صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويبتدئ بطواف القدوم ; لما روت عائشة رضي الله عنها { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت } فإن خاف فوت مكتوبة أو سنة مؤكدة أتى بها قبل الطواف ; لأنها تفوت والطواف لا يفوت ، وهذا الطواف سنة لأنه تحية فلم يجب كتحية المسجد ) .


( الشرح ) حديث عائشة رواه البخاري ومسلم . قال أصحابنا . فإذا فرغ من أول دخوله مكة أن لا يعرج على استئجار منزل وحط قماش وتغيير ثيابه ولا شيء آخر غير الطواف ، بل يقف بعض الرفقة عند متاعهم ورواحلهم حتى يطوفوا ثم يرجعوا إلى رواحلهم ومتاعهم واستئجار المنزل . قال أصحابنا : فإذا فرغ من الدعاء عند رأس الردم قصد المسجد فدخله من باب بني شيبة كما ذكرنا ، فأول شيء يفعله طواف القدوم . واستثنى الشافعي والأصحاب من هذا المرأة الجميلة والشريفة التي لا تبرز للرجال ، قالوا : فيستحب لها تأخير الطواف ودخول المسجد إلى الليل ; لأنه أستر لها وأسلم لها ولغيرها من الفتنة ، والله أعلم .

[ ص: 15 ] قال الشافعي والأصحاب : فإذا دخل المسجد لا يشتغل بصلاة تحية المسجد ولا غيرها ، بل يبدأ بالطواف للحديث المذكور ، فيقصد الحجر الأسود ويبدأ بطواف القدوم ، وهو تحية المسجد الحرام . قال أصحابنا : والابتداء بالطواف مستحب لكل داخل ، سواء كان محرما أو غيره إلا إذا خاف فوت الصلاة المكتوبة أو سنة راتبة أو مؤكدة أو فوت الجماعة في المكتوبة ، وإن كان وقتها واسعا أو كان عليه فائتة مكتوبة ، فإنه يقدم كل هذا على الطواف ثم يطوف ، ولو دخل وقد منع الناس من الطواف صلى تحية المسجد . واعلم أن العمرة ليس فيها طواف قدوم وإنما فيها طواف واحد ، يقال له : طواف الفرض وطواف الركن . وأما الحج ففيه ثلاثة أطوفة : طواف القدوم ، وطواف الإفاضة ، وطواف الوداع - ويشرع له وللعمرة طواف رابع وهو المتطوع به غير ما ذكرناه فإنه يستحب له الإكثار من الطواف ، فأما طواف القدوم فله خمسة أسماء : طواف القدوم - والقادم والورود والوارد - وطواف التحية ، وأما طواف الإفاضة فله أيضا خمسة أسماء : طواف الإفاضة وطواف الزيارة وطواف الفرض وطواف الركن وطواف الصدر بفتح الصاد والدال ، وأما طواف الوداع فيقال له أيضا طواف الصدر . ومحل طواف القدوم أول قدومه ، ومحل طواف الإفاضة بعد الوقوف بعرفات ونصف ليلة النحر ، ومحل طواف الوداع عند إرادة السفر من مكة بعد قضاء مناسكه كلها . واعلم أن طواف الإفاضة ركن لا يصح الحج إلا به ، وطواف الوداع فيه قولان ( أصحهما ) أنه واجب ( والثاني ) سنة ، فإن تركه أراق دما ، إن قلنا : هو واجب - فالدم واجب ، وإن قلنا : سنة - فالدم سنة . وأما طواف القدوم فسنة ليس بواجب ، فلو تركه فحجه صحيح ولا شيء عليه ، لكنه [ ص: 16 ] فاتته الفضيلة . هذا هو المذهب نص عليه الشافعي وقطع به جماهير العراقيين الخراسانيين . وذكر جماعة من الخراسانيين وغيرهم في وجوبه وجها ضعيفا شاذا وأنه إذا تركه لزمه دم ممن قاله ، وحكاه صاحب التقريب والدارمي والقاضي أبو الطيب في آخر صفة الحج من تعليقه ، وأبو علي السنجي - بالسين المهملة - وإمام الحرمين وصاحب البيان وآخرون .

( فرع ) قد ذكرنا أنه يؤمر أن يأتي بطواف القدوم أول قدومه ، فلو أخره ففي فواته وجهان ، حكاهما إمام الحرمين ; لأنه يشبه تحية المسجد .

( فرع ) اعلم أن طواف القدوم إنما يتصور في حق مفرد الحج ، وفي حق القارن إذا كانا قد أحرما من غير مكة ودخلاها قبل الوقوف بعرفات ، فأما المكي فلا يتصور في حقه طواف القدوم ، إذ لا قدوم له . وأما المحرم بالعمرة فلا يتصور في حقه طواف قدوم ، بل إذا طاف للعمرة أجزأه عنهما ، ويتضمن القدوم كما تجزئ الصلاة المفروضة عن الفرض وتحية المسجد . قال أصحابنا : حتى لو طاف المعتمر بنية طواف القدوم وقع عن طواف العمرة ، كما لو كان عليه حجة الإسلام فأحرم بحجة تطوع فإنها تقع عن حجة الإسلام . وأما من أحرم بالحج مفردا أو قارنا ولم يدخل مكة إلا بعد الوقوف فليس في حقه طواف قدوم ، بل الطواف الذي يفعله بعد الوقوف طواف الإفاضة ، فلو نوى به طواف القدوم وقع عن طواف الإفاضة إن كان دخل وقته وهو نصف ليلة النحر ، كما قلنا في المعتمر إذا نوى طواف القدوم ، والله أعلم . قال أصحابنا : ويسن طواف القدوم لكل قادم إلى مكة ، سواء كان حاجا أو تاجرا أو زائرا أو غيرهم ممن دخل محرما بعمرة أو بحج بعد الوقوف كما سبق .

( فرع ) في صفة الطواف الكاملة [ ص: 17 ] وإذا دخل المسجد فليقصد الحجر الأسود وهو في الركن الذي يلي باب البيت من جانب المشرق ، ويسمى الركن الأسود ، ويقال له وللركن اليماني : الركنان اليمانيان ، وارتفاع الحجر الأسود من الأرض ثلاث أذرع إلا سبع أصابع ، ويستحب أن يستقبل الحجر الأسود بوجهه ويدنو منه ، بشرط أن لا يؤذي أحدا بالمزاحمة فيستلمه ، ثم يقبله من غير صوت يظهر في القبلة ويسجد عليه ، ويكرر التقبيل والسجود عليه ثلاثا ثم يبتدئ الطواف ويقطع التلبية في الطواف كما سبق بيانه في مسائل التلبية ، ويضطبع مع دخوله في الطواف ، فإن اضطبع قبله بقليل فلا بأس ، والاضطباع أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن عند إبطه ويطرح طرفيه على منكبه الأيسر ويكون منكبه الأيمن مكشوفا . وصفة الطواف أن يحاذي جميعه جميع الحجر الأسود فيمر بجميع بدنه على جميع الحجر ، وذلك بأن يستقبل البيت ويقف على جانب الحجر الذي إلى جهة الركن اليماني ، بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ، ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر ثم ينوي الطواف لله تعالى ثم يمشي مستقبل الحجر مارا إلى جهة يمينه حتى يجاوز الحجر ، فإذا جاوزه انفتل وجعل يساره إلى البيت ويمينه إلى خارج ، ولو فعل هذا من الأول وترك استقبال الحجر جاز لكنه فاتته الفضيلة ، ثم يمشي هكذا تلقاء وجهه طائفا حول البيت كله ، فيمر على الملتزم ، وهو ما بين الركن الذي فيه الحجر الأسود والباب ، سمي بذلك لأن الناس يلزمونه عند الدعاء . ثم يمر إلى الركن الثاني بعد الأسود ، ثم يمر وراء الحجر ، بكسر الحاء وإسكان الجيم - وهو في صوب الشام والمغرب فيمشي حوله حتى ينتهي إلى الركن الثالث ، ويقال لهذا الركن مع الذي قبله الركنان الشاميان .

وربما قيل : المغربيان ، ثم يدور حول الكعبة حتى ينتهي إلى الركن الرابع ، المسمى بالركن اليماني ثم يمر منه إلى الحجر الأسود فيصل إلى الموضع الذي بدأ منه فيكمل له [ ص: 18 ] حينئذ طوفة واحدة ، ثم يطوف كذلك ثانية وثالثة حتى يكمل سبع طوفات ، فكل مرة من الحجر الأسود إليه طوفة ، والسبع طواف كامل . هذه صفة الطواف التي إذا اقتصر عليها صح طوافه ، وبقيت من صفاته المكملة أفعال وأقوال نذكرها بعد هذا إن شاء الله تعالى ، حيث ذكرها المصنف ( واعلم ) أن الطواف يشتمل على شروط وواجبات لا يصح بدونها ، وعلى سنن يصح بدونها ( فأما ) الشروط الواجبات فثمانية مختلف في بعضها .

( أحدها ) الطهارة عن الحدث وعن النجس في الثوب والبدن والمكان الذي يطؤه في مشيها .

( الثاني ) كون الطواف داخل المسجد .

( الثالث ) إكمال سبع طوفات .

( الرابع ) الترتيب ، وهو أن يبدأ من الحجر الأسود وأن يمر على يساره .

( الخامس ) أن يكون جميع بدنه خارجا عن جميع البيت ، فهذه الخمسة واجبة بلا خلاف .

( السادس والسابع والثامن ) نية الطواف وصلاته وموالاته ، وفي الثلاثة خلاف ( الأصح ) أنها سنة ( والثاني ) واجبة .

وأما السنن فثمانية أيضا ( أحدها ) أن يكون ماشيا ( والثاني ) الاضطباع ( الثالث ) الرمل ( الرابع ) استلام الحجر الأسود وتقبيله ووضع الجبهة عليه ( الخامس ) المستحبة في الطواف وسنذكرها إن شاء الله تعالى ( السادس ) الموالاة بين الطوفات ( السابع ) صلاة الطواف ( الثامن ) أن يكون في طوافه خاشعا خاضعا متذللا . حاضر القلب ملازم الأدب بظاهره وباطنه ، وفي حركته ونظره وهيئته ، فهذا خلاصة القول في الطواف [ ص: 19 ] وبيان صفته وواجباته ومندوباته ، وسنوضحها إن شاء الله تعالى على ترتيب المصنف ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية