صفحة جزء
[ ص: 207 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإذا فرغ من الطواف رجع إلى منى ، وأقام بها أيام التشريق يرمي في كل يوم الجمرات الثلاث ، كل جمرة بسبع حصيات ، فيرمي الجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف ، ويقف قدر سورة البقرة يدعو الله عز وجل ، ثم يرمي الجمرة الوسطى ويقف ويدعو الله تعالى كما ذكرنا ، ثم يرمي الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة ولا يقف عندها ، لما روت عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة حتى صلى الظهر ، ثم رجع إلى منى فأقام بها أيام التشريق الثلاث يرمي الجمار فرمى الجمرة الأولى إذا زالت الشمس بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ، ثم يقف فيدعو الله تعالى ثم يأتي الجمرة الثانية فيقول مثل ذلك ، ثم يأتي جمرة العقبة فيرميها ، ولا يقف عندها . }

ولا يجوز أن يرمي الجمار في هذه الأيام الثلاثة إلا مرتبا يبدأ بالأولى ثم بالوسطى ثم بجمرة العقبة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى هكذا ، وقال { خذوا عني مناسككم } فإن نسي حصاة ولم يعلم من أي الجمار تركها جعلها من الجمرة الأولى ، ليسقط الفرض بيقين ولا يجوز الرمي في هذه الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال ، لأن عائشة رضي الله عنها قالت { أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام التشريق الثلاثة يرمي الجمار الثلاث حين تزول الشمس } فإن ترك الرمي في اليوم الثالث سقط الرمي ، لأنه فات أيام الرمي ، ويجب عليه دم لقوله صلى الله عليه وسلم { من ترك نسكا فعليه دم . } فإن ترك الرمي في اليوم الأول إلى اليوم الثاني أو ترك الرمي في اليوم الثاني إلى الثالث فالمشهور من المذهب أن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد ، فما ترك في الأول يرميه في اليوم الثاني ، وما تركه في اليوم الثاني يرميه في اليوم الثالث والدليل عليه أنه يجوز لرعاة الإبل أن يؤخروا الرمي إلى يوم بعده ، فلو لم يكن اليوم الثاني وقتا لرمي اليوم الأول لما جاز الرمي فيه ، وقال في الإملاء رمي كل يوم مؤقت بيومه ، والدليل عليه أنه رمي مشروع في يوم ، ففات بفواته كرمي اليوم الثالث ، فإن تدارك عليه رمي يومين أو ثلاثة أيام .

( فإن قلنا ) بالمشهور بدأ ورمى عن اليوم الأول ثم عن اليوم الثاني ثم عن اليوم الثالث ، فإن نوى بالرمي الأول عن اليوم الثاني ففيه وجهان [ ص: 208 ] أحدهما ) أنه لا يجزئه ، لأنه ترك الترتيب ( والثاني ) أنه يجزئه عن الأول ; لأن الرمي مستحق عن اليوم الأول ، فانصرف إليه كما لو طاف بنية الوداع ، وعليه طواف الفرض ( فإن قلنا ) بقوله في الإملاء : إن رمى كل يوم مؤقت بيومه وفات اليوم ولم يرم ففيه ثلاثة أقوال ، ( أحدها ) أن الرمي يسقط ، وينتقل إلى الدم كاليوم الأخير ( والثاني ) أنه يرمي ويريق دما للتأخير ، كما لو أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر ، فإنه يصوم ويفدي ( والثالث ) أنه يرمي ولا شيء عليه ، كما لو ترك الوقوف بالنهار فإنه يقف بالليل ولا دم عليه ، فعلى هذا إذا رمى عن اليوم الثاني قبل اليوم الأول جاز ، لأنه قضاء فلا يجب فيه الترتيب كالصلاة الفائتة .

( فأما ) إذا نسي رمي يوم النحر ففيه طريقان ( من ) أصحابنا من قال : هو كرمي أيام التشريق ، فيرمي رمي يوم النحر في أيام التشريق . وتكون أيام التشريق وقتا له ، وعلى قوله في الإملاء يكون على الأقوال الثلاثة ، ومن أصحابنا من قال : يسقط رمي يوم النحر قولا واحدا ; لأنه لما خالف رمي أيام التشريق في المقدار والمحل خالفه في الوقت .

ومن ترك رمي الجمار الثلاث في يوم لزمه دم لقوله صلى الله عليه وسلم { من ترك نسكا فعليه دم } فإن ترك ثلاث حصيات فعليه دم لأنه يقع اسم الجمع المطلق عليه فصار كما لو ترك الجميع وإن ترك حصاة ففيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) يجب عليه ثلث دم ( والثاني ) مد ( والثالث ) درهم ، وإن ترك حصاتين لزمه في أحد الأقوال ثلثا دم ، وفي الثاني مدان ، وفي الثالث درهمان . وإن ترك الرمي في أيام التشريق وقلنا بالقول المشهور : إن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد لزمه دم كاليوم الواحد ( فإن قلنا ) بقوله في الإملاء إن رمى كل يوم مؤقت بيومه لزمه ثلاثة دماء ، وإن ترك رمي يوم النحر وأيام التشريق ( فإن قلنا ) إن رمي يوم النحر كرمي أيام التشريق لزمه على القول المشهور دم واحد ( وإن قلنا ) إنه ينفرد عن رمي أيام التشريق ( فإن قلنا ) إن رمي أيام التشريق كرمي اليوم الواحد لزمه دمان ( وإن قلنا ) إن رمي كل يوم مؤقت بيومه لزمه أربعة دماء ) .


( الشرح ) حديث عائشة رضي الله عنها رواه أبو داود والبيهقي ، ولكنه من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي عن عبد الرحمن بن [ ص: 209 ] القاسم عن أبيه عن عائشة بلفظه ، ولكن محمد بن إسحاق مدلس ، والمدلس إذا قال ( عن ) لا يحتج بروايته ، ويغني عنه حديث سالم عن ابن عمر { أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على أثر كل حصاة ثم يتقدم ثم يستهل فيقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ، ويدعو ويرفع يديه ، ثم يرمي الوسط ، ثم يأخذ ذات الشمال فيستهل ، ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ويدعو ، ويرفع يديه ويقوم طويلا ، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ، ولا يقف عندها ، ثم ينصرف فيقول : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله } رواه البخاري في صحيحه في ثلاثة أبواب متوالية ، ورواه مالك والبيهقي وغيرهما وفي روايتهم { فيقف عند الجمرتين الأوليين طويلا يكبر الله تعالى ويسبحه ، ويحمده ويدعو الله تعالى } .

( وأما ) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم { رمى الجمار مرتبا } فهو صحيح مشهور من رواية ابن عمر التي ذكرتها الآن ، ومن غيرها ، وأما حديث { خذوا عني مناسككم } فصحيح رواه مسلم من رواية جابر ، وسبق بيانه في هذا الباب مرات ، وأما حديث عائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام أيام التشريق يرمي الجمار إذا زالت الشمس } فرواه أبو داود بإسناده الذي فيه محمد بن إسحاق وقد بينته الآن ، ويغني عنه حديث جابر { أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة أول يوم ضحى ثم لم يرم بعد ذلك حتى زالت الشمس } رواه مسلم . وعن ابن عمر قال " كنا نتحين ، فإذا زالت الشمس رمينا " رواه البخاري . وأما حديث { من ترك نسكا فعليه دم } فسبق بيانه .

( وأما ألفاظ الفصل ) فقوله : مسجد الخيف هو - بفتح الخاء المعجمة وإسكان المثناة تحت - قال أهل اللغة : الخيف ما انحدر عن غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء ، وبه يسمى مسجد الخيف ، وهو مسجد [ ص: 210 ] عظيم واسع جدا فيه عشرون بابا . وذكر الأزرقي جملا تتعلق به ( قوله ) رمي مشروع في يوم احتراز من رجم الزاني .

( أما الأحكام ) ففيها مسائل ( إحداها ) قال الشافعي والأصحاب : إذا فرغ الحاج من طواف الإفاضة والسعي إن كان لم يسع بعد طواف القدوم ، فالسنة أن يرجع إلى منى عقب فراغه ، فإذا رجع صلى بها الظهر وحضر الخطبة ثم يقيم في منى لرمي أيام التشريق ومبيت لياليها ، وقد سبق أن اليوم الأول من أيام التشريق يسمى يوم القر - بفتح القاف وتشديد الراء - لأنهم قارون بمنى ، واليوم الثاني يسمى النفر الأول ، واليوم الثالث يوم النفر الثاني . ومجموع حصى الرمي سبعون حصاة ، سبع منها لجمرة العقبة يوم النحر والباقي لرمي أيام التشريق ، فيرمي كل يوم الجمرات الثلاث ، كل جمرة سبع حصيات كما سبق وصفه في رمي جمرة العقبة ، فيأخذ كل يوم إحدى وعشرين حصاة ، فيأتي الجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف ، وهي أولهن من جهة عرفات ، وهي في نفس الطريق الجادة ، فيأتيها من أسفل منها فيصعد إليها ويعلوها حتى يكون ما عن يساره أقل مما عن يمينه ، ويستقبل الكعبة ثم يرمي الجمرة بسبع حصيات واحدة واحدة ، يكبر عقب كل حصاة كما سبق في رمي جمرة العقبة يوم النحر ، ثم يتقدم عنها ، وينحرف قليلا ويجعلها في قفاه ، ويقف في موضع لا يصيبه المتطاير من الحصى الذي يرمى ، فيستقبل القبلة ويحمد الله تعالى ويكبر ويهلل ويسبح ويدعو مع حضور القلب وخضوع الجوارح ، ويمكث كذلك قدر سورة البقرة ، ثم يأتي الجمرة الثانية وهي الوسطى ، ويصنع فيها كما صنع في الأولى ، ويقف للدعاء كما وقف في الأولى إلا أنه لا يتقدم عن يسارها بخلاف ما فعل في الأولى ، لأنه لا يمكنه ذلك فيها ، بل يتركها عن يمينه ويقف في بطن المسيل منقطعا عن أن يصيبه الحصى . ثم يأتي الجمرة [ ص: 211 ] الثالثة وهي جمرة العقبة التي رماها يوم النحر فيرميها من بطن الوادي ولا يقف عندها للذكر والدعاء . وهذه الكيفية هي المسنونة والواجب منها أصل الرمي بصفته السابقة في رمي جمرة العقبة ، وهو أن يرمي بما يسمى حجرا ويسمى رميا . وأما الدعاء والذكر وغيرهما مما زاد على أصل الرمي فمستحب لا شيء عليه في تركه لكن فاتته الفضيلة . ويرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق كما رمى في الأول ، ويرمي في الثالث كذلك إن لم ينفر في اليوم الثاني . والله أعلم .

ودليل استحباب الوقوف للدعاء والذكر عند الجمرتين الأوليين مذكور في الكتاب ( وأما ) كونه قدر سورة البقرة ، فرواه البيهقي من فعل ابن عمر والله تعالى أعلم .

( والثانية ) يستحب أن يغتسل كل يوم للرمي .

( الثالثة ) لا يجوز الرمي في هذه الأيام إلا بعد زوال الشمس ويبقى وقتها إلى غروبها ، وفيه وجه مشهور أنه يبقى إلى الفجر الثاني من تلك الليلة ( والصحيح هذا ) فيما سوى اليوم الآخر . وأما اليوم الآخر فيفوت رميه بغروب شمسه بلا خلاف . وكذا جميع الرمي يفوت بغروب شمس الثالث من التشريق لفوات زمن الرمي ، والله أعلم .

قال أصحابنا : ويستحب إذا زالت الشمس أن يقدم الرمي على صلاة الظهر ثم يرجع فيصلي الظهر ، نص عليه الشافعي رحمه الله . واتفق عليه أصحابه ، ويدل عليه حديث ابن عمر السابق قريبا

( الرابعة ) العدد شرط في الرمي ، فيرمي في كل يوم إحدى وعشرين [ ص: 212 ] حصاة إلى كل جمرة سبع حصيات كما ذكرنا ، وتكون كل حصاة برمية مستقلة ، كما سبق في جمرة العقبة .

( الخامسة ) يشترط في الترتيب بين الجمرات ، فيبدأ بالجمرة الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة ولا خلاف في اشتراطه ، فلو ترك حصاة من الأولى أو جهل فلم يدر من أين تركها ؟ جعلها من الأولى ، فيلزمه أن يرمي إليها حصاة ثم يرمي الجمرتين الأخريين ليسقط الفرض بيقين .

( السادسة ) ينبغي أن يوالي بين الحصيات في الجمرة الواحدة وأن يوالي بين الجمرات ، وهذه الموالاة سنة ليست بشرط على المذهب ، وبه قطع الأكثرون وقيل شرط ، وقد سبق بيانه في رمي جمرة العقبة .

( السابعة ) إذا ترك شيئا من رمي يوم القر عمدا أو سهوا ، هل يتداركه في اليوم الثاني أو الثالث ؟ أو ترك رمي اليوم الثاني أو رمي اليومين الأولين ، هل يتدارك في الثالث منه ؟ قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( الصحيح ) عند الأصحاب يتدارك ( والثاني ) نصه في الإملاء لا يتدارك ( فإن قلنا ) لا يتدارك في بقية الأيام فهل يتدارك في الليلة الواقعة بعده من ليالي التشريق ؟ ( إذا قلنا ) بالأصح إن وقته لا يمتد في تلك الليلة ، فيه وجهان حكاهما المتولي وآخرون ( وإن قلنا ) بالتدارك فتدارك فهل هو أداء أم قضاء ؟ به قولان ( أصحهما ) أداء كما في حق أهل السقاية والرعاة .

( فإن قلنا ) أداء فجملة أيام منى في حكم الوقت الواحد ، فكل يوم للقدر المأمور به وقت اختيار ، كأوقات اختيار الصلوات ، ويجوز تقديم رمي يوم التدارك على الزوال . ونقل إمام الحرمين أن على هذا القول لا يمتنع تقديم رمي يوم إلى يوم . قال الرافعي : لكن يجوز أن يقال : إن وقته يتسع من جهة الآخر دون الأول ، ولا يجوز التقديم على كلام [ ص: 213 ] الرافعي وهو كما قال ، فالصواب الجزم بمنع التقديم ، وبه قطع الجمهور تصريحا ومفهوما . وإذا قلنا إنه قضاء فتوزيع الأقدار المعينة على الأيام مستحق ولا سبيل إلى تقديم رمي يوم إلى يوم ولا تقديمه على الزوال

وهل يجوز بالليل ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) الجواز لأن القضاء لا يتأقت ( والثاني ) لا يجوز لأن الرمي عبادة النهار كالصوم ، وهل يجب الترتيب بين الرمي المتروك ورمي يوم التدارك ؟ فيه قولان ، ومنهم من حكاهما وجهين ( أصحهما ) نعم كالترتيب في المكان ، وهما مبنيان على أن التدارك قضاء أم أداء ( إن قلنا ) أداء وجب الترتيب وإلا فلا ، فإن لم نوجب الترتيب فهل يجب على أهل العذر كالرعاة وأهل السقاية ؟ فيه وجهان . قال المتولي : نظيره إن فاتته الظهر لا يلزمه الترتيب بينها وبين العصر ، ولو أخرها للجمع فوجهان ، ولو رمى إلى الجمرات كلها عن يوم قبل أن يرمي إليها عن أمسه أجزأه إن لم نوجب الترتيب ، فإن أوجبناه فوجهان ( أصحهما ) يجزئه ويقع عن القضاء ( والثاني ) لا يجزئه أصلا . قال الإمام ولو صرف الرمي إلى غير النسك بأن رمى إلى شخص أو دابة في الجمرة ففي انصرافه عن النسك الخلاف المذكور في صرف الطواف ، والأصح الانصراف ، فإن لم ينصرف وقع عن أمسه ولغا قصده ، وإن انصرف - فإن لم ينصرف وقع عن أمسه ولغا قصده ، وإن انصرف - فإن شرطنا الترتيب - لم يجزه أصلا ، وإن لم نشترط أجزأه عن يومه . ولو رمى إلى كل جمرة أربع عشرة حصاة سبعا عن يومه وسبعا عن أمسه جاز إن لم نشترط الترتيب ، وإن شرطناه لم يجز ، وهو نصه في المختصر . هذا كله في رمي اليوم الأول والثاني من أيام التشريق .

أما إذا ترك رمي يوم النحر ففي تداركه في أيام التشريق طريقان ( أصحهما ) أنه على القولين ( والثاني ) القطع بعدم التدارك للمغايرة بين الرميين قدرا [ ص: 214 ] ووقتا وحكما . فإن رمي يوم النحر يؤثر في التحلل بخلاف أيام التشريق .

( فرع ) لو ترك رمي بعض الأيام وقلنا يتدارك فتدارك فلا دم على المذهب وبه قطع الجمهور ، وفيه قول ضعيف حكاه المصنف والأصحاب أنه يجب دم مع التدارك كمن أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر ، فإنه يقضيه ويفدي . ولو نفر يوم النحر أو يوم النفر قبل أن يرمي ثم عاد ورمى قبل الغروب أجزأه ولا دم ، ولو فرض ذلك يوم النفر الأول فكذا على الأصح ، وفيه وجه ضعيف أنه يلزمه الدم ، لأن النفر في هذا اليوم جائز في الجملة ، فإذا نفر فيه خرج عن الحج فلا يسقط الدم بعوده ، وحيث قلنا : لا يتدارك أو قلنا به فلم يتدارك وجب الدم ، وكم قدره ؟ فيه صور . فإن ترك رمي يوم النحر وأيام التشريق - والصورة فيمن توجه عليه رمي اليوم الثالث من التشريق - ففيما يلزمه ثلاثة أقوال .

( أحدها ) دم ( والثاني ) دمان ( والثالث ) أربعة دماء ، ودليلها في الكتاب وهذا الثالث أظهرها عند البغوي قال الرافعي : لكن مقتضى كلام الجمهور ترجيح الأول . وحكى الدارمي عن حكاية ابن القطان وجها أنه يجب عشرة دماء يجعل كل جمرة مفردة ، وهذا شاذ باطل . ولو ترك يوم النحر أو رمي يوم من التشريق وجب دم .

وإن ترك رمي بعض التشريق فطريقان ( أحدهما ) الجمرات الثلاث كالشعرات الثلاث فلا يكمل الدم في بعضها ، بل إن ترك جمرة ففيه الأقوال الثلاثة المشهورة فيمن حلق شعرة ( أظهرها ) مد ( والثاني ) درهم ( والثالث ) ثلث دم . وإن ترك جمرتين فعلى هذا القياس . وعلى هذا لو ترك حصاة من جمرة قال صاحب التقريب إن قلنا : في الجمرة ثلث دم ففي الحصاة جزء من أحد وعشرين جزءا من دم ( وإن قلنا ) في الجمرة مد أو درهم قال الرافعي : فيحتمل أن نوجب سبع مد أو سبع درهم ، ويحتمل أن لا نبعضهما .

[ ص: 215 ] والطريق الثاني ) تكميل الدم في وظيفة الجمرة الواحدة ، كما يكمل في جمرة النحر في الحصاة والحصاتين الأقوال الثلاثة ، هذا في الحصاة والحصاتين من آخر أيام التشريق . فأما إذا تركها من الجمرة الآخرة يوم القر أو النفر الأول ولم ينفر ( فإن قلنا ) لا يجب الترتيب بين التدارك ورمي الوقت صح رميه . لكن ترك حصاة ففيه الخلاف وإن أوجبنا الترتيب ففيه الخلاف السابق في أن الرمي بنية اليوم هل يقع عن الماضي ؟ ( إن قلنا ) نعم تم المتروك بما أتى به في اليوم الذي بعده ، لكن يكون تاركا للجمرة الأولى والثانية في ذلك اليوم فعليه دم ( وإن قلنا ) لا ، كان تاركا رمي حصاة ووظيفة يوم ، فعليه دم إن لم نفرد كل يوم بدم ، وإن أفردنا فعليه لوظيفة اليوم دم ، وفيما يجب لترك الحصاة الخلاف ، وإن تركها من إحدى الجمرتين الأوليين من أي يوم كان فعليه دم ، لأن ما بعدها غير صحيح لوجوب الترتيب في المكان ، هذا كله إذا ترك بعض يوم من التشريق ، فإن ترك بعض رمي النحر فقد ألحقه البغوي بما إذا ترك من الجمرة الآخرة من اليوم الآخر . وقال المتولي : يلزمه دم ولو ترك حصاة فقط لأنها من أسباب التحلل ، فإذا ترك شيئا منها لم يتحلل إلا ببدل كامل . وحكى إمام الحرمين وجها غريبا ضعيفا أن الدم يكمل في حصاة واحدة مطلقا وحكاه الدارمي ، وهو شاذ متروك ، والله أعلم .

قال المتولي : لو ترك ثلاث حصيات من جملة الأيام لم يعلم موضعها أخذ بالأسوأ ، وهو أنه ترك حصاة من يوم النحر وحصاة من الجمرة الأولى يوم القر وحصاة من الجمرة الثانية يوم النفر الأول ، فإن لم يحسب [ ص: 216 ] ما يرميه بنية وظيفة اليوم عن الفائت فالحاصل ست حصيات من رمي يوم النحر ، سواء شرطنا الترتيب بين التدارك ورمي الوقت أم لا ، وإن حسبناه فالحاصل رمي يوم النحر وأحد أيام التشريق لا غير ، سواء شرطنا الترتيب أم لا ، ودليله يعرف مما سبق من الأصول والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : يستحب أن يكون رميه في اليومين الأولين من التشريق ماشيا ، وأن يكون راكبا في اليوم الآخر فيرمي بعد الزوال ، وقبل صلاة الظهر راكبا ، وينفر عقب الرمي ، كما أنه يرمي يوم النحر راكبا ثم ينزل ، هكذا قاله جماهير الأصحاب في كل الطرق ، ونص عليه الشافعي في الإملاء . وشذ المتولي عن الأصحاب فحكى عن نص الشافعي في الإملاء ما ذكرناه ، ثم قال والصحيح أنه يرمي ماشيا في أيام التشريق الثلاثة ، لحديث عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر { أنه كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشيا ذاهبا وراجعا ، ويخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك } رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما ، وهو حديث ضعيف ، لأن عبد الله العمري ضعيف عند أهل الحديث ، وإنما الصحيح من هذا رواية ابن عمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمار مشى إليه ذاهبا وراجعا } رواه الترمذي بإسناد على شرط البخاري ومسلم ، وقال : هذا حديث حسن صحيح والله أعلم .

( فرع ) لا يفتقر الرمي إلى نية على المذهب ، وفيه وجه حكاه الدارمي والقاضي أبو الطيب وغيرهما ، وقد سبق في فصل طواف القدوم عند ذكر نية الطواف ثلاثة أوجه في النية في جميع أعمال الحج والله أعلم .

( فرع ) في الحكمة في الرمي ، قال العلماء : أصل العبادة الطاعة وكل عبادة فلها معنى قطعا لأن الشرع لا يأمر بالعبث ثم معنى العبادة قد [ ص: 217 ] يفهمه المكلف وقد لا يفهمه فالحكمة في الصلاة التواضع والخضوع وإظهار الافتقار إلى الله تعالى ، والحكمة في الصوم كسر النفس وقمع الشهوات ، والحكمة في الزكاة مواساة المحتاج ، وفي الحج إقبال العبد أشعث أغبر من مسافة بعيدة إلى بيت فضله الله ، كإقبال العبد إلى مولاه ذليلا ومن العبادات التي لا يفهم معناها السعي والرمي فكلف العبد بهما ليتم انقياده ، فإن هذا النوع لا حظ للنفس فيه ولا للعقل به ، ولا يحمل عليه إلا مجرد امتثال الأمر وكمال الانقياد ، فهذه إشارة مختصرة تعرف بها الحكمة في جميع العبادات ، والله أعلم .

وقد سبق في أواخر فصل طواف القدوم في المسألة الخامسة حديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنما جعل الطواف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ورمي الجمار ، لإقامة ذكر الله } " وروينا [ ص: 218 ] في سنن البيهقي وغيره مرفوعا وموقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما " أن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم لما أتى المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ثم عرض له في الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ، قال ابن عباس : الشيطان ترجمون ومكة بينكم تبتغون "

التالي السابق


الخدمات العلمية