صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ثم يفيض إلى مكة ويطوف طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة ، لما روى جابر رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة ثم ركب وأفاض إلى البيت } وهذا الطواف ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به ، والأصل فيه قوله عز وجل { وليطوفوا بالبيت العتيق } وروت عائشة { أن صفية رضي الله عنهما حاضت فقال النبي صلى الله عليه وسلم أحابستنا هي ؟ قلت : يا رسول الله إنها قد أفاضت ، قال : فلا إذا } فدل على أنه لا بد من فعله ، وأول وقته إذا انتصفت ليلة النحر ، لما روت عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة رضي الله عنها يوم النحر فرمت قبل الفجر ثم أفاضت } والمستحب أن يطوف يوم النحر لأن النبي صلى الله عليه وسلم " طاف يوم النحر " فإن أخره إلى ما بعده وطاف جاز ، لأنه أتى به بعد دخول الوقت )


( الشرح ) حديث جابر رواه مسلم .

وحديث عائشة الأول في قصة [ ص: 197 ] صفية رواه البخاري ومسلم ( وأما ) حديثها الآخر في قصة أم سلمة ( وأما ) قوله : إن النبي صلى الله عليه وسلم { طاف يوم النحر } فصحيح رواه مسلم من رواية ابن عمر ، ومن رواية جابر والله أعلم .

( أما أحكام الفصل ) فالسنة إذا رمى وذبح وحلق أن يفيض إلى مكة ويطوف بالبيت طواف الإفاضة ، وقد سبق في أول الباب أن له خمسة أسماء وقد سبقت كيفية الطواف وسبق بيان التفصيل ، والخلاف في أنه يرمل ويضطبع في هذا الطواف أم لا ؟ وهذا الطواف ركن من أركان الحج لا يصح الحج إلا به بإجماع الأمة ، قال الأصحاب : ويدخل وقت هذا الطواف من نصف ليلة النحر ، ويبقى إلى آخر العمر ، ولا يزال محرما حتى يأتي به ، والأفضل طوافه يوم النحر وأن يكون قبل الزوال في الضحى بعد فراغه من الأعمال الثلاثة وهي الرمي والذبح والحلق . قال أصحابنا : ويستحب أن يعود إلى منى قبل صلاة الظهر فيصلي الظهر بمنى قال أصحابنا : ويكره تأخير الطواف عن يوم النحر ، وتأخيره عن أيام التشريق أشد كراهة ، وخروجه من مكة بلا طواف أشد كراهة ، ومن لم يطف لا يحل له النساء وإن مضت عليه سنون . قال أصحابنا : ولو طاف للوداع ، ولم يكن طاف الإفاضة وقع عن طواف الإفاضة وأجزأه ، وقد سبقت المسألة واضحة في فصل طواف القدوم قال أصحابنا : فإذا طاف فإن لم يكن سعى بعد طواف القدوم لزمه السعي بعد طواف الإفاضة ، ولا يزال محرما حتى يسعى ، ولا يحصل التحلل الثاني بدونه وإن كان سعى بعد طواف القدوم لم يعده بل تكره إعادته كما سبق في فصل السعي ، والله تعالى أعلم .

( فرع ) قد ذكرنا أنه لا آخر لوقت طواف الإفاضة ، بل يصح [ ص: 198 ] ما دام حيا لكن يكره تأخيره عن يوم النحر ، فإذا أخره عن أيام التشريق ، قال المتولي : يكون قضاء ، قال الرافعي : ومقتضى كلام الأصحاب أنه لا يكون قضاء ، بل يقع أداء لأنهم قالوا : ليس هو بمؤقت ، وهذا كما قاله الرافعي .

( فرع ) قد ذكرنا أنه يدخل وقت طواف الإفاضة بنصف ليلة النحر ، وهذا لا خلاف فيه عندنا ، قال القاضيان أبو الطيب وحسين في تعليقهما وصاحب البيان وغيرهم : ليس للشافعي في ذلك نص إلا أن أصحابنا ألحقوه بالرمي في ابتداء وقته ( وأما ) وقت الفضيلة لطواف الإفاضة فقد ذكرنا أنه ضحوة يوم النحر ، وهذا هو الصحيح المشهور الذي تظاهرت به الأحاديث الصحيحة وقطع به جمهور الأصحاب ، وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه : في الوقت المستحب وجهان لأصحابنا ( أحدهما ) ما بين طلوع الشمس يوم النحر وزوالها ، لحديث ابن عمر وجابر اللذين سنذكرهما إن شاء الله تعالى في الفرع بعده ( والثاني ) ما بين طلوعها وغروبها .

( فرع ) قال الشافعي والماوردي والأصحاب : إذا فرغ من طوافه استحب أن يشرب من سقاية العباس ; لحديث جابر " { أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بعد الإفاضة إليهم وهم يسقون على زمزم فناولوه دلوا فشرب منه } رواه مسلم . ( فرع ) قد ذكرنا أن الأفضل أن يطوف الإفاضة قبل الزوال ويرجع إلى منى فيصلي بها الظهر ، هذا هو المذهب الصحيح وبه قطع الجمهور ، ونقله الروياني في البحر عن نص الشافعي في الإملاء وذكر القاضي أبو الطيب في تعليقه فيه وجهين ( أحدهما ) هذا ( والثاني ) الأفضل أن يمكث بمنى حتى يصلي بها الظهر مع الإمام ، ويشهد [ ص: 199 ] الخطبة ثم يفيض إلى مكة فيطوف ، واستدل هذا القائل بحديث عائشة الذي سنذكره إن شاء الله تعالى ، واختار القاضي أبو الطيب بعد حكايته هذين الوجهين وجها ثالثا أنه إن كان في الصيف عجل الإفاضة لاتساع النهار ، وإن كان شتاء أخرها إلى ما بعد الزوال لضيقه ، هذا كلامه ، والصواب الأول .

وقد صح في هذه المسألة أحاديث متعارضة يشكل على كثير من الناس الجمع بينها حتى أن ابن حزم الظاهري صنف كتابا في حجة النبي صلى الله عليه وسلم وأتى فيه بنفائس واستقصى وجمع بين طرق الأحاديث في جميع الحج ، ثم قال : ولم يبق شيء لم يبن لي وجهه إلا الجمع بين هذه الأحاديث ، ولم يذكر شيئا في الجمع بينها وأنا أذكر طرقها ثم أجمع بينها إن شاء الله تعالى ( فمنها ) حديث جابر الطويل { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر إلى البيت فصلى بمكة الظهر } رواه مسلم وعن نافع عن ابن عمر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى . } قال نافع : وكان ابن عمر يفيض يوم النحر ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى " رواه مسلم وعن عبد الرحمن بن مهدي قال " حدثنا سفيان - يعني الثوري - عن أبي الزبير عن عائشة وابن عباس " { أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الطواف يوم النحر إلى الليل } رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن . وذكر البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة جزم فقال : وقال أبو الزبير عن عائشة وابن عباس " { أخر النبي صلى الله عليه وسلم الطواف إلى الليل } قال البيهقي : وقد سمع أبو الزبير من ابن عباس وفي سماعه من عائشة نظر . قاله البخاري قال البيهقي : وقد روينا عن أبي سلمة عن عائشة أنها قالت { وحججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر } قال وروى محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه [ ص: 200 ] عن عائشة قالت { أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى } ورواه عمر بن قيس عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة " { أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه فزاروا البيت ظهيرة وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلا } وإلى هذا ذهب عروة بن الزبير { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على ناقته ليلا } قال البيهقي وأصح هذه الروايات حديث ابن عمر وحديث جابر وحديث أم سلمة عن عائشة هذا كلام البيهقي .

( قلت ) فالظاهر أنه صلى الله عليه وسلم أفاض قبل الزوال وطاف وصلى بمكة في أول وقتها ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى إماما لأصحابه كما صلى بهم في بطن نخل مرتين ، مرة بطائفة ومرة بطائفة أخرى ، فروى جابر صلاته بمكة وابن عمر بمنى وهما صادقان ، وحديث أم سلمة عن عائشة محمول على هذا . وأما حديث أبي الزبير وغيره فجوابه من وجهين ( أحدهما ) أن روايات جابر وابن عمر وأم سلمة عن عائشة أصح وأشهر وأكثر رواة ، فوجب تقديمها ولهذا رواها مسلم في صحيحه دون حديث أبي الزبير وغيره .

( والثاني ) أنه يتأول قوله أخر طواف يوم النحر إلى الليل ، أي طواف نسائه ، ولا بد من التأويل للجمع بين الأحاديث ( فإن قيل ) هذا التأويل يرده رواية القاسم عن عائشة في قوله " وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلا " فجوابه لعله عاد للزيارة لا لطواف الإفاضة ، فزار مع نسائه ثم عاد إلى منى فبات بها ، والله أعلم .

( فرع ) قد ذكرنا لطواف الإفاضة خمسة أسماء ( منها ) طواف الزيارة ولا كراهة في تسميته طواف الزيارة . هذا مذهبنا ، وبه قال أهل العراق . وقال مالك : يكره . دليلنا حديث عائشة في صحيح مسلم وغيره " { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد من امرأته صفية مثل ما يريد [ ص: 201 ] الرجل ، فقالوا إنها حائض ، فقال إنها لحابستنا قالوا : يا رسول الله إنها قد زارت يوم النحر ، قال : فلتنفر معكن } ومعناه قد طافت طواف الزيارة . وعن ابن عباس وعائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طواف الزيارة إلى الليل } رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ودلالته ظاهرة ، ودلالة الأول أنه لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم ولأن الأصل عدم الكراهة حتى يثبت دليلها الشرعي . ( فرع ) اختلف العلماء في يوم الحج الأكبر متى هو ؟ فقيل يوم عرفة ، والصحيح الذي قاله الشافعي وأصحابنا وجماهير العلماء وتظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة أنه يوم النحر ، وإنما قيل الحج الأكبر للاحتراز من الحج الأصغر وهو العمرة . هكذا أثبت في الحديث الصحيح . ومما يستدل به حديث حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال { بعثني أبو بكر في تلك الحجة - يعني حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة تسع من الهجرة - في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمره أن يؤذن ليراه . قال أبو هريرة : فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ليراه ، وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، وكان حميد يقول : النحر يوم الحج الأكبر من أجل قول أبي هريرة } رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، ومعنى قول حميد أن الله أمر بهذا الأذان يوم الحج الأكبر فأذنوا به يوم النحر ، فدل على أنهم علموا أنه يوم الحج الأكبر المأمور بالأذان فيه في قوله تعالى { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } الآية ولأن معظم المناسك تفعل فيه ومن قال يوم عرفة احتج بالحديث السابق " الحج عرفة " ولكن حديث أبي هريرة يرده . ونقل القاضي عياض أن [ ص: 202 ] مذهب مالك أنه يوم النحر ، وأن مذهب الشافعي أنه يوم عرفة . وليس كما قال ، بل مذهب الشافعي وأصحابه أنه يوم النحر ، كما سبق . والله أعلم .

( فرع ) ذكرنا أن مذهبنا أن طواف الإفاضة لا آخر لوقته ، بل يبقى ما دام حيا ولا يلزمه بتأخيره دم ، قال ابن المنذر : ولا أعلم خلافا بينهم في أن من أخره وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم ، فإن أخره عن أيام التشريق فقد قال جمهور العلماء كمذهبنا : لا دم . ممن قاله عطاء وعمرو بن دينار وابن عيينة وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد وابن المنذر ، وهو رواية عن مالك وقال أبو حنيفة : إن رجع إلى وطنه قبل الطواف لزمه العود للطواف ، فيطوف وعليه دم للتأخير ، وهو الرواية المشهورة عن مالك ، دليلنا أن الأصل عدم الدم حتى يرد الشرع به ، والله أعلم ، وقد قدمنا في فصل طواف القدوم أنه لو طاف الإفاضة وترك من الطواف السبع واحدة أو بعضها لا يصح طوافه ، حتى يكمل السبع بلا خلاف عندنا ، وبه قال جمهور العلماء ، وسبق فيه بيان مذهب أبي حنيفة

التالي السابق


الخدمات العلمية