صفحة جزء
فصل في تلخيص جملة من حال الشافعي رضي الله عنه . اعلم أنه كان من أنواع المحاسن بالمقام الأعلى ، والمحل الأسنى ، لما جمعه الله الكريم له من الخيرات ، ووفقه له من جميل الصفات ، وسهله عليه من أنواع المكرمات . فمن ذلك شرف النسب الطاهر ، والعنصر الباهر ، واجتماعه هو ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في النسب ، وذلك غاية الفضل ، ونهاية الحسب ، ومن ذلك شرف المولد ، والمنشأ ، فإنه ولد بالأرض المقدسة ، ونشأ بمكة ، ومن ذلك أنه جاء بعد أن مهدت الكتب ، وصنفت ، وقررت الأحكام ، ونقحت . فنظر في مذاهب المتقدمين ، وأخذ عن الأئمة المبرزين ، وناظر الحذاق المتقنين ، فنظر مذاهبهم ، وسبرها ، وتحققها ، وخبرها ، فلخص منها طريقة جامعة للكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، ولم يقتصر على بعض ذلك ، وتفرغ للاختيار ، والترجيح ، والتكميل ، والتنقيح ، مع جمال قوته ، وعلو همته ، وبراعته في جميع أنواع الفنون ، واضطلاعه منها أشد اضطلاع ، وهو المبرز في الاستنباط من الكتاب ، والسنة ، البارع في معرفة الناسخ ، والمنسوخ ، والمجمل ، والمبين ، والخاص ، والعام ، وغيرها من تقاسيم الخطاب ، فلم يسبقه أحد إلى فتح هذا الباب ; لأنه أول من صنف أصول الفقه بلا خلاف ، ولا ارتياب ، وهو الذي لا يساوى بل لا يدانى في معرفة كتاب الله تعالى ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد بعضها إلى بعض ، وهو الإمام الحجة في لغة العرب ، ونحوهم ، فقد اشتغل في العربية [ ص: 27 ] عشرين سنة مع بلاغته ، وفصاحته ، ومع أنه عربي اللسان ، والدار ، والعصر ، وبها يعرف الكتاب والسنة ، وهو الذي قلد المنن الجسيمة جميع أهل الآثار ، وحملة الأحاديث ، ونقلة الأخبار ، بتوقيفه إياهم على ، معاني السنن ، وتنبيههم ، وقذفه بالحق على باطل مخالفي السنن ، وتمويههم ، فنعشهم بعد أن كانوا خاملين ، وظهرت كلمتهم على جميع المخالفين ، ودمغوهم بواضحات البراهين حتى ظلت أعناقهم لها خاضعين . قال محمد بن الحسن رحمه الله : إن تكلم أصحاب الحديث يوما ما فبلسان الشافعي ، يعني لما وضع من كتبه ، وقال الحسن بن محمد الزعفراني : كان أصحاب الحديث رقودا فأيقظهم الشافعي فتيقظوا ، وقال أحمد بن حنبل رحمه الله : ما أحد مس بيده محبرة ، ولا قلما إلا وللشافعي في رقبته منة ، فهذا قول إمام أصحاب الحديث ، وأهله ، ومن لا يختلفون في ورعه ، وفضله . ومن ذلك أن الشافعي رحمه الله مكنه الله من أنواع العلوم حتى عجز لديه المناظرون من الطوائف ، وأصحاب الفنون ، واعترف بتبريزه ، وأذعن الموافقون ، والمخالفون في المحافل المشهورة الكبيرة ، المشتملة على أئمة عصره في البلدان ، وهذه المناظرات معروفة موجودة في كتبه رضي الله عنه وفي كتب الأئمة المتقدمين ، وال متأخرين ، وفي كتاب الأم للشافعي رحمه الله من هذه المناظرات جمل من العجائب ، والآيات ، والنفائس الجليلات ، والقواعد المستفادات ، وكم من مناظرة ، وقاعدة فيه يقطع كل من وقف عليها ، وأنصف ، وصدق : أنه لم يسبق إليها ، ومن ذلك أنه تصدر في عصر الأئمة المبرزين للإفتاء ، والتدريس ، والتصنيف ، وقد أمره بذلك شيخه أبو خالد مسلم بن خالد الزنجي ، إمام أهل مكة ، ومفتيها ، وقال له : افت يا أبا عبد الله فقد ، والله آن لك أن تفتي وكان للشافعي إذ ذاك خمس عشرة سنة . وأقاويل أهل عصره في هذا كثيرة مشهورة ، وأخذ عن الشافعي العلم في سن الحداثة ، مع توفر العلماء في ذلك العصر ، وهذا من الدلائل الصريحة لعظم جلالته ، وعلو مرتبته ، وهذا كله من المشهور المعروف في كتب مناقبه ، وغيرها ، ومن ذلك شدة اجتهاده في نصرة الحديث ، واتباع السنة ، وجمعه في مذهبه بين أطراف الأدلة ، مع الإتقان ، والتحقيق ، والغوص التام على المعاني ، والتدقيق ، حتى لقب حين قدم العراق بناصر الحديث ، وغلب في عرف [ ص: 28 ] العلماء المتقدمين ، والفقهاء الخراسانيين على متبعي مذهبه لقب ( أصحاب الحديث ) في القديم ، والحديث ، وقد روينا عن الإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة المعروف بإمام الأئمة ، وكان من حفظ الحديث ، ومعرفة السنة بالغاية العالية أنه سئل هل تعلم سنة صحيحة لم يودعها الشافعي كتبه ؟ قال : لا ، ومع هذا فاحتاط الشافعي رحمه الله لكون الإحاطة ممتنعة على البشر ، فقال ما قد ثبت عنه رضي الله عنه من أوجه من وصيته بالعمل بالحديث الصحيح ، وترك قوله المخالف للنص الثابت الصريح ، وقد امتثل أصحابنا رحمهم الله وصيته ، وعملوا بها في مسائل كثيرة مشهورة ، كمسألة التثويب في الصبح ، ومسألة اشتراط التحليل في الحج بعذر ، وغير ذلك ، وستراها في مواضعها إن شاء الله تعالى ، ومن ذلك تمسكه بالأحاديث الصحيحة ، واعتراضه على الأخبار الواهية الضعيفة ، ولا نعلم أحدا من الفقهاء اعتنى في الاحتجاج بالتمييز بين الصحيح ، والضعيف كاعتنائه ، ولا قريبا منه ، فرضي الله عنه ، ومن ذلك أخذه رضي الله عنه بالاحتياط في مسائل العبادات ، وغيرها كما هو معروف من مذهبه ، ومن ذلك شدة اجتهاده في العبادة ، وسلوك طرائق الورع ، والسخاء ، والزهادة ، وهذا من خلقه ، وسيرته مشهور معروف ، ولا يتمارى فيه إلا جاهل أو ظالم عسوف ، فكان رضي الله عنه بالمحل الأعلى من متانة الدين ، وهو من المقطوع بمعرفته عند الموافقين ، والمخالفين .

وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

. وأما سخاؤه ، وشجاعته ، وكمال عقله ، وبراعته فإنه مما اشترك الخواص ، والعوام في معرفته ، فلهذا لا أستدل له لشهرته ، وكل هذا مشهور في كتب المناقب من طرق ، ومن ذلك ما جاء في الحديث المشهور : { إن عالم قريش يملأ طباق الأرض علما } وحمله العلماء من المتقدمين ، وغيرهم من غير أصحابنا على الشافعي رحمه الله واستدلوا له بأن الأئمة من الصحابة رضي الله عنهم الذين هم أعلام الدين ، لم ينقل عن كل واحد منهم إلا مسائل معدودة ، إذ كانت فتاواهم مقصورة على الوقائع ، بل كانوا ينهون عن السؤال عما لم يقع ، وكانت هممهم مصروفة إلى قتال الكفار لإعلاء كلمة الإسلام ، وإلى مجاهدة النفوس ، والعبادة ، فلم يتفرغوا للتصنيف ، وأما من جاء بعدهم ، وصنف من الأئمة فلم يكن فيهم قرشي قبل الشافعي ولم يتصف بهذه الصفة أحد قبله ، ولا بعده . وقد قال الإمام أبو زكريا يحيى بن زكريا الساجي في كتابه المشهور في [ ص: 29 ] الخلاف إنما بدأت بالشافعي قبل جميع الفقهاء ، وقدمته عليهم ، وإن كان فيهم أقدم منه اتباعا للسنة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { قدموا قريشا ، وتعلموا من قريش } ، وقال الإمام أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الاسترابازي صاحب الربيع بن سليمان المرادي : في هذا الحديث علامة بينة إذا تأمله الناظر المميز ، علم أن المراد به رجل من علماء هذه الأمة من قريش ، ظهر علمه ، وانتشر في البلاد ، وكتب كما تكتب المصاحف ، ودرسه المشايخ ، والشبان في مجالسهم ، واستظهروا أقاويله ، وأجروها في مجالس الحكام ، والأمراء ، والقراء ، وأهل الآثار ، وغيرهم ، قال : وهذه صفة لا نعلم أنها أحاطت بأحد إلا بالشافعي ، فهو عالم قريش الذي دون العلم ، وشرح الأصول ، والفروع ، ومهد القواعد . قال البيهقي بعد رواية كلام أبي نعيم : وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل في تأويل الخبر . ومن ذلك مصنفات الشافعي في الأصول ، والفروع التي لم يسبق إليها كثرة ، وحسنا ، فإن مصنفاته كثيرة مشهورة ، كالأم في نحو عشرين مجلدا ، وهو مشهور ، وجامع المزني الكبير ، وجامعه الصغير ، ومختصريه الكبير ، والصغير ، ومختصر البويطي ، والربيع . وكتاب حرملة ، وكتاب الحجة ، وهو القديم ، والرسالة القديمة ، ، والرسالة الجديدة ، والأمالي ، والإملاء ، وغير ذلك مما هو معلوم من كتبه ، وقد جمعها البيهقي في المناقب . قال القاضي الإمام أبو محمد الحسين بن محمد المروزي في خطبة تعليقه : قيل : إن الشافعي رحمه الله صنف مائة ، وثلاثة عشر كتابا في التفسير ، والفقه ، والأدب ، وغير ذلك ، وأما حسنها فأمر يدرك بمطالعتها فلا يتمارى في حسنها موافق ، ولا مخالف ، وأما كتب أصحابه التي هي شروح لنصوصه ، ومخرجة على أصوله ، مفهومة من قواعده فلا يحصيها مخلوق مع عظم فوائدها ، وكثرة عوائدها ، وكبر حجمها ، وحسن ترتيبها ، ونظمها ، كتعليق الشيخ أبي حامد الإسفراييني ، وصاحبيه القاضي أبي الطيب ، وصاحب الحاوي ، ، ونهاية المطلب لإمام الحرمين ، وغيرها مما هو مشهور معروف ، وهذا من المشهور الذي هو أظهر من أن يظهر ، وأشهر من أن يشهر ، وكل هذا مصرح بغزارة علمه ، وجزالة كلامه ، وصحة نيته في علمه ، وقد نقل عنه مستفيضا من صحة نيته في علمه نقول كثيرة مشهورة ، وكفى بالاستقراء في ذلك دليلا قاطعا ، وبرهانا صادعا . [ ص: 30 ] قال الساجي في أول كتابه في الخلاف : سمعت الربيع يقول سمعت الشافعي يقول : " وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إلي حرف منه " فهذا إسناد لا يتمارى في صحته فكتاب الساجي متواتر عنه ، وسمعه من إمام عن إمام ، وقال الشافعي رحمه الله : ما ناظرت أحدا قط على الغلبة ، ووددت إذا ناظرت أحدا أن يظهر الله الحق على يديه " ، ونظائر هذا كثيرة مشهورة عنه ، ومن ذلك مبالغته في الشفقة على المتعلمين ، وغيرهم ، ونصيحته لله تعالى ، وكتابه ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والمسلمين ، وذلك هو الدين كما صح عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وهذا الذي ذكرته ، وإن كان كله معلوما مشهورا فلا بأس بالإشارة إليه ليعرفه من لم يقف عليه ، فإن هذا المجموع ليس مخصوصا ببيان الخفيات ، وحل المشكلات .

التالي السابق


الخدمات العلمية