صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ويجب إدخال الكعبين في الغسل لقوله تعالى - : { وأرجلكم إلى الكعبين } قال أهل التفسير : مع الكعبين ، والكعبان هما العظمات الناتئان عند مفصل الساق والقدم ، والدليل عليه ما روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا بوجهه وقال : أقيموا صفوفكم ، فلقد رأيت الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه } فدل على أن الكعب ما قلناه ) .


( الشرح ) حديث النعمان حديث حسن رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما بأسانيد جيدة ، وذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة جزم فقال في أبواب تسوية الصفوف . وقال النعمان بن بشير : ( رأيت الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه ) وقد قدمنا أن تعليقات البخاري إذا كانت بصيغة جزم كانت صحيحة . وقوله وروى النعمان : " أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 452 ] أقبل علينا " هو من باب تلوين الخطاب ، وفيه حذف تقديره : قال إن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا ، ولو أتى المصنف بلفظة ( قال ) كما هي في روايات الحديث لكان أحسن . وقوله صلى الله عليه وسلم : " أقيموا صفوفكم " معناه أتموها واعتدلوا واستووا فيها . وقوله : " يلصق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه " إخبار عن شدة مبالغتهم في إقامة الصفوف وتسويتها . والمنكب بفتح الميم وكسر الكاف سبق بيانه في فصل غسل اليدين . وقول المصنف : ( العظمات الناتئان ) هو بالنون في أوله وبعد الألف تاء مثناة فوق ثم همزة ومعناه الناشزان المرتفعان . وقوله : ( مفصل الساق ) هو بفتح الميم وكسر الصاد ، والساق مؤنثة غير مهموزة وفيها لغة قليلة بالهمز ، وقد قرئ بها في السبع في قوله تعالى - : { وكشفت عن ساقيها } وغيره . وأما النعمان بن بشير راوي الحديث فكنيته أبو عبد الله وهو أنصاري خزرجي ، وهو أول مولود ولد للأنصار بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهو وأبوه بشير صحابيان ، وأم النعمان عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة صحابية ، وولد النعمان سنة اثنتين من الهجرة وقتل بقرية من قرى حمص سنة أربع وستين وقيل : سنة ستين رضي الله عنه .

أما أحكام الفصل ففيه مسألتان : ( إحداهما ) أنه يجب إدخال الكعبين في الغسل وهذا لا خلاف فيه عندنا وبه قال الجمهور ، وخالف فيه زفر وابن داود ، وقد سبق بيان ذلك ودليله في غسل اليدين ، وقول المصنف قال أهل التفسير أي : كثيرون منهم فإنهم مختلفون كما سبق .

( المسألة الثانية ) : أن الكعبين هما العظمات الناتئان عند مفصل الساق والقدم ، وهذا مذهبنا وبه قال المفسرون وأهل الحديث وأهل اللغة والفقهاء ، وقالت الشيعة : هما الناتئان في ظهر القدمين ، فعندهم أن في كل رجل كعبا واحدا ، وحكاه الخطابي في كتابه الزيادات في شرح ألفاظ مختصر المزني عن أبي هريرة وأهل الكوفة ، وحكاه أصحابنا عن محمد بن الحسن [ ص: 453 ] قال المحاملي : ولا يصح عنه ، وحكاه الرافعي وجها لنا وليس بشيء ، وليس لهؤلاء المخالفين حجة تذكر . ودليلنا عليهم الكتاب والسنة واللغة والاشتقاق .

أما الكتاب فقوله تعالى - : { وأرجلكم إلى الكعبين } قال أصحابنا : هذا يقتضي أن يكون في كل رجل كعبان ، ولا يجيء هذا إلا على ما قلناه ، ولو كان كما قالوه لقال إلى الكعاب كما قال إلى المرافق .

وأما السنة فعن عثمان رضي الله عنه في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم { فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثم اليسرى كذلك } رواه مسلم . وحديث النعمان المذكور في الكتاب وهو صحيح كما سبق ، وموضع الدلالة قوله : " يلصق كعبه بكعب صاحبه " وهذا لا يكون إلا في الكعب الذي قلناه ، ونظائر هذا في الأحاديث كثيرة .

وأما الاشتقاق فهو أن الكعب مشتق من التكعب وهو النتو مع الاستدارة ، ومنه سميت الكعبة ، ومنه كعب ثدي المرأة ، وهذه صفة الكعب الذي قلناه لا الذي قالوه ، وقال الخطابي : وقالت العرب : كعب أدرم وهو المندمج الممتلئ ، ولا يوصف ظهر القدم بالدرم . وأما نقل اللغة فقال الماوردي : المحكي عن قريش ونزار كلها : مضر وربيعة لا يختلف لسان جميعهم أن الكعب اسم للناتئ بين الساق والقدم ، قال : وهم أولى بأن يعتبر لسانهم في الأحكام من أهل اليمن ; لأن القرآن نزل بلغة قريش . وقال صاحب كتاب العين : الكعب ما أشرف فوق الرسغ ، ونقله أبو عبيد عن الأصمعي وهو قول أبي زيد النحوي الأنصاري ، والمفضل بن سلمة وابن الأعرابي وهؤلاء أعلام أهل اللغة ، قال الواحدي : ولا يعرج على قول من قال : الكعب في ظهر القدم ; لأنه خارج عن اللغة والأخبار وإجماع الناس ، فهذه أقوال أئمة اللغة المصرحة بما قلنا ، قال الروياني : فإن قيل للبهائم في كل رجل كعب فينبغي أن يقال كذا في الآدمي - قلنا : خلقة الآدمي تخالف البهائم ; لأن كعب البهيمة فوق ساقها ، وكعب الآدمي في أسفله فلا يلزم اتفاقهما والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية