صفحة جزء
[ ص: 438 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى ( وإن كان على رأسه عمامة ولم يرد نزعها مسح بناصيته ، والمستحب أن يتم المسح بالعمامة لما روى المغيرة رضي الله عنه أن { النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته } ، فإن اقتصر على مسح العمامة لم يجزئه لأنها ليست برأس ، ولأنه عضو لا يلحق المشقة في إيصال الماء إليه فلا يجوز المسح على حائل منفصل عنه كالوجه واليد ) .


( الشرح ) حديث المغيرة رواه مسلم في صحيحه ، وتقدم بيان حال المغيرة في أول هذا الباب ، وقول المصنف : ( لأنه عضو لا يلحق المشقة في إيصال الماء إليه ) فيه احتراز من الجبيرة على كسر . وقوله : ( حائل منفصل ) احتراز من مسح شعر الرأس ، والعضو بضم العين وكسرها لغتان .

( فأما حكم المسألة ) : فقال أصحابنا : إذا كان عليه عمامة ولم يرد نزعها لعذر ولغير عذر مسح الناصية كلها ، ويستحب أن يتم المسح على العمامة سواء لبسها على طهارة أو حدث ، ولو كان على رأسه قلنسوة ولم يرد نزعها فهي كالعمامة فيمسح بناصيته ، ويستحب أن يتم المسح عليها ، صرح به أبو العباس الجرجاني في التحرير ، وهكذا حكم ما على رأس المرأة ، وأما إذا اقتصر على مسح العمامة ولم يمسح شيئا من رأسه فلا يجزيه بلا خلاف عندنا ، وهو مذهب أكثر العلماء ، كذا حكاه الخطابي والماوردي عن أكثر العلماء ، وحكاه ابن المنذر عن عروة بن الزبير والشعبي والنخعي والقاسم ومالك وأصحاب الرأي ، وحكاه غيره عن علي بن أبي طالب وابن عمر وجابر رضي الله عنهم ، وقالت طائفة : يجوز الاقتصار على العمامة قاله سفيان الثوري والأوزاعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق ومحمد بن جرير وداود ، قال ابن المنذر : ممن مسح على العمامة أبو بكر الصديق وبه قال عمر وأنس بن مالك وأبو أمامة ، وروي عن سعد بن أبي وقاص وأبي الدرداء وعمر بن عبد العزيز ومكحول والحسن وقتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، ثم شرط بعض هؤلاء لبسها على طهارة ، وشرط بعضهم كونها محنكة أي : بعضها تحت الحنك ، ولم يشترط بعضهم شيئا من ذلك . [ ص: 439 ] واحتج لمن جوز ذلك بحديث بلال رضي الله عنه قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار } رواه مسلم .

وعن عمرو بن أمية قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه } رواه البخاري . وعن ثوبان قال : { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين } رواه أبو داود بإسناد صحيح ، والعصائب العمائم والتساخين بفتح التاء المثناة فوق وبالسين المهملة والخاء المعجمة وهي الخفاف وعن بلال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج فيقضي حاجته فآتيه بالماء فيتوضأ ويمسح على عمامته وموقيه } رواه أبو داود بإسناد جيد ، والموق بضم الميم خف قصير ، قالوا ولأنه عضو سقط فرضه في التيمم فجاز المسح على حائل دونه كالرجل في الخف . واحتج أصحابنا بقوله تعالى - : { وامسحوا برءوسكم } والعمامة ليست برأس ، ولأنه عضو طهارته المسح فلم يجز المسح على حائل دونه كالوجه واليد في التيمم فإنه مجمع عليه ، ولأنه عضو لا تلحق المشقة في إيصال الماء إليه غالبا فلم يجز المسح على حائل منفصل عنه كاليد في القفاز ، والوجه في البرقع والنقاب . وأما الجواب عن احتجاجهم بالأحاديث فهو ما أجاب به الخطابي والبيهقي وغيرهما من المحدثين وسائر أصحابنا في كتب الفقه أنه وقع فيها اختصار ، والمراد مسح الناصية والعمامة ليكمل سنة الاستيعاب ، يدل على صحة هذا التأويل أنه صرح به في حديث المغيرة كما سبق بيانه ، وكذا جاء في حديث بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم { مسح على الخفين وبناصيته وعلى العمامة } قال البيهقي : إسناد هذه الرواية حسن ، وعن أنس قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة } رواه أبو داود .

والقطرية بكسر القاف نوع من البرود قال الخطابي : فيها حمرة ، فإن قيل كيف يصح هذا التأويل وكيف يظن بالراوي حذف مثل هذا ؟ فالجواب أنه [ ص: 440 ] ثبت بالقرآن وجوب مسح الرأس وجاءت الأحاديث الصحيحة بمسح الناصية مع العمامة ، وفي بعضها مسح العمامة ولم تذكر الناصية فكان محتملا لموافقة الأحاديث الباقية ، ومحتملا لمخالفتها ، فكان حملها على الاتفاق وموافقة القرآن أولى ، قال أصحابنا : وإنما حذف بعض الرواة ذكر الناصية لأن مسحها كان معلوما ; لأن مسح الرأس مقرر معلوم لهم وكان المهم بيان مسح العمامة ، قال الخطابي : والأصل أن الله تعالى - : فرض مسح الرأس ، والحديث محتمل للتأويل ، فلا يترك اليقين بالمحتمل ، قال هو وسائر الأصحاب : وقياس العمامة على الخف بعيد لأنه يشق نزعه بخلافها والله أعلم .

( فرع ) في مسائل تتعلق بمسح الرأس : ( إحداها ) : المرأة كالرجل في صفة ; مسح الرأس على ما سبق . نص عليه الشافعي - رحمه الله تعالى - : في البويطي وذكره الأصحاب ، ونقله البخاري في صحيحه عن سعيد بن المسيب ، قال الشافعي في البويطي : وتدخل يدها تحت خمارها حتى يقع المسح على الشعر ، فلو وضعت يدها المبتلة على خمارها قال أصحابنا : إن لم يصل البلل إلى الشعر لم يجزئها وإن وصل فهي كالرجل إذا وضع يده المبتلة على رأسه إن أمرها عليه أجزأه ، وإلا فوجهان الصحيح الإجزاء

( الثانية ) : لو كان له رأسان كفاه مسح أحدهما ، وفيه احتمال للدارمي وقد سبقت المسألة في فصل غسل الوجه .

( الثالثة ) قال أصحابنا : لا تتعين اليد لمسح الرأس ، فله المسح بأصابعه وبأصبع واحدة أو خشبة أو خرقة أو غيرها أو يمسحه له غيره ، قال الشيخ أبو حامد وغيره : أو يقف تحت المطر فيقع عليه وينوي المسح فيجزئه ، كل ذلك بلا خلاف ولو قطر الماء على رأسه ولم يبل أو وضع عليه يده المبتلة ولم يمرها عليه أو غسل رأسه بدل مسحه أجزأه على الصحيح ، وبه قطع الأكثرون . لأنه في معنى المسح . وفيه وجه أنه لا يجزيه لأنه لا يسمى مسحا حكاه المتولي والبغوي والروياني والشاشي وغيرهم ، ونقل إمام الحرمين الاتفاق على إجزاء الغسل ، قال : لأنه فوق المسح ، فإجزاء المسح مبني على إجزاء الغسل من طريق الأولى ، فإذا قلنا بالمذهب وهو إجزاء الغسل فقد نقل [ ص: 441 ] إمام الحرمين والغزالي في البسيط اتفاق الأصحاب على أنه لا يستحب وهل يكره ؟ فيه وجهان : قال إمام الحرمين في النهاية : قال الأكثرون : وهو مكروه لأنه سرف كالغسلة الرابعة ، وبهذا قطع المحاملي في اللباب والجرجاني في التحرير . والوجه الثاني : لا يكره وهو قول القفال ، ولم يذكر إمام الحرمين في الأساليب غيره وصححه الغزالي في الوجيز والرافعي . وأما غسل الخف بدل مسحه فمكروه بلا خلاف لأنه تعييب له بلا فائدة ، وممن نقل الاتفاق على كراهته إمام الحرمين والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية