صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويبتدئ الطواف من الحجر الأسود ، والمستحب أن يستقبل الحجر الأسود ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم { استقبله ووضع شفتيه عليه } فإن لم يستقبله جاز لأنه جزء من البيت ، [ ص: 41 ] فلا يجب استقباله كسائر أجزاء البيت ، ويحاذيه ببدنه لا يجزئه غيره ، وهل تجزئه المحاذاة ببعض البدن ؟ فيه قولان : قال في القديم : تجزئه محاذاته ببعضه ، لأنه لما جاز محاذاة بعض الحجر جازت محاذاته ببعض البدن . وقال في الجديد : يجب أن يحاذيه بجميع البدن ; لأن ما وجب فيه محاذاة البيت وجبت محاذاته بجميع البدن كالاستقبال في الصلاة .

ويستحب أن يستلم الحجر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة يستلم الركن الأسود أول ما يطوف } ويستحب أن يستفتح الاستلام بالتكبير ; لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يطوف على راحلته كلما أتى على الركن أشار بشيء في يده وكبر وقبله } ويستحب أن يقبله لما روى ابن عمر { أن عمر رضي الله عنه قبل الحجر ثم قال : والله لقد علمت أنك حجر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك } فإن لم يمكنه أن يستلم أو يقبل من الزحام أشار إليه بيده ، لما روى أبو مالك سعد بن طارق عن أبيه قال { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف حول البيت فإذا ازدحم الناس على الطواف استلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحجن في يده } ولا يشير إلى القبلة بالفم ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك .

ويستحب أن يقول عند الاستلام وابتداء الطواف : بسم الله والله أكبر ، اللهم إيمانا بك ، وتصديقا بكتابك ، ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم لما روى جابر { أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن الذي فيه الحجر وكبر ثم قال : اللهم وفاء بعهدك وتصديقا بكتابك } وعن علي - كرم الله وجهه - أنه كان يقول إذا استلم الركن " اللهم إيمانا بك . وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك ، واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم " وعن ابن عمر رضي الله عنهما مثله . ثم يطوف فيجعل البيت على يساره ويطوف على يمينه ، لما روى جابر " { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ في الطواف أخذ عن يمينه } " فإن طاف عن يساره لم يجزه ، لأنه صلى الله عليه وسلم " { طاف على يمينه وقال : خذوا عني مناسككم } ولأنه عبادة تتعلق بالبيت فاستحق فيها الترتيب كالصلاة ) .


( الشرح ) أما حديث ابن عمر قال { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة يستلم الركن الأسود ، أول ما يطوف يخب ثلاثة أطواف من السبع } ، فرواه البخاري ومسلم بهذا اللفظ ، وروى البخاري ومسلم استلام النبي صلى الله عليه وسلم الحجر في طوافه عن جماعة من [ ص: 42 ] الصحابة مع ابن عمر . وأما حديث ابن عباس فرواه البخاري في صحيحه ، ولفظه عن ابن عباس قال { طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير كلما أتى الركن أشار إليه بشيء عنده وكبر } . وأما حديث ابن عمر { أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر وقال : لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك } فرواه البخاري ومسلم ، وهذا لفظ البخاري ، وفي رواية لمسلم عن ابن عمر قال { قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحجر ثم قال : أما والله لقد علمت أنك حجر ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك } وفي رواية لمسلم عن عبد الله بن سرجس الصحابي قال { رأيت الأصلع يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقبل الحجر ويقول : والله إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك } . وفي رواية للبخاري ومسلم عن عابس - بالباء الموحدة - ابن ربيعة التابعي قال : { رأيت عمر يقبل الحجر ويقول : إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لم أقبلك } وفي رواية لمسلم عن سويد بن غفلة - بفتح الغين المعجمة والفاء - قال { رأيت عمر قبل الحجر والتزمه وقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيا } " وإنما قال عمر رضي الله عنه : إنك حجر وإنك لا تضر ولا تنفع ليسمع الناس هذا الكلام ويشيع بينهم ، وقد كان عهد كثير منهم قريبا بعبادة الأحجار وتعظيمها واعتقاد ضرها ونفعها ، فخاف أن يغتر بعضهم بذلك فقال ما قال ، والله أعلم .

وأما حديث سعد بن طارق عن أبيه فغريب فيغني في الدلالة لما ذكره المصنف حديث ابن عباس الذي سبق الآن من رواية البخاري . وأما [ ص: 43 ] حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ، ثم مشى على يمينه ، فرمل ثلاثا ومشى أربعا } فرواه مسلم بهذا اللفظ . وأما حديث { خذوا عني مناسككم } فرواه مسلم من رواية جابر ، وسبق بيانه قريبا في مسألة الطواف سبعا . والله أعلم .

وأما الأثر المذكور عن علي رضي الله عنه فرواه البيهقي بإسناد ضعيف من رواية الحارث الأعور ، وكان كذابا .

وأما استحباب : باسم الله والله أكبر فاستدل له البيهقي بما رواه الإمام أحمد والبيهقي بالإسناد الصحيح عن نافع قال { كان ابن عمر يدخل مكة ضحى فيأتي البيت فيستلم الحجر ويقول : باسم الله والله أكبر } والله تعالى أعلم . ( وأما ألفاظ الفصل ) ففيه الاستلام ، بكسر التاء ، قال الهروي : قال الأزهري " هو افتعال من السلام وهو التحية ، كما يقال : اقترأت السلام ، قال : ولذلك يسمي أهل اليمن الركن الأسود ، المحيا : معناه أن الناس يحيونه . قال الهروي : وقال ابن قتيبة : هو افتعال من السلام - بكسر السين - وهي الحجارة واحدتها سلمة بكسر اللام . تقول استلمت الحجر إذا لمسته كما تقول : اكتحلت من الكحل ، هذا كلام الهروي . وقال الجوهري : استلم الحجر بالقبلة أو باليد ، قال ولا يهمز لأنه مأخوذ من السلام وهي الحجارة ، قال : وهمزه بعضهم . وقال صاحب المحكم : استلم الحجر واستلامه بالهمز أي قبله أو اعتنقه قال : وليس أصله الهمز . وأما قول الغزالي في الوسيط : الاستلام هو أن يقبل الحجر في أول الطواف وفي آخره ، بل في كل نوبة ، فإن عجز بالزحمة مسه باليد ، فقد [ ص: 44 ] أنكروه عليه ، وغلطوه في تفسيره الاستلام بالتقبيل ; لأن الاستلام هو اللمس باليد والتقبيل سنة أخرى مستحبة ، وقد يتأول كلام الغزالي ويستمر تصحيحه ، مما نقله عن الجوهري وصاحب المحكم . قوله " استلمه بمحجن " فهو بميم مكسورة ثم حاء مهملة ساكنة ثم جيم مفتوحة ثم نون وهي عصا معقفة الرأس كالصولجان وجمعه محاجن . قوله " إيمانا بك " أي أفعل هذا للإيمان بك . قوله " على يساره " بفتح الياء وكسرها لغتان مشهورتان ( أفصحهما ) عند الجمهور الفتح ، وعكسه ابن دريد . قوله " عبادة تتعلق بالبيت فاستحق فيها الترتيب " احتراز من تفرقة الزكاة وقضاء الصوم .

( أما الأحكام ) ففي الفصل مسائل ( إحداها ) يجب ابتداء الطواف من الحجر الأسود للأحاديث الصحيحة ، فإن ابتدأ من غيره لم يعتد بما فعله ، حتى يصل الحجر الأسود ، فإذا وصله كان ذلك أول طوافه . وهذا لا خلاف فيه عندنا .

( الثانية ) يستحب أن يستقبل الحجر الأسود في أول طوافه بوجهه ويدنو منه ، بشرط أن لا يؤذي أحدا ، وإذا أراد هذا الاستقبال فطريقه أن يقف على جانب الحجر الأسود من جهة الركن اليماني بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ، ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر ، ثم ينوي الطواف ، ثم يمشي مستقبل الحجر الأسود مارا إلى جهة يمينه حتى يجاوز الحجر فإذا جاوزه ترك الاستقبال وانفتل وجعل يساره إلى البيت ويمينه إلى خارج ، ولو فعل هذا من أول أمره وترك الاستقبال جاز لما ذكره المصنف .

( الثالثة ) ينبغي له أن يحاذي بجميع بدنه جميع الحجر الأسود ، فطريقه ما سبق بيانه الآن في المسألة الثانية ، وهو أن يقف قبل الحجر الأسود من جهة الركن اليماني ، ثم يمر تلقاء وجهه طائفا حول البيت ، فيمر جميعه بجميع الحجر ولا يقدم جزءا من بدنه على جزء من الحجر ، [ ص: 45 ] فلو حاذاه ببعض بدنه وكان بعضه مجاوزا إلى جهة باب الكعبة ، ففي صحته قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما وكذا ذكرهما الأصحاب قولين إلا إمام الحرمين الغزالي فحكوهما وجهين .

والصواب قولان ( الجديد ) لا يجزئه ، وهو الأصح ( والقديم ) يجزئه ، ولو حاذى بجميع البدن بعض الحجر - إن أمكن ذلك - صح طوافه بلا خلاف . صرح به جميع أصحابنا العراقيين ومن تابعهم من الخراسانيين ، قالوا : كما يجزئه أن يستقبل في الصلاة بجميع بدنه بعض الكعبة ، وهذا معنى قول المصنف لأنه لما جاز محاذاة بعض الحجر جازت محاذاته ببعض البدن ، أي لما جازت محاذاة بعض الحجر بجميع البدن بلا خلاف ينبغي أن يجوز محاذاة كل الحجر ببعض البدن ، وذكر صاحب العدة وغيره في المسألتين قولين ( والمذهب ) ما سبق والله أعلم .

( الرابعة ) ينبغي له في طوافه أن يجعل البيت على يساره ، ويمينه إلى خارج ويدور حول الكعبة كذلك ، فلو خالف فجعل البيت عن يمينه ، ومر من الحجر الأسود إلى الركن اليماني لم يصح طوافه بلا خلاف عندنا ، ولو لم يجعل البيت على يمينه ولا يساره ، بل استقبله بوجهه معترضا وطاف كذلك ، أو جعل البيت على يمينه ومشى قهقرى إلى جهة الباب ، ففي صحة طوافه وجهان حكاهما الرافعي ، قال الرافعي ( أصحهما ) لا يصح ، قال : وهو الموافق لعبارة الأكثرين ، وجزم البغوي والمتولي في صورة من جعل البيت عن يمينه ومشى قهقرى بأنه يصح ، لكن يكره ( والأصح ) البطلان كما سبق . قال الرافعي : وكان القياس جريان هذا الخلاف فيما لو مر معترضا مستدبرا هذا كلامه ( والصواب ) في هذه الصورة القطع بأنه لا يصح ، فإنه منابذ لما ورد الشرع به ، والله أعلم .

( الخامسة ) يستحب استلام الحجر بيده في أول الطواف وتقبيل الحجر ، ودليلهما في الكتاب . قال الشافعي والأصحاب : ويستحب السجود عليه أيضا مع الاستلام والتقبيل بأن يضع الجبهة عليه . قال أصحابنا : [ ص: 46 ] ويستحب أن يكرر السجود عليه ثلاثا ، فإن عجز عن الثلاث فعل الممكن . وممن صرح بذلك البندنيجي وصاحب العدة والبيان . واحتج له البيهقي بما رواه بإسناده عن ابن عباس { أنه قبله وسجد عليه وقال : رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبله وسجد عليه ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا ففعلت } . وروى الشافعي والبيهقي بإسنادهما الصحيح عن أبي جعفر قال " رأيت ابن عباس جاء يوم التروية ملبدا رأسه فقبل الركن ثم سجد عليه ، ثم قبله ثم سجد عليه ثلاث مرات " وروى البيهقي عن ابن عباس قال . { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على الحجر } قال المصنف والأصحاب : ويستحب أن لا يشير إلى القبلة بالفم إذا تعذرت ، ويستحب أن يخفف القبلة بحيث لا يظهر لها صوت .

( فرع ) إذا منعته الزحمة ونحوها من التقبيل والسجود عليه ، وأمكنه الاستلام استلم ، فإن لم يمكنه أشار باليد إلى الاستلام ، ولا يشير بالفم إلى التقبيل لما ذكره المصنف ، ثم يقبل اليد بعد الاستلام إذا اقتصر عليه لزحمة ونحوها ، هكذا قطع به الأصحاب . وذكر إمام الحرمين أنه يتخير بين أن يستلم ثم يقبل اليد ، وبين أن يقبل اليد ثم يستلم بها ، والمذهب القطع باستحباب تقديم الاستلام ثم يقبلها ، فإن لم يتمكن من الاستلام باليد استحب أن يستلم بعصا ونحوها ، للأحاديث السابقة ، اتفق عليه أصحابنا ، فإن لم يتمكن من ذلك أشار بيده ، أو بشيء في يده إلى الاستلام ثم قبل ما أشار به . ومما يستدل به لما ذكرته في هذا الفرع مع ما سبق من الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم { وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة .

وعن نافع قال { رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده وقال : ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 47 ] يفعله } رواه مسلم في صحيحه ، وهذا محمول على تعذر تقبيل الحجر ، وقد سبقت الأحاديث في استلام النبي صلى الله عليه وسلم الحجر بالمحجن .

( فرع ) قال أصحابنا : لا يستحب للنساء تقبيل الحجر ولا استلامه إلا عند خلو المطاف في الليل أو غيره لما فيه من ضررهن وضرر الرجال بهن .

( فرع ) للكعبة الكريمة أربعة أركان : الركن الأسود ، ثم الركنان الشاميان ثم الركن اليماني ، ويقال للأسود واليماني : اليمانيان - بتخفيف الياء - ويجوز تشديدها على لغة قليلة ، فالأسود واليماني مبنيان على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم والشاميان ليسا على قواعده ، بل مغيران ; لأن الحجر يليهما ، وكله أو بعضه من البيت كما سبق وللركن الأسود فضيلتان : كون الحجر الأسود فيه ، وكونه على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم وللركن اليماني فضيلة واحدة ، وهي كونه على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم وليس للشاميين شيء من الفضيلتين ، فإذا عرفت هذا فالسنة في الحجر الأسود استلامه وتقبيله ، والسنة في الركن اليماني استلامه ولا يقبل ، والسنة لا يقبل الشاميان ولا يستلمان ، فخص الأسود بالتقبيل مع الاستلام ; لأن فيه فضيلتين ، واليماني بالاستلام لأن فيه فضيلة واحدة ، وانتفت الفضيلتان في الشاميين . واستدل أصحابنا لما ذكرته بحديث ابن عمر قال { ما تركت استلام هذين الركنين اليماني والحجر الأسود منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما في شدة ولا رخاء } رواه البخاري ومسلم . وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني } رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ مسلم ، ولفظ [ ص: 48 ] البخاري قال { لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين } رواه مسلم وعن ابن عمر أنه حين بلغه حديث عائشة السابق { لولا أن قومك حديثو عهد بكفر } الحديث ، قال ابن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم } رواه البخاري ومسلم وأما حديث أبي الشعثاء قال كان معاوية يستلم الأركان ، فقال له ابن عباس : إنه لا يستلم هذا الركنان فقال : ليس شيء من البيت مهجورا ، وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن " رواه البخاري في صحيحه ، فهذا مذهب معاوية وابن الزبير لم يروياه عن النبي صلى الله عليه وسلم بل أخذاه باجتهادهما ، وهو مخالف للأحاديث الصحيحة . وقد خالفهما فيه ابن عمر وابن عباس وجمهور الصحابة ، فالصواب أنه لا يسن استلام الركنين الشاميين وأما قول معاوية " { ليس شيء من البيت مهجورا } فقد أجاب عنه الشافعي فقال : لم يدع أحد أن عدم استلامهما هجر للبيت ، لكنه استلم ما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك ما أمسك عنه .

( فرع ) قد ذكرنا أنه يستحب استلام اليماني دون تقبيله ، قال الشافعي والأصحاب : فإذا استلمه استحب أن يقبل يده بعد استلامه . وقال إمام الحرمين والمتولي : إن شاء قبلها قبل الاستلام ، وإن شاء بعده ، ولا فضيلة في تقديم الاستلام . وذكر الفوراني وجهين ، وحكاهما أيضا عن صاحب البيان ( أحدهما ) يقبل يده ويستلمه كأنه ينقل القبلة إليه ( والثاني ) يستلمه ثم يقبل يده كأنه ينقل بركته إلى نفسه ( والمذهب ) استحباب تقديم الاستلام . وجاء في هذه المسألة حديثان ضعيفان ( أحدهما ) يوافق المذهب والآخر يخالفه ، فالموافق عن جابر { أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الحجر فقبله ، واستلم الركن اليماني فقبل يده } رواه البيهقي وضعفه . والمخالف عن عبد الله بن مسلم بن هرمز عن مجاهد عن ابن عباس . [ ص: 49 ] قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استلم الركن اليماني قبله ووضع خده الأيمن عليه } رواه البيهقي وقال : هذا حديث لا يثبت مثله . قال : تفرد به عبد الله بن مسلم بن هرمز وهو ضعيف ، قال : والأخبار عن ابن عباس في تقبيل الحجر الأسود والسجود عليه قال إلا أن يكون أراد بالركن اليماني الحجر الأسود فإنه أيضا يسمى بذلك فيكون موافقا لغيره ، والله أعلم .

( فرع ) قال القاضي أبو الطيب : يستحب أن يجمع في الاستلام والتقبيل بين الحجر الأسود والركن الذي هو فيه وظاهر كلام جمهور الأصحاب أنه يقتصر على الحجر .

( فرع ) قال الشافعي والمصنف والأصحاب : يستحب استلام الحجر الأسود وتقبيله ، واستلام الركن اليماني وتقبيل اليد بعده ، عند محاذاتهما في كل طوفة من السبع ، وهو في الأوتار آكد لأنها أفضل .

( فرع ) قال الشافعي والمصنف والأصحاب : يستحب أن يقول عند استلام الحجر الأسود أولا ، وعند ابتدائه بالمشي في الطواف أيضا : باسم الله والله أكبر اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ، ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم ويأتي بهذا الذكر أيضا عند محاذاة الحجر الأسود في كل طوفة ، وهو في الأول آكد . قال الشافعي : ويقول الله أكبر ولا إله إلا الله ، قال وما ذكر الله تعالى به وما صلى على النبي به صلى الله عليه وسلم فحسن .

( فرع ) في فضيلة الحجر الأسود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { نزل الحجر الأسود من الجنة ، وهو أشد بياضا من اللبن ، فسودته [ ص: 50 ] خطايا بني آدم } رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ، ولولا ذلك لأضاء ما بين المشرق والمغرب } رواه الترمذي وغيره ، ورواه البيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم . وفي رواية { الركن والمقام من ياقوت الجنة ، ولولا ما مسهما من خطايا بني آدم لأضاء ما بين المشرق والمغرب ، وما مسهما من ذي عاهة ولا سقيم إلا شفي } وإسنادها صحيح وفي رواية { لولا ما مسه من أنجاس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا شفي ، وما على الأرض شيء من الجنة غيره } إسنادها صحيح . وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ليبعثن الله الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به ، يشهد على من استلمه بحق } رواه البيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم . قال هكذا رواه جماعة ، ورواه بعضهم { لمن استلمه بحق } وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { استمتعوا من هذا الحجر الأسود قبل أن يرفع فإنه خرج من الجنة ، وإنه لا ينبغي لشيء يخرج من الجنة إلا رجع إليها قبل يوم القيامة } فرواه أبو القاسم الطبراني . ( فرع ) قد ذكرناه في آخر باب محظورات الإحرام أن الكعبة الكريمة بنيت خمس مرات ، وقيل سبعا ، وفصلناهن ، وذكرنا أن الشافعي رضي الله عنه قال : أحب أن لا تهدم الكعبة وتبنى لئلا تذهب حرمتها ، وذكرنا هناك جملا من الأحكام المتعلقة بالحرم ، وبالله التوفيق .

( فرع ) قال الدارمي : لو محي الحجر الأسود - والعياذ بالله - من موضعه استلم الركن الذي كان فيه وقبله وسجد عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية