صفحة جزء
[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم قال المصنف - رحمه الله تعالى - باب صفة الحج والعمرة ( وإذا أراد دخول مكة وهو محرم بالحج اغتسل بذي طوى ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء وادي طوى بات حتى صلى الصبح فاغتسل ثم دخل من ثنية كداء ، ويدخل من ثنية كداء من أعلى مكة ويخرج من السفلى ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى ) .


( الشرح ) حديث ابن عمر الثاني رواه البخاري ومسلم بلفظه ، وروياه أيضا بلفظه من رواية عائشة أيضا ( وأما ) حديثه الأول فرواه البخاري ومسلم أيضا بمعناه ، ولفظهما : عن نافع قال : وكان ابن عمر إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي به الصبح ويغتسل ، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ( وأما ) طوى فبفتح الطاء وضمها وكسرها ثلاث لغات الفتح أجود . وممن حكى اللغات الثلاث صاحب المطالع وجماعات قالوا : والفتح أفصح وأشهر . واقتصر الحازمي في المؤتلف على ضمه ، واقتصر آخرون [ ص: 4 ] على الفتح ، وهو منون مصروف مقصور لا يجوز مده . قال صاحب المطالع : ووقع في لباب المستملي ذو الطواء ممدود ، وهو واد بباب مكة .

( وأما ) الثنية فهي الطريق بين جبلين ( وأما ) كداء العليا فبفتح الكاف وبالمد مصروف ( وأما ) السفلى فيقال لها ثنية كدى - بالضم - مقصور .

وأما مكة فلها أسماء كثيرة ، وقد قالوا : كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى ; لهذا كثرت أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال بعضهم : لله تعالى ألف اسم ، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم وقد أشرت إلى هذا في أول تهذيب الأسماء واللغات في : أولا ترجمة النبي صلى الله عليه وسلم فما حضرني من أسماء مكة ستة عشر اسما : أحدها مكة ، والثاني : بكة ، والثالث : أم القرى ، والرابع : البلد الأمين ، والخامس : رحم - بضم الراء وإسكان الحاء المهملة - لأن الناس يتراحمون فيها ويتوادعون . السادس : صلاح بكسر الحاء - مبني على الكسر كقطاع ونظائرها ، سميت به لأمنها . السابع : الباسة - بالباء الموحدة والسين المهملة - لأنها تبس من ألحد فيها أي تحطمه . ومنه قوله تعالى { وبست الجبال } الثامن : الناسة بالنون . التاسع : النساسة ( قيل ) لأنها تنس الملحد ، أي تطرده ، وقيل لقلة مائها ، والنس اليبس . العاشر : الحاطمة ، لحطمها الملحدين فيها . الحادي عشر : الرأس كرأس الإنسان . الثاني عشر : كوثى - بضم الكاف وفتح المثلثة - باسم موضع بها . الثالث عشر : العرش الرابع عشر : القادس . الخامس عشر : المقدسة من التقديس . السادس عشر : البلدة .

وأما مكة وبكة فقيل : هما اسمان للبلدة ، وقيل : مكة الحرم كله ، ومكة المسجد خاصة ، وهي محكي عن الزهري وزيد بن أسلم ، وقيل : مكة اسم للبلد ، وبكة اسم البيت ، وهو قول إبراهيم النخعي وغيره . [ ص: 5 ] وقيل : مكة البلد وبكة البيت وموضع الطواف ، سميت بكة لازدحام الناس فيها ، يبك بعضهم بعضا ، أي يدفعه في زحمة الطواف ، وقيل : لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها ، والبك الدق . وسميت مكة لقلة مائها من قولهم : امتك الفصيل ضرع أمه إذا امتصه . وقيل : لأنها تمك الذنوب أي تذهب بها ، والله أعلم .

وأما مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فلها أسماء : المدينة وطيبة وطابة والدار قال الله تعالى { ما كان لأهل المدينة } و { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة } وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله تعالى سمى المدينة طابة } قال العلماء : سميت طابة وطيبة من الطيب وهو الطاهر لخلوصها من الشرك وطهارتها . وقيل : من طيب العيش . وقيل من الطيب وهو الرائحة الحسنة . وسميت الدار لأمنها وللاستقرار بها . والله أعلم .

( أما الأحكام ) ففيها مسائل : ( إحداها ) يستحب الغسل لدخول المحرم مكة لما ذكره المصنف . وقد سبق بيان أغسال الحج في أول باب الإحرام ، وذكرنا هناك أنه إن عجز عن الغسل تيمم . وذكرنا فيه فروعا كثيرة . ويستحب هذا الغسل بذي طوى إن كانت في طريقه وإلا اغتسل في غير طريقها ، كنحو مسافتها وينوي به غسل دخول مكة ، وهو مستحب لكل محرم حتى الحائض والنفساء والصبي ، كما سبق بيانه في باب الإحرام . قال الماوردي . ولو خرج إنسان من مكة فأحرم بالعمرة من الحل واغتسل للإحرام ثم أراد دخول مكة ، فإن كان أحرم من موضع بعيد عن [ ص: 6 ] مكة ، كالجعرانة والحديبية استحب أن يغتسل أيضا لدخول مكة ، وإن أحرم من موضع قريب من مكة كالتنعيم أو من أدنى الحل لم يغتسل لدخول مكة ; لأن المراد من هذا الغسل النظافة وإزالة الوسخ عند دخوله ، وهو حاصل بغسله السابق . وهذا الغسل مستحب لكل داخل محرم ، سواء كان محرما بحج أو عمرة أو قران بلا خلاف ، وينكر على المصنف قوله وهو محرم بالحج ، فأوهم اختصاصه به ( والصواب ) حذف لفظة الحج كما حذفها في التنبيه والأصحاب

( الثانية ) يستحب للمحرم بالحج أن يدخل مكة قبل الوقوف بعرفات هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر السلف والخلف . وأما ما يفعله حجيج العراق من قدومهم إلى عرفات قبل دخول مكة فخطأ منهم وجهالة . وفيه ارتكاب بدعة وتفويت سنن ( منها ) دخول مكة أولا ( ومنها ) تفويت طواف القدوم وتفويت تعجيل السعي وزيارة الكعبة ، وكثرة الصلاة بالمسجد الحرام وحضور خطبة الإمام في اليوم السابع بمكة ، والمبيت بمنى ليلة عرفة والصلاة بها والنزول بنمرة ، وحضور تلك المشاهد ، وغير ذلك مما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى .

( الثالثة ) يستحب إذا وصل الحرم أن يستحضر في قلبه ما أمكنه من الخشوع والخضوع بظاهره وباطنه ، ويتذكر جلالة الحرم ومزيته على غيره .

قال جماعة من أصحابنا : يستحب أن يقول : اللهم إن هذا حرمك وأمنك فحرمني على النار ، وآمني من عذابك يوم تبعث عبادك ، واجعلني من أوليائك وأهل طاعتك .

( الرابعة ) قال الشافعي والأصحاب - رحمهم الله تعالى : يستحب له [ ص: 7 ] دخول مكة من ثنية كداء التي بأعلى مكة ، وهي بفتح الكاف ، والمد كما سبق ومنها يتجرد إلى مقابر مكة ، وإذا خرج راجعا إلى بلده خرج من ثنية كدى - بضم الكاف - وبالقصر ، وهي بأسفل مكة قرب جبل قعيقعان وإلى صوب ذي طوى . قال بعض أصحابنا : إن الخروج إلى عرفات يستحب أيضا أن يكون من هذه السفلى . واعلم أن المذهب الصحيح المختار الذي عليه المحققون من أصحابنا أن الدخول من الثنية العليا مستحب لكل محرم داخل مكة ، سواء كانت في صوب طريقه أم لم تكن ، ويعتدل إليها من لم تكن في طريقه . وقال الصيدلاني والقاضي حسين والفوراني وإمام الحرمين والبغوي والمتولي : إنما يستحب الدخول منها لمن كانت في طريقه ، وأما من لم تكن في طريقه فقالوا : لا يستحب له العدول إليها . قالوا : وإنما دخل النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقا لكونها كانت في طريقه .

هذا كلام الصيدلاني وموافقيه ، واختاره إمام الحرمين ونقله الرافعي عن جمهور الأصحاب . وقال الشيخ أبو محمد الجويني : ليست العليا على طريق المدينة ، بل عدل إليها النبي صلى الله عليه وسلم متعمدا لها ، قال : فيستحب الدخول منها لكل أحد ، قال : ووافق إمام الحرمين الجمهور في الحكم ، ووافق أبا محمد في أن موضع الثنية كما ذكره وهذا الذي قاله أبو محمد من كون الثنية ليست على نهج الطريق ، بل عدل إليها هو الصواب الذي يقضي به الحس والعيان ، فالصحيح استحباب الدخول من الثنية العليا لكل محرم قصد مكة ، سواء كانت في صوب طريقه أم لا ، وهو ظاهر نص ، الشافعي في المختصر ومقتضى إطلاقه فإنه قال : ويدخل المحرم من ثنية كداء ونقله صاحب البيان عن عامة الأصحاب .

( فرع ) قال أصحابنا : له دخول مكة راكبا وماشيا ، وأيهما [ ص: 8 ] أفضل ؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي ( أصحهما ) ماشيا أفضل ، وبه قطع الماوردي لأنه أشبه بالتواضع والأدب وليس فيه مشقة ولا فوات مهم ، بخلاف الركوب في الطريق فإنه أفضل على المذهب كما سبق بيانه في الباب الأول من كتاب الحج لما ذكرناه هناك ، ولأن الراكب في الدخول متعرض لأن يؤذي الناس بدابته في الزحمة ، والله تعالى أعلم . وإذا دخل ماشيا فالأفضل كونه حافيا لو لم يلحقه مشقة ، ولا خاف نجاسة رجله ، والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : له دخول مكة ليلا ونهارا ولا كراهة في واحد منهما فقد ثبتت الأحاديث فيها كما سأذكره قريبا إن شاء الله تعالى ، وفي الفضيلة وجهان ( أصحهما ) دخولها نهارا أفضل ، حكاه ابن الصباغ وغيره عن أبي إسحاق المروزي ، ورجحه البغوي وصاحب العدة وغيرهما ، وقال القاضي أبو الطيب والماوردي وابن الصباغ والعبدري : هما سواء في الفضيلة لا ترجيح لأحدهما على الآخر ، واحتج هؤلاء بأنه قد صح الأمران من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم ترجيح لأحدهما ولا نهي فكانا سواء ، واحتج من رجح النهار بأنه الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم في حجته وحجة الوداع وقال في آخرها { لتأخذوا عني مناسككم } فهذا ترجيح ظاهر للنهار ; ولأنه أعون للداخل وأرفق به وأقرب إلى مراعاته للوظائف المشروعة له على أكمل وجوهها وأسلم له من التأذي والإيذاء والله أعلم .

وأما الحديثان الواردان في المسألة ( فأحدهما ) حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال { بات النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوى حتى أصبح ، ثم دخل مكة ، وكان ابن عمر يفعله } رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية [ ص: 9 ] لمسلم عن نافع { أن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارا ، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله } وفي رواية لمسلم أيضا عن ابن عمر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي طوى ويبيت فيه حتى يصلي الصبح حين يقدم مكة } . وأما الحديث الآخر فعن محرش الكعبي الصحابي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { خرج من الجعرانة ليلا معتمرا فدخل ليلا فقضى عمرته ثم خرج من ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وإسناده جيد ، قال الترمذي هو حديث حسن ، قال : ولا يعرف لمحرش عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث وثبت في ضبط محرش ثلاثة أقوال حكاها أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب ( أصحها ) وأشهرها وهو الذي جزم به أبو نصر بن ماكولا . محرش - بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الراء المشددة - ( والثاني ) محرش بكسر الميم وإسكان الحاء المهملة وفتح الراء ( والثالث ) مخرش بكسر الميم وإسكان الحاء المعجمة ، وهو قول علي بن المديني وادعى أنه الصواب ، والله تعالى أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في هذه المسألة فمن استحب دخولها نهارا ابن عمر وعطاء والنخعي وإسحاق بن راهويه وابن المنذر . وممن استحبه ليلا عائشة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز . وممن قال : هما سواء : طاوس والثوري .

( فرع ) ينبغي أن يتحفظ في دخوله من إيذاء الناس في الزحمة ، ويتلطف بمن يزاحمه ويلحظ بقلبه جلالة البقعة التي هو فيها ، والكعبة التي هو متوجه إليها ، ويمهد عذر من زاحمه .

( فرع ) قال الماوردي وغيره : يستحب دخول مكة بخشوع [ ص: 10 ] قلبه وخضوع جوارحه داعيا متضرعا . قال الماوردي : ويكون من دعائه ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند دخوله اللهم البلد بلدك والبيت بيتك ، جئت أطلب رحمتك وأؤم طاعتك ، متبعا لأمرك راضيا بقدرك مبلغا لأمرك ، أسألك مسألة المضطر إليك المشفق من عذابك أن تستقبلني وأن تتجاوز عني برحمتك وأن تدخلني جنتك }

التالي السابق


الخدمات العلمية