صفحة جزء
" القسم الثاني " المفتي الذي ليس بمستقل ، ومن دهر طويل عدم [ ص: 76 ] المفتي المستقل ، وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة ، وللمفتي المنتسب أربعة أحوال : " أحدهما " : أن لا يكون مقلدا لإمامه ، لا في المذهب ولا في دليله ، لاتصافه بصفة المستقل . وإنما ينسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد . وادعى الأستاذ أبو إسحاق هذه الصفة لأصحابنا ، فحكى عن أصحاب مالك - رحمه الله - وأحمد وداود وأكثر الحنفية أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليدا لهم ، ثم قال : والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا : وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليدا له ، بل لما وجدوا طرقه في الاجتهاد والقياس أسد الطرق ولم يكن لهم بد من الاجتهاد سلكوا طريقه . فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي وذكر أبو علي السنجي ( بكسر السين المهملة ) نحو هذا فقال : اتبعنا الشافعي دون غيره ، ; لأنا وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها ، لا أنا قلدناه .

قلت : هذا الذي ذكراه موافق لما أمرهم به الشافعي ثم المزني في أول مختصره وغيره بقوله : " مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره " قال أبو عمرو : دعوى انتفاء التقليد عنهم مطلقا لا يستقيم ، ولا يلائم المعلوم من حالهم أو حال أكثرهم ، وحكى بعض أصحاب الأصول منا أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي . مجتهد مستقل ، ثم فتوى المفتي في هذه الحالة كفتوى المستقل في العمل بها ، والاعتداد بها في الإجماع والخلاف .

" الحالة الثانية : " أن يكون مجتهدا مقيدا في مذهب إمامه ، مستقلا بتقرير أصوله بالدليل ، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده ، وشرطه كونه عالما بالفقه وأصوله ، وأدلة الأحكام تفصيلا ، بصيرا بمسالك الأقيسة والمعاني ، تام الارتياض في التخريج والاستنباط ، قيما بإلحاق ما ليس منصوصا عليه لإمامه بأصوله ، ولا يعرى عن شوب تقليد له ; لإخلاله ببعض أدوات المستقل ، بأن يخل بالحديث أو العربية ، وكثيرا ما أخل بهما المقيد ، ثم يتخذ نصوص إمامه أصولا يستنبط منها كفعل المستقل بنصوص . الشرع ، وربما اكتفى في الحكم بدليل إمامه ، ولا يبحث عن معارض كفعل المستقل في النصوص ، وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه ، وعليها كان أئمة أصحابنا أو أكثرهم ، والعامل بفتوى هذا مقلد لإمامه لا له . ثم ظاهر كلام الأصحاب أن من هذا حاله لا يتأدى به فرض الكفاية . قال أبو عمرو : ويظهر تأدي الفرض به في الفتوى . إن لم يتأد في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى ; لأنه قام مقام إمامه المستقل تفريعا على الصحيح ، وهو جواز تقليد الميت . ثم قد يستقل المقيد في مسألة أو باب خاص كما تقدم ، وله أن يفتي فيما لا نص فيه لإمامه بما يخرجه على أصوله ، هذا هو الصحيح الذي عليه العمل ، وإليه مفزع المفتين من مدد [ ص: 77 ] طويلة ، ثم إذا أفتى بتخريجه فالمستفتي مقلد لإمامه لا له .

هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثي ، وما أكثر فوائده . قال الشيخ أبو عمرو : وينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره ، أن ما يخرجه أصحابنا هل يجوز نسبته إلى الشافعي والأصح أنه لا ينسب إليه ، ثم تارة يخرج من نص معين لإمامه وتارة لا يجده ، فيخرج على أصوله بأن يجد دليلا على شرط ما يحتج به إمامه فيفتي بموجبه ، فإن نص إمامه على شيء ونص في مسألة تشبهها على خلافه فخرج من أحدهما إلى الآخر سمي قولا مخرجا ، وشرط هذا التخريج أن لا يجد بين نصه فرقا ، فإن وجده وجب تقريرهما على ظاهرهما ، ويختلفون كثيرا في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق .

قلت : وأكثر ذلك يمكن فيه الفرق وقد ذكروه . " الحالة الثالثة : " أن لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه ، لكنه فقيه النفس ، حافظ مذهب إمامه ، عارف بأدلته ، قائم بتقريرها ، يصور ، ويحرر ، ويقرر ، ويمهد ، ويزيف ، ويرجح . لكنه قصر عن أولئك لقصوره عنهم في حفظ المذهب ، أو الارتياض في الاستنباط ، أو معرفة الأصول ونحوها من أدواتهم ، وهذه صفة كثير من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه ، وصنفوا فيه تصانيف فيها معظم اشتغال الناس اليوم ، ولم يلحقوا الذين قبلهم في التخريج . وأما فتاويهم فكانوا يتبسطون فيها تبسط أولئك أو قريبا منه ، ويقيسون غير المنقول عليه ، غير مقتصرين على القياس الجلي ، ومنهم من جمعت فتاويه ولا تبلغ في التحاقها بالمذهب مبلغ فتاوى أصحاب الوجوه . " الحالة الرابعة " : أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات ، ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته ، فهذا يعتمد نقله وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه ، من نصوص إمامه ، وتفريع المجتهدين في مذهبه ، وما لا يجده منقولا إن وجد في المنقول معناه ، بحيث يدرك بغير كبير فكر أنه لا فرق بينهما ، جاز إلحاقه به والفتوى به ، وكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابط ممهد في المذهب ، وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى فيه ، ومثل هذا يقع نادرا في حق المذكور . إذ يبعد كما قال إمام الحرمين : أن تقع مسألة لم ينص عليها في المذهب ، ولا هي في معنى المنصوص ، ولا مندرجة تحت ضابط . وشرطه كونه فقيه النفس ذا حظ وافر من الفقه ، قال أبو عمرو : وأن يكتفي في حفظ المذهب في هذه الحالة والتي قبلها بكون المعظم على ذهنه ، ويتمكن لدربته من الوقوف على الباقي على قرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية