صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى ( والواجب منه أن يمسح ما يقع عليه اسم المسح وإن قل ، وقال أبو العباس بن القاص : أقله ثلاث شعرات كما نقول في الحلق في الإحرام ، والمذهب أنه لا يتقدر لأن الله تعالى - : أمر بالمسح وذلك يقع على القليل والكثير ) .


( الشرح ) المشهور في مذهبنا الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي وقطع به جمهور الأصحاب في الطرق أن مسح الرأس لا يتقدر وجوبه بشيء ، بل يكفي فيه ما يمكن ، قال أصحابنا : حتى لو مسح بعض شعرة واحدة أجزأه ، هكذا صرح به الأصحاب ونقله إمام الحرمين عن الأئمة ، ويتصور المسح على بعض شعرة بأن يكون رأسه مطليا بحناء ونحوه بحيث لم يبق من الشعر ظاهرا إلا شعرة فأمر يده عليها على رأسه المطلي ، وقال ابن القاص وأبو الحسن بن خيران في كتابه اللطيف ( وهو غير أبي علي بن خيران ) : أقله مسح ثلاث شعرات ، وحكاه الماوردي عن أصحابنا البصريين قال : وعندي أن أقله أن يمسح بأقل شيء من أصبعه على أقل شيء من رأسه ; لأنه أقل ما يقتصر عليه في العرف ، وقال البغوي : ينبغي أن لا يجزي أقل من قدر الناصية ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمسح أقل منها ، وحكي هذا عن [ ص: 431 ] المزني . وقول المصنف ( كما نقول في الحلق في الإحرام ) يعني الحلق الذي هو نسك فإنه لا يحصل إلا بثلاث شعرات . وكذا الحلق الذي هو حرام على المحرم لا تكمل الفدية فيه إلا بثلاث شعرات . فقاس جماعة على الحلق الأول ، وآخرون على الثاني ، وآخرون عليهما ، وكله صحيح ، والأول أجود والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في أقل ما يجزي من مسح الرأس وقد ذكرنا أن المشهور من مذهبنا أنه ما يقع عليه الاسم وإن قل ، وحكاه ابن الصباغ عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وحكاه أصحابنا عن الحسن البصري وسفيان الثوري وداود ، وعن أبي حنيفة ثلاث روايات أشهرها : ربع الرأس . والثانية : قدر ثلاث أصابع بثلاث أصابع . والثالثة : قدر الناصية ، وعن أبي يوسف : نصف الرأس . وعن مالك وأحمد والمزني : جميع الرأس على المشهور عنهم . وقال محمد بن سلمة من أصحاب مالك : إن ترك نحو ثلث الرأس جاز ، وهي رواية عن أحمد . واحتج لمن أوجب الجميع بقوله تعالى - : { وامسحوا برءوسكم } قالوا والباء للإلصاق كقوله تعالى - : { وليطوفوا بالبيت العتيق } ولأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح الجميع ، وقياسا على التيمم في قوله تعالى - : { فاغسلوا وجوهكم } ويجب فيه الاستيعاب . واحتج أصحابنا بأن المسح يقع على القليل والكثير ، وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته ، فهذا يمنع وجوب الاستيعاب ويمنع التقدير بالربع والثلث والنصف فإن الناصية دون الربع فتعين أن الواجب ما يقع عليه الاسم ، والذي اعتمده إمام الحرمين في كتابه الأساليب في الخلاف أن المسح إذا أطلق فالمفهوم معه المسح من غير اشتراط للاستيعاب ، وانضم إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح الناصية وحدها . ولم يخص [ ص: 432 ] أحد الناصية ، ومنع جواز قدرها من موضع آخر ، فدل على جواز مطلق المسح .

وأما قولهم الباء للإلصاق فقال أصحابنا : لا نسلم أنها هنا للإلصاق بل هي للتبعيض ، ونقلوا ذلك عن بعض أهل العربية ، وقال جماعة منهم إذا دخلت الباء على فعل يتعدى بنفسه كانت للتبعيض كقوله { وامسحوا برءوسكم } وإن لم يتعد فللإلصاق كقوله تعالى - : { وليطوفوا بالبيت } قال أصحابنا : وعلى هذا يحصل الجمع بين الآية والأحاديث . فيكون النبي صلى الله عليه وسلم مسح كل الرأس في معظم الأوقات بيانا لفضيلته ، واقتصر على البعض في وقت بيانا للجواز ، وأما قياسهم على التيمم فجوابه من وجهين ( أحدهما ) أن السنة بينت أن المطلوب بالمسح في التيمم الاستيعاب وفي الرأس البعض .

( الثاني ) فرق الشافعي في مختصر المزني بينهما فقال : مسح الرأس أصل فاعتبر فيه حكم لفظه ، والتيمم بدل عن غسل الوجه فاعتبر فيه حكم مبدله . فإن قيل : هذا الفرق فاسد بالمسح على الخف فالجواب أن هذا التعليل يقتضي استيعاب الخف بالمسح لكن ترك ذلك لوجهين : ( أحدهما ) الإجماع على أنه لا يجب .

( الثاني ) أنه يفسد الخف مع أنه مبني على التخفيف ، ولهذا يجوز مع القدرة على غسل الرجل بخلاف التيمم والله أعلم . وأما قول ابن القاص ومن وافقه : أنه يشترط مسح ثلاث شعرات كالحلق في الإحرام فأجاب الأصحاب بأن المطلوب في الحلق الشعر ، وتقدير الآية : محلقين شعر رءوسكم ، والشعر إما جمع كما يقوله أهل اللغة وإما اسم جنس كما يقوله أهل النحو والتصريف وهو الصحيح ، وأقل الجمع ثلاث بخلاف المسح فإنه غير منوط بالشعر ، واسم المسح يقع على القليل ، وهذا الفرق مشهور ، وممن ذكره بمعناه إمام الحرمين والمتولي واتفق الأصحاب على تضعيف قول ابن القاص قال إمام الحرمين : هو غلط ، لأن الاستيعاب قد سقط وبطل التقدير فتعين الاكتفاء بما يقع عليه الاسم ، قال الرافعي : وهل يختص قول ابن القاص بما إذا مسح الشعر ؟ أم يجزي في مسح البشرة ويشترط مسح قدر ثلاث شعرات ؟ في كلام النقلة ما يشعر بالاحتمالين ، والأول أظهر والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية