صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( والسنة أن يرمل في الثلاثة الأولى ويمشي في الأربعة ، لما روى ابن عمر قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا ، فإن كان راكبا حرك دابته في موضع الرمل ، وإن كان محمولا رمل به الحامل } ويستحب أن يقول في رمله : اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا . ويدعو بما أحب من أمر الدين [ ص: 55 ] والدنيا ، قال في الأم ويستحب أن يقرأ القرآن لأنه موضع ذكر . والقرآن من أعظم الذكر ، فإن ترك الرمل في الثلاث لم يقض في الأربعة ; لأنه هيئة في محل فلا يقضى في غيره كالجهر بالقراءة في الأوليين ، ولأن السنة في الأربع المشي ، فإذا قضى الرمل في الأربعة أخل بالسنة في جميع الطواف وإذا اضطبع ورمل في طواف القدوم ، نظرت فإن سعى بعده لم يعد الرمل والاضطباع في طواف الزيارة ; لحديث ابن عمر رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا } فدل على أنه لم يعد في غيره ، وإن لم يسع بعده وأخر السعي إلى ما بعد طواف الزيارة اضطبع ورمل في طواف الزيارة ; لأنه يحتاج إلى الاضطباع للسعي ، فكره أن يفعل ذلك في السعي ولا يفعله في الطواف ، وإن طاف للقدوم وسعى بعده ونسي الرمل والاضطباع في الطواف فهل يقضيه في طواف الزيارة ؟ فيه وجهان .

( أحدهما ) أنه يقضي لأنه إن لم يقض فاتته سنة الرمل والاضطباع ، ومن أصحابنا من قال لا يقضي ، وهو المذهب ; لأنه لو جاز أن يقضي الرمل لقضاه في الأشواط الأربعة . فإن ترك الرمل والاضطباع والاستلام والتقبيل والدعاء في الطواف جاز ولا يلزمه شيء ; لأن الرمل والاضطباع هيئة فلم يتعلق بتركها جبران كالجهر والإسرار في القراءة ، والتورك والافتراش في التشهد والاستلام والتقبيل والدعاء كمال ، فلا يتعلق به جبران كالتسبيح في الركوع والسجود ، ولا ترمل المرأة ولا تضطبع لأن في الرمل تبين أعضاؤها ، وفي الاضطباع ينكشف ما هو عورة منها )


( الشرح ) حديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم بلفظه هنا ، ومعنى خب : رمل ، والرمل - بفتح الراء والميم - وهو سرعة المشي مع تقارب الخطى وهو الخبب ، يقال : رمل يرمل - بضم الميم - رملا ورملانا ، قوله " حجا مبرورا " هو الذي لا يخالطه إثم . وقيل : هو المقبول ، وسبق ذكره أول كتاب الحج . والقول الأول قول شمر وآخرين مشتق من البر ، وهو الطاعة ، والقول الثاني قول الأزهري وغيره وأصله من البر ، وهو اسم جامع للخير ، ومنه بررت فلانا أي وصلته وكل عمل صالح بر ، ويقال : بر الله حجه وأبره . قوله " وذنبا مغفورا " قال العلماء : تقديره اجعل [ ص: 56 ] ذنبي ذنبا مغفورا ، وسعيا مشكورا ، قال الأزهري : معناه اجعله عملا متقبلا يذكر لصاحبه ثوابه ، فهذا معنى المشكور عند الأزهري وقال غيره : أي عملا يشكر صاحبه . قال الأزهري : ومساعي الرجل أعماله ، واحدتها مسعاة ، قوله " والقرآن من أعظم الذكر " وهكذا هو في النسخ والأجود حذف ( من ) فيقال أعظم الذكر .

قوله " لأنه هيئة " احتراز ممن ترك ركعة أو سجدة من صلاته . قوله الأشواط الأربعة خلاف طريقة الشافعي والأصحاب ، فإنهم كرهوا تسميته أشواطا ، كما سأوضحه إن شاء الله تعالى .

( أما الأحكام ) فاتفق الشافعي والأصحاب على استحباب الرمل في الطوفات الثلاث للحديث السابق مع أحاديث كثيرة في الصحيح مثله ، قالوا : والرمل هو إسراع المشي مع تقارب الخطى ، قالوا : ولا يثب ولا يعدو عدوا ، قالوا : والرمل هو الخبب للحديث الصحيح السابق عن ابن عمر " خب ثلاثا " قال الرافعي : وغلط الأئمة من قال دون الخبب وقال إمام الحرمين : قال بعض أصحابنا : الرمل فوق سجية المشي ودون العدو ، قال : وقال الشيخ أبو بكر يعني الصيدلاني - هو سرعة في المشي دون الخبب ، قال الإمام وهذا عندي زلل ، فإن الرمل في فعل الناس كافة كأنه ضرب من الخبب ، يشير إلى قفزان ، والله أعلم .

قال أصحابنا : ويسن الرمل في الطوفات الثلاث الأولى ، ويسن المشي على الهينة في الآخرة ، فلو فاته في الثلاث لم يقضه في الأربع لما ذكره المصنف ، وهذا لا خلاف فيه ، وهو نظير من قطعت مسبحته اليمنى لا يشير في التشهد باليسرى ، وسبق إيضاحه مع نظائره ، وهل يستوعب البيت بالرمل ؟ فيه طريقان ( الصحيح ) المشهور ، وبه قطع الجمهور : يستوعبه فيرمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود ولا يقف إلا في حال الاستلام والتقبيل والسجود على الحجر ( والثاني ) حكاه إمام الحرمين [ ص: 57 ] وغيره ، فيه قولان ، وذكرهما الغزالي وجهين ( أصحهما ) هذا ( والثاني ) لا يرمل بين الركنين اليمانيين بل يمشي ، وجاء الأمران في صحيح مسلم فثبت الثاني من رواية ابن عباس قال { قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، وقد وهنتهم حمى يثرب . قال المشركون : إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى ، فلقوا منها شدة ، فجلسوا مما يلي الحجر . وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين . ليرى المشركون جلدهم ، فقال المشركون : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا وكذا } . قال ابن عباس : ولم يمنعه من أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم ، وفي رواية له { هؤلاء أجلد منا } .

وعن ابن عمر قال { رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا ومشى أربعا } رواه مسلم . وعن جابر قال { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف } رواه مسلم . وعن جابر أيضا { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل الثلاثة أطواف من الحجر إلى الحجر } رواه مسلم . وهكذا الرواية " الثلاثة أطواف " ، وهو جائز وإن كان أكثر أهل العربية يبطلونه ، وقد جاءت له نظائر في الصحيح فهاتان الروايتان صحيحتان في استيعاب الرمل بالبيت وعدم استيعابه فيتعين الجمع بينهما ، وطريق الجمع أن حديث ابن عباس كان في عمرة القضاء سنة سبع من الهجرة قبل فتح مكة وكان أهلها مشركين حينئذ . وحديث ابن عمر وجابر كان في حجة الوداع سنة عشر ، فيكون متأخرا ، فيتعين الأخذ به ، والله أعلم .

( فرع ) في بيان الطواف الذي يشرع به الرمل . وقد اضطربت طرق الأصحاب فيه ، ولخصها الرافعي متقنة فقال : لا خلاف أن الرمل لا يسن في كل طواف ، بل إنما يسن في طواف واحد ، وفي ذلك الطواف قولان مشهوران ( أصحهما ) عند الأكثرين أنه يسن في طواف يستعقب [ ص: 58 ] السعي ( والثاني ) يسن في طواف القدوم مطلقا ، فعلى القولين لا رمل في طواف الوداع بلا خلاف . ويرمل من قدممكة معتمرا على القولين ، لوقوع طوافه مجزئا عن القدوم مع استعقابه السعي ، ويرمل أيضا الحاج الأفقي إذا لم يدخل مكة إلا بعد الوقوف . أما من دخل مكة محرما بالحج قبل الوقوف وأراد طواف الوقوف فهل يرمل ؟ ينظر إن كان لا يسعى عقبه ففيه القولان ( الأول ) الأصح لا يرمل ( والثاني ) يرمل وعلى الأول إنما يرمل في طواف الإفاضة لاستعقابه السعي ، فأما إن كان يسعى عقب طواف القدوم فيرمل فيه بلا خلاف ، وإذا رمل فيه وسعى بعده لا يرمل في طواف الإفاضة بلا خلاف ، إن لم يرد السعي بعده ، وإن أراد إعادة السعي بعده لم يرمل بعده أيضا على المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وحكى البغوي فيه قولين والأول أشهر ( أصحهما ) عند المصنف والبغوي والرافعي وآخرين : لا يرمل ( والثاني ) يرمل ، وبه قطع الشيخ أبو حامد ، ودليلهما في الكتاب . ولو طاف للقدوم ونوى أن لا يسعى بعده ثم بدا له وسعى - ولم يكن رمل في طواف القدوم - فهل يرمل في طواف الإفاضة ؟ فيه الوجهان ، ذكرهما القاضي أبو الطيب في تعليقه ، ولو طاف للقدوم فرمل فيه ولم يسع ، قال جمهور الأصحاب : يرمل في طواف الإفاضة لبقاء السعي ، قال الرافعي : الظاهر أنهم فرعوه على القول الأول وهو الذي يعتبر استعقاب السعي ، وإلا فالقول الثاني لا يعتبر استعقاب السعي فيقتضي أن يرمل في الإفاضة .

وأما المكي المنشئ حجة من مكة فهل يرمل في طواف الإفاضة ؟ ( فإن قلنا ) بالقول الثاني لم يرمل إذ لا قدوم في حقه ( وإن قلنا ) بالأول رمل لاستعقابه السعي ، وهذا هو المذهب . وأما الطواف الذي هو غير طوافي القدوم والإفاضة فلا يسن فيه [ ص: 59 ] الرمل بلا خلاف ، سواء كان الطائف حاجا أو معتمرا ، متبرعا بطواف آخر أو غير محرم لأنه ليس بطواف قدوم ولا يتعقب سعيا ، وإنما يرمل في قدوم أو ما يستعقب سعيا كما سبق ، والله أعلم .

قال أصحابنا : والاضطباع ملازم للرمل ، فحيث استحببنا الرمل بلا خلاف فكذا الاضطباع ، وحيث لم نستحبه بلا خلاف ، فكذا الاضطباع ، وحيث جرى خلاف جرى في الرمل والاضطباع جميعا ، وهذا لا خلاف فيه ، وسبق بيانه في فصل الاضطباع ، والله أعلم .

( فرع ) قد سبق أن القرب من البيت مستحب للطائف ، وأنه لو تعذر الرمل مع القرب للزحمة ، فإن رجا فرجة ولا يتأذى أحد بوقوفه ولا يضيق على الناس ، وقف ليرمل ، وإلا فالمحافظة على الرمل مع البعد أولى ، فلو كان في حاشية المطاف نساء ولم يأمن ملامستهن لو تباعد فالقرب بلا رمل أولى من البعد مع الرمل ، حذرا من انتقاض الوضوء . وكذا لو كان بالقرب أيضا نساء وتعذر الرمل في جميع المطاف لخوف الملامسة فترك الرمل في هذه الحال أفضل . قال أصحابنا : ومتى تعذر الرمل استحب أن يتحرك في مشيه ، ويرى من نفسه أنه لو أمكنه الرمل لرمل ، نص عليه الشافعي ، واتفق عليه الأصحاب . قال إمام الحرمين : هو كما قلنا : يستحب لمن لا شعر على رأسه إمرار الموسى عليه .

( فرع ) لو طاف راكبا أو محمولا فهل يستحب أن يحرك الدابة ليسرع كإسراع الرامل ويسرع به الحامل أم لا ؟ فيه أربع طرق ( أصحها ) وبه قطع البغوي وآخرون فيهما قولان . ومنهم من حكاهما وجهين ( أصحهما ) وهو الجديد يستحب ; لأنه كحركة الراكب والمحمول ( والثاني ) وهو القديم لا يستحب ; لأن الرمل مستحب للطائف لإظهار الجلد والقوة ، وهذا المعنى مقصود هنا ، ولأن الدابة والحامل قد يؤذيان الطائفين بالحركة .

[ ص: 60 ] والطريق الثاني ) وبه قطع الشيخ أبو حامد في تعليقه وأبو علي البندنيجي في الجامع ، والقاضي أبو الطيب وآخرون : إن طاف راكبا حرك دابته قولا واحدا وإن حمل فقولان ( الجديد ) يرمل به الحامل وهو الأصح ( والقديم ) لا يرمل .

( والطريق الثالث ) إن كان المحمول صبيا رمل حامله قطعا ، وإلا فالقولان .

( والطريق الرابع ) يرمل به الحامل ويحرك الدابة قولا واحدا ، وبه قطع المصنف والدارمي وغيرهما ، والله أعلم .

( فرع ) يستحب أن يدعو في رمله بما أحب من أمر الدين والدنيا والآخرة وآكده " اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا " نص على هذه الكلمات الشافعي ، واتفق الأصحاب عليها . ويستحب أن يدعو أيضا في الأربعة الأخيرة التي يمشيها ، وأفضل دعائه : اللهم اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم ، " اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " فنص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب وذكره المصنف في التنبيه ، وعجب كيف أهمله هنا ؟ والله أعلم .

( فرع ) قال الشافعي والأصحاب : يستحب قراءة القرآن في الطواف ، لما ذكره المصنف ، ونقل الرافعي أن قراءة القرآن أفضل من الدعاء غير المأثور في الطواف ، قال : وأما المأثور فيه فهو أفضل منها على الصحيح ، وفي وجه أنها أفضل منه . وأما في غير الطواف فقراءة القرآن أفضل من الذكر إلا الذكر المأثور في مواضعه وأوقاته ، فإن فعل المنصوص عليه حينئذ أفضل ، ولهذا أمر بالذكر في الركوع والسجود ونهي عن القراءة فيهما . وقد نقل الشيخ أبو حامد في تعليقه في هذا الموضع أن الشافعي نص أن قراءة القرآن أفضل الذكر . [ ص: 61 ] ومما يستدل به لتفضيل قراءة القرآن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { يقول الرب سبحانه وتعالى : من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ، وفضل كلام الله سبحانه وتعالى على سائر الكلام كفضل الله على خلقه } رواه الترمذي وقال : حديث حسن ، والأحاديث في ترجيح القراءة على الذكر كثيرة . ( فإن قيل ) فقد ثبت عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى ؟ إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده } رواه مسلم . وفي رواية لمسلم أيضا عن أبي ذر قال : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل ؟ قال : ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده أفضل من سبحان الله وبحمده } وعن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أحب الكلام إلى الله تعالى أربع : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، لا يضرك بأيهن بدأت } رواه مسلم . والجواب أن المراد أن هذا أحب كلام الآدميين وأفضله ، لا أنه أفضل من كلام الله ، والله أعلم .

( فرع ) قال المتولي : تكره المبالغة في الإسراع في الرمل ، بل يرمل على العادة ، لحديث جابر السابق عن صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لتأخذوا عني مناسككم } .

( فرع ) لو ترك الاضطباع والرمل والاستلام والتقبيل والدعاء في الطواف فطوافه صحيح ولا إثم عليه ، ولا دم عليه ، لكن فاتته الفضيلة . قال الشافعي والأصحاب : وهو مسيء ، يعنون إساءة لا إثم فيها ، ودليل المسألة ما ذكره المصنف

[ ص: 62 ] فرع ) اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن المرأة لا ترمل ولا تضطبع لما ذكره المصنف . قال الدارمي وأبو علي البندنيجي وغيرهما : ولو ركبت دابة أو حملت في الطواف لمرض ونحوه لم تضطبع ولا يرمل حاملها . قال البندنيجي : سواء في هذا الصغيرة والكبيرة والصحيحة والمريضة . قال القاضي أبو الفتوح وصاحب البيان : والخنثى في هذا كالمرأة والله أعلم .

واستدل الشافعي ثم البيهقي بما روياه في الصحيح عن ابن عمر أنه قال " ليس على النساء سعي بالبيت ولا بين الصفا والمروة "

التالي السابق


الخدمات العلمية