر ما يجب بسبب في الحل أو الحرم ، أو بسبب مباح كالحلق للأذى ، أو بسبب محرم ، وهذا هو الصحيح .

[ ص: 483 ] وفي القديم قول : إن ما أنشئ سببه في الحل يجوز ذبحه وتفرقته في الحل قياسا على دم الإحصار . وممن حكى هذا القول وفي وجه ضعيف أن ما وجب بسبب مباح لا يختص ذبحه وتفرقته بالحرم ، وفيه وجه أنه لو حلق قبل وصوله الحرم وذبح وفرق حيث حلق جاز ، وكل هذا شاذ ضعيف والمذهب ما سبق . قال الشافعي والأصحاب : ويجوز الذبح في جميع بقاع الحرم قريبها وبعيدها ، لكن الأفضل في حق الحاج الذبح بمنى ، وفي حق المعتمر المروة ; لأنهما محل تحللهما . وكذا حكم ما يسوقانه من الهدي .

( فرع ) قال القاضي حسين في الفتاوى : لو لم يجد في الحرم مسكينا لم يجز نقل الدم إلى موضع آخر سواء جوزنا نقل الزكاة أم لا ; لأنه وجب لمساكين الحرم ، كمن نذر الصدقة على مساكين بلد فلم يجد فيه مساكين ، يصبر حتى يجدهم ، ولا يجوز نقله بخلاف الزكاة على أحد القولين ، لأنه ليس فيها نص صريح بتخصيص البلد بها بخلاف الهدي .

( فرع ) إذا كان الواجب الإطعام بدلا عن الذبح ، وجب صرفه على مساكين الحرم ، سواء المستوطنون والطارئون كما قلنا في لحم المذبوح ، ( أما ) إذا كان الواجب الصوم فيجوز أن يصوم حيث شاء من أقطار الأرض لما ذكره المصنف .

( فرع ) قال الماوردي والروياني : أقل ما يجزئ أن يدفع الواجب من اللحم إلى ثلاثة من مساكين الحرم إن قدر ، فإن دفع إلى اثنين مع قدرته على ثالث ضمن وفي قدر الضمان وجهان : ( أحدهما ) الثلث ، ( وأصحهما ) أقل ما يقع عليه الاسم كالقولين في الزكاة ، ( وأما ) إذا فرق الطعام فوجهان : ( أحدهما ) يتقدر لكل مسكين مد كالكفارة فلا يزاد ولا ينقص ، فإن زاد لم يحسب ، وإن نقص لم يجزئه حتى يتمه مدا ، ( وأصحهما ) لا يتقدر ، بل تجوز الزيادة على مد والنقص عنه .

[ ص: 484 ] فرع ) لو ذبح الهدي في الحرم فسرق منه قبل التفرقة لم يجزئه عما في ذمته ، ويلزمه إعادة الذبح ، وله شراء اللحم والتصدق به بدل الذبح ; لأن الذبح قد وجد ، وفي وجه ضعيف يكفيه التصدق بالقيمة حكاه الرافعي .

( فرع ) قال الروياني وغيره : تلزمه النية عند التفرقة كسائر العبادات .

( فرع ) قال أصحابنا : الدماء الواجبة في المناسك سواء تعلقت بترك واجب أو ارتكاب منهي حيث أطلقناها أردنا بها شاة ، فإن كان الواجب غيرها كالبدنة في الجماع نصصنا عليها ، ولا يجزئ فيها جميعا إلا ما يجزئ في الأضحية إلا في جزاء الصيد ، فيجب المثل في الصغير صغير ، وفي الكبير كبير ، وفي المعيب والمكسور مثله كما سبق . قال أصحابنا : وكل من لزمه شاة جاز له ذبح بقرة أو بدنة مكانها ; لأنها أكمل ، كما يجزئ في الأضحية إلا في جزاء الصيد فلا يجزئ حيوان عن المثل . قال أصحابنا : وإذا ذبح بدنة أو بقرة مكان الشاة فهل الجميع فرض حتى لا يجوز أكل شيء منها ؟ أم الفرض سبعها فقط حتى يجوز أكل الباقي ؟ فيه وجهان : ( الأصح ) سبعها صححه الروياني وغيره ، وسبقت نظائر المسألة في باب صفة الوضوء ومواضع أخرى .

ولو ذبح بدنة ونوى التصدق بسبعها عن الشاة الواجبة عليه وأكل الباقي جاز ، وله نحر البدنة عن سبع شياه لزمته . ولو اشترك جماعة في ذبح بدنة أو بقرة أراد بعضهم الهدي ، وبعضهم الأضحية ، وبعضهم اللحم ، جاز ، ولا يجوز اشتراك اثنين في شاتين لأن الانفراد ممكن .

( فرع ) في كيفية وجوب الدماء وإبدالها ، وقد سبقت مقاصده مفرقة فأحببت جمعها ملخصا كما فعله الأصحاب ، وقد لخصها الرافعي متقنة فأقتصر على نقله ، قال في ذلك نظران : ( أحدهما ) النظر في أن أي [ ص: 485 ] دم يجب مرتبا ، وأي دم يجب على التخيير ، وهاتان الصفتان متقابلتان فمعنى الترتيب أنه يجب الدم ، ولا يجوز العدول إلى غيره إلا إذا عجز عنه ، ومعنى التخيير أنه يجوز العدول إلى غيره مع القدرة عليه .

( النظر الثاني ) في أنه أي دم يجب على سبيل التقدير ، وأي دم يجب على سبيل التعديل وهاتان الصفتان متقابلتان ، فمعنى التقدير أن الشرع قدر البدل المعدول إليه ترتيبا أو تخييرا ، أي مقدرا لا يزيد ولا ينقص ، ومعنى التعديل أنه أمر فيه بالتقويم والعدول إلى غيره بحسب القيمة ، وكل دم بحسب الصفات المذكورة لا يخلو من أحد أربعة أوجه : ( أحدها ) التقدير والترتيب ، ( والثاني ) الترتيب والتعديل ، ( والثالث ) التخيير والتقدير ، ( والرابع ) التخيير والتعديل وتفصيلهما بثمانية أنواع : ( أحدها ) دم التمتع ، وهو دم ترتيب وتقدير كما ورد به نص القرآن العزيز ، وقد سبق بيانه ، ودم القران في معناه وفي دم الفوات طريقان : ( أصحهما ) وبه قطع الجمهور أنه كدم التمتع في الترتيب والتقدير وسائر الأحكام ، والثاني على قولين : ( أحدهما ) هذا ، ( والثاني ) أنه كدم الجماع في الأحكام إلا أن هذا شاة والجماع بدنة لاشتراك الصورتين في وجوب القضاء .

( والثاني ) جزاء الصيد ، وهو دم ترتيب وتعديل ، ويختلف بكون الصيد مثليا أو غيره ، وسبق إيضاحه ، وجزاء شجر الحرم وحشيشه كجزاء الصيد وقد سبق حكاية قول عن رواية أبي ثور أن دم الصيد على الترتيب ، وهو شاذ ، ( الثالث ) دم الحلق والقلم ، وهو دم تخيير وتقدير ، فإذا حلق جميع شعره أو ثلاث شعرات تخير بين دم وثلاثة آصع لستة مساكين ، وصوم ثلاثة أيام وسبق بيانه .

( الرابع ) الدم الواجب في ترك المأمورات كالإحرام من الميقات ، والرمي والمبيت بعرفة ليلة النحر ، وبمنى ليالي التشريق والدفع من عرفة قبل الغروب وطواف الوداع ، وفي هذا الدم أربعة أوجه : ( أصحها ) وبه [ ص: 486 ] قطع العراقيون وكثيرون من غيرهم أنه كدم التمتع في الترتيب والتقدير ، فإن عجز عن الدم صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ، ( والثاني ) أنه دم ترتيب وتعديل لأن التعديل هو القياس ، وإنما يصار إلى الترتيب بتوقيف . فعلى هذا يلزمه شاة ، فإن عجز قومها دراهم ، واشترى بها طعاما وتصدق به ، فإن عجز صام عن كل مد يوما ، وإذا ترك حصاة ففيه أقوال مشهورة : ( أصحها ) يجب مد ، ( والثاني ) درهم ، ( والثالث ) ثلث شاة ، فإن عجز فالطعام ثم الصوم على ما يقتضيه التعديل بالقيمة ، ( والرابع ) أنه دم ترتيب ، فإن عجز لزمه صوم الحلق ، ( والخامس ) أنه دم تخيير وتعديل كجزاء الصيد ، وهذان الوجهان شاذان ضعيفان ، ( الخامس ) دم الاستمتاع كالتطيب والادهان واللبس ومقدمات الجماع ، وفيه أربعة أوجه : ( أصحها ) أنه دم تخيير وتقدير كالحلق ، لاشتراكهما في الترفه ، ( والثاني ) دم تخيير وتعديل كالصيد ، ( والثالث ) دم ترتيب وتعديل ، ( والرابع ) دم ترتيب وتقدير كالتمتع .

( السادس ) دم الجماع ، وفيه طرق للأصحاب ، واختلاف منتشر المذهب منه أنه ترتيب وتعديل فيجب بدنة ، فإن عجز عنها فبقرة ، فإن عجز فسبع شياه فإن عجز قوم بدنة بدراهم ، والدراهم بطعام ثم تصدق به ، فإن عجز صام عن كل مد يوما ( وقيل ) : إذا عجز عن الغنم قوم البدنة وصام فإن عجز أطعم فيقدم الصيام على الإطعام ، ككفارة الظهار ونحوها ، وقيل : لا مدخل للإطعام والصيام هنا ، بل إذا عجز عن الغنم ثبت الفداء في ذمته إلى أن يجد تخريجا من أحد القولين في دم الإحصار ، ولنا قول ، وقيل : وجه . أنه يتخير بين البدنة والبقرة والغنم ، فإن عجز عنها فالإطعام ، ثم الصوم ، وقيل : يتخير بين البدنة والبقرة والشياه والإطعام والصيام ، ( السابع ) دم الجماع الثاني أو الجماع بين التحللين ، وقد سبق خلاف في أن واجبهما بدنة أم شاة ؟ ( فإن قلنا : ) بدنة فهي في الكيفية كالجماع الأول قبل التحللين كما سبق ، ( وإن قلنا ) : شاة فكمقدمات الجماع .

[ ص: 487 ] الثامن ) دم الإحصار فمن تحلل بالإحصار فعليه شاة ولا عدول عنها إن وجدها ، فإن عدمها فهل له بدل ؟ فيه قولان مشهوران : ( أحدهما ) نعم كسائر الدماء ، ( والثاني ) لا ، إذ لم يذكر في القرآن بدله بخلاف غيره ( فإن قلنا ) : بالبدل ، ففيه أقوال : ( أحدها ) بدله الإطعام بالتعديل ، فإن عجز صام عن كل مد يوما ، ( وقيل ) يتخير على هذا بين صوم الحلق وإطعامه ، ( والقول الثاني ) بدله الإطعام فقط ، وفيه وجهان : ( أحدهما ) ثلاثة آصع كالحلق ، ( والثاني ) يطعم ما يقتضيه التعديل ، ( والقول الثالث ) بدله الصوم فقط ، وفيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) عشرة أيام ، ( الثاني ) ثلاثة ، ( والثالث ) بالتعديل عن كل مد يوما ، ولا مدخل للطعام على هذا القول غير أنه يعتبر به قدر الصيام ، ( المذهب ) على الجملة الترتيب والتعديل هذا آخر كلام الرافعي والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية