صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ثم يغسل رجليه وهو فرض لما روى جابر رضي الله عنه قال : { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأنا أن نغسل أرجلنا } ) .


( الشرح ) هذا الحديث رواه الدارقطني بإسناد ضعيف . ويغني عنه ما سنذكره من الأحاديث وغيرها إن شاء الله تعالى - : ، وراوي هذا الحديث هو جابر بن عبد الله الأنصاري السلمي بفتح السين واللام المدني أبو عبد الله وقيل : أبو عبد الرحمن ، وقيل : أبو محمد شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة ، توفي بالمدينة سنة ثلاث وسبعين وقيل : ثمان وسبعين وقيل : ثمان وستين ، والصحيح الأول ، وتوفي وله أربع وتسعون سنة رضي الله عنه .

( أما حكم المسألة ) : فقد أجمع المسلمون على وجوب غسل الرجلين ولم يخالف ، في ذلك من يعتد به ، كذا ذكره الشيخ أبو حامد . وغيره ، وقالت الشيعة الواجب مسحهما ، وحكى أصحابنا عن محمد بن جرير أنه مخير بين غسلهما ومسحهما ، وحكاه الخطابي عن الجبائي المعتزلي وأوجب بعض أهل الظاهر الغسل والمسح جميعا ، واحتج القائلون بالمسح بقوله تعالى - : { وامسحوا برءوسكم وأرجلكم } بالجر على إحدى القراءتين في السبع ، فعطف الممسوح على الممسوح ، وجعل الأعضاء أربعة ، قسمين مغسولين ثم ممسوحين ، وعن أنس أنه بلغه أن الحجاج خطب فقال : أمر الله تعالى - : بغسل الوجه واليدين وغسل الرجلين ، فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج : { وامسحوا برءوسكم وأرجلكم } قرأها جرا ، وعن ابن عباس إنما هما [ ص: 448 ] غسلتان ومسحتان . وعنه أمر الله بالمسح ويأبى الناس إلا الغسل وعن رفاعة في حديث المسيء صلاته قال له النبي صلى الله عليه وسلم { إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى - : ، فيغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ورجليه } وعن علي رضي الله عنه أنه توضأ فأخذ حفنة من ماء فرش على رجله اليمنى وفيها نعله ثم صنع باليسرى كذلك ، ولأنه عضو يسقط في التيمم فكان فرضه المسح كالرأس .

واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة المستفيضة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أنه غسل رجليه : منها حديث عثمان وحديث علي وحديث ابن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن زيد والربيع بنت معوذ وعمرو بن عبسة وغيرها من الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما ، وقد جمعتها كلها في جامع السنة ، ومنها ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { رأى جماعة توضئوا وبقيت أعقابهم تلوح لم يمسها الماء فقال : ويل للأعقاب من النار } رواه البخاري ومسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص ، ورويا نحوه من رواية أبي هريرة . وفي هذا تصريح بأن استيعاب الرجلين بالغسل واجب ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه { أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدميه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ارجع فأحسن وضوءك } رواه مسلم وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : { أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف الطهور ؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا وذكر الحديث إلى أن قال : ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال : هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم } ، هذا حديث صحيح رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى - : حيث ذكره المصنف قريبا ، وهذا من أحسن الأدلة في المسألة .

وعن عمرو بن عبسة في حديثه الطويل المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ما منكم من أحد يقرب وضوءه فيمضمض إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه مع الماء ، إلى أن قال : ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء } رواه مسلم بهذا اللفظ وفي رواية قال عمرو بن [ ص: 449 ] عبسة سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سبع مرار ، قال البيهقي روينا في الحديث الصحيح عن عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء { ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله تعالى - : } : قال البيهقي وفي هذا دلالة أن الله تعالى - : أمر بغسلهما وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة وذكر الحديث إلى أن قال : فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب } رواه مسلم وعن لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وخلل بين الأصابع } وهو حديث صحيح سبق بيانه في فصل المضمضة وسنعيده في تخليل ، الأصابع قريبا إن شاء الله تعالى - : ، وفيه دلالة للغسل ، والأحاديث في المسألة كثيرة جدا وفيما ذكرناه كفاية ، قال أصحابنا : ولأنهما عضوان محدودان فكان واجبهما الغسل كاليدين .

وأما الجواب عن احتجاجهم بقوله تعالى - : { وأرجلكم } فقد قرئت بالنصب والجر فالنصب صريح في الغسل ، وتكون معطوفة على الوجه واليدين ، وأما الجر فأجاب أصحابنا وغيرهم عنه بأجوبة أشهرها أن الجر على مجاورة الرءوس مع أن الأرجل منصوبة وهذا مشهور في لغة العرب ، وفيه أشعار كثيرة مشهورة وفيه من مأثور كلامهم كثير ، من ذلك قولهم : ( هذا جحر ضب خرب ) بجر خرب على جوار ضب وهو مرفوع صفة لجحر ، ومنه في القرآن { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } فجر أليما على جوار يوم وهو منصوب صفة لعذاب فإن قيل : إنما يصح الإتباع إذا لم يكن هناك واو ، فإن كانت لم يصح والآية فيها واو قلنا : هذا غلط فإن الإتباع مع الواو مشهور في أشعارهم ، من ذلك ما أنشدوه .

لم يبق إلا أسير غير منفلت وموثق في عقال الأسر مكبول

فخفض موثقا مجاورته " منفلت " وهو مرفوع معطوف على أسير . [ ص: 450 ] فإن قالوا : الإتباع إنما يكون فيما لا لبس فيه ، وهذا فيه لبس قلنا : لا لبس هنا لأنه حدد بالكعبين والمسح لا يكون إلى الكعبين بالاتفاق . والجواب الثاني : أن قراءتي الجر والنصب يتعادلان ، والسنة بينت ورجحت الغسل فتعين . الثالث : ذكره جماعات من أصحابنا منهم الشيخ أبو حامد والدارمي والماوردي والقاضي أبو الطيب وآخرون ، ونقله أبو حامد في باب المسح على الخف عن الأصحاب أن الجر محمول على مسح الخف ، والنصب على الغسل إذا لم يكن خف .

الرابع : أنه لو ثبت أن المراد بالآية المسح لحمل المسح على الغسل جمعا بين الأدلة والقراءتين ; لأن المسح يطلق على الغسل كذا نقله جماعات من أئمة اللغة ، منهم أبو زيد الأنصاري وابن قتيبة وآخرون ، وقال أبو علي الفارسي : العرب تسمي خفيف الغسل مسحا ، وروى البيهقي بإسناده عن الأعمش قال : كانوا يقرءونها وكانوا يغسلون . وأما الجواب عن احتجاجهم بكلام أنس فمن أوجه : أشهرها عند أصحابنا : أن أنسا أنكر على الحجاج كون الآية تدل على تعيين الغسل ، وكان يعتقد أن الغسل إنما علم وجوبه من بيان السنة فهو موافق للحجاج في الغسل مخالف له في الدليل .

( والثاني ) ذكره البيهقي وغيره أنه لم ينكر الغسل إنما أنكر القراءة فكأنه لم يكن ( يرى ) قراءة النصب وهذا غير ممتنع ، ويؤيد هذا التأويل أن أنسا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ما دل على الغسل وكان أنس يغسل رجليه .

( الثالث ) : لو تعذر تأويل كلام أنس كان ما قدمناه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وفعل الصحابة وقولهم مقدما عليه . وأما قول ابن عباس فجوابه من وجهين ، أحسنهما : أنه ليس بصحيح ولا معروف عنه وإن كان قد رواه ابن جرير بإسناده في كتابه اختلاف العلماء إلا أن إسناده ضعيف ، بل الصحيح الثابت عنه أنه كان يقرأ : [ ص: 451 ] { وأرجلكم } بالنصب ويقول : عطف على المغسول ، هكذا رواه عنه الأئمة الحفاظ الأعلام منهم أبو عبيد القاسم بن سلام وجماعات القراء والبيهقي وغيره بأسانيدهم ، وثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه { توضأ فغسل رجليه وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ } . والجواب الثاني نحو الجواب السابق في كلام أنس . وأما حديث رفاعة فهو على لفظ الآية فيقال فيه ما قيل في الآية . وأما حديث علي فجوابه من أوجه أحسنها أنه ضعيف ضعفه البخاري وغيره من الحفاظ فلا يحتج به لو لم يخالفه غيره ، فكيف وهو مخالف للسنن المتظاهرة والدلائل الظاهرة ؟ ( الثاني ) لو ثبت لكان الغسل مقدما عليه لأنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الثالث ) جواب البيهقي والأصحاب أنه محمول على أنه غسل الرجلين في النعلين فقد ثبت عن علي من أوجه كثيرة غسل الرجلين فوجب حمل الرواية المحتملة على الروايات الصحيحة الصريحة . وأما قياسهم على الرأس فمنتقض برجل الجنب فإنه يسقط فرضها في التيمم ولا يجزئ مسحها بالاتفاق والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية