صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن عطب وخاف أن يهلك نحره وغمس نعله في دمه وضرب به صفحته لما روى أبو قبيصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان يبعث بالهدي ثم يقول : إن عطب منها شيء فخشيت عليه موتا فانحرها اغمس نعلها في دمها ثم اضرب صفحتها [ ص: 335 ] ولا تطعمها أنت ولا أحد من رفقتك } ولأنه هدي معكوف عن الحرم فوجب نحره مكانه كهدي المحصر ، وهل يجوز أن يفرقه على فقراء الرفقة ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا يجوز لحديث أبي قبيصة ، ولأن فقراء الرفقة يتهمون في سبب عطبها فلم يطعموا منها ( والثاني ) يجوز لأنهم من أهل الصدقة ، فجاز أن يطعموا كسائر الفقراء ، فإن أخر ذبحه حتى مات ضمنه لأنه مفرط في تركه فضمنه كالمودع إذا رأى من يسرق الوديعة فسكت عنه حتى سرقها . وإن أتلفها لزمه الضمان لأنه أتلف مال المساكين فلزمه ضمانه ، ويضمنه بأكثر الأمرين من قيمته أو هدي مثله ، لأنه لزمه الإراقة والتفرقة وقد فوت الجميع فلزمه ضمانها ، كما لو أتلف شيئين . فإن كانت القيمة مثل ثمن مثله اشترى مثله وأهداه ، وإن كانت أقل لزمه أن يشتري مثله ويهديه ، وإن كانت أكثر من ذلك نظرت فإن كان يمكنه أن يشتري به هديين - اشتراهما ، وإن لم يمكنه اشترى هديا ، وفيما يفضل ثلاثة أوجه ( أحدها ) يشتري به جزءا من حيوان ، ويذبح لأن إراقة الدم مستحقة ، فإذا أمكن لم يترك ( والثاني ) أنه يشتري به اللحم لأن اللحم والإراقة مقصودان والإراقة تشق فسقطت ، والتفرقة لا تشق فلم تسقط ( والثالث ) أن يتصدق بالفاضل ، لأنه إذا سقطت الإراقة كان اللحم والقيمة واحدا . وإن أتلفها أجنبي وجبت عليه القيمة ، فإن كانت القيمة مثل ثمن مثلها اشترى بها مثلها ، وإن كانت أكثر ولم تبلغ ثمن مثلين اشترى المثل ، وفي الفاضل الأوجه الثلاثة ، وإن كانت أقل من ثمن المثل ففيه الأوجه الثلاثة ، وإن كان في الهدي الذي نذره اشتراه ووجد به عيبا بعد النذر لم يجز له الرد بالعيب ، لأنه قد أيس من الرد لحق الله عز وجل ويرجع بالأرش ويكون الأرش للمساكين لأنه بدل عن الجزء الفائت الذي التزمه بالنذر ، فإن لم يمكنه أن يشتري به هديا ففيه الأوجه الثلاثة ) .


( الشرح ) حديث أبي قبيصة رواه مسلم في صحيحه ، واسم أبي قبيصة ذؤيب بن حلحلة الخزاعي والد قبيصة بن ذؤيب الفقيه المشهور التابعي ، ولفظ الحديث في صحيح مسلم " عن ابن عباس أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان يبعث معه بالبدن ثم يقول : إن عطب منها شيء فخشيت عليه موتا فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها [ ص: 336 ] ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك } وعن ناجية الأسلمي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي فقال : إن عطب فانحره ، ثم اصبغ نعله في دمه ، ثم خل بينه وبين الناس } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه . قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وأما ألفاظ الفصل فقوله : خاف أن يهلك - هو بكسر اللام - وقوله ( غمس نعله ) يعني النعل المعلقة في عنقه ، كما سبق أنه يسن أن يقلدها نعلين . قوله صلى الله عليه وسلم ( ولا تطعمها ) هو بفتح التاء والعين ، أي لا تأكلها ، والرفقة بضم الراء وكسرها قوله ( هدي معكوف عن الحرم ) أي محبوس . وقوله ( بأكثر الأمرين من قيمته وهدي ) هكذا وقع في بعض النسخ هنا ، وهدي بالواو ، ووقع بعضها أو ، وهذا هو الذي ينكر في كتب الفقه مثله ، ولكن الصواب هو الأول ، والله أعلم .

( أما الأحكام ) ففيها مسائل : ( إحداها ) إذا عطب الهدي في الطريق وخاف هلاكه ، قال أصحابنا : إن كان تطوعا فله أن يفعل به ما شاء من بيع وذبح وأكل وإطعام وتركه وغير ذلك لأنه ملكه ، ولا شيء عليه في كل ذلك ، وإن كان منذورا لزمه ذبحه ، فإن تركه حتى هلك لزمه ضمانه ، كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت . وإذا ذبحه غمس النعل التي قلده إياها في دمه وضرب بها صفحة سنامه وتركه موضعه ليعلم من مر به أنه هدي فيأكله . قال أصحابنا : ولا يجوز للمهدي ولا لسائق هذا الهدي وقائده الأكل منه بلا خلاف للحديث ، ولا يجوز للأغنياء الأكل منه بلا خلاف ، لأن الهدي مستحق للفقراء فلا حق للأغنياء فيه ، ويجوز للفقراء من غير رفقة صاحب الهدي الأكل منه بالإجماع لحديث ناجية السابق . وهل يجوز للفقراء من رفقة صاحب الهدي الأكل منه ؟ فيه وجهان [ ص: 337 ] مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) لا يجوز ، وهو المنصوص للشافعي وصححه الأصحاب للحديث . ومن جوزه حمل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن رفقة ذلك المخاطب لا فقير فيهم . وهذا تأويل ضعيف . وفي المراد بالرفقة وجهان حكاهما الروياني في البحر ( أحدهما ) وهو الذي استحسنه الروياني أن المراد الرفقة الذين يخالطونه في الأكل وغيره دون القافلة ( وأصحهما ) وهو الذي يقتضيه ظاهر الأحاديث ، وظاهر نص الشافعي وكلام الأصحاب أن المراد جميع القافلة ، لأن السبب الذي منعت به الرفقة هو خوف تعطيلهم إياه . وهذا موجود في جميع القافلة ( فإن قيل ) إذا لم يجز لأهل القافلة أكلها وترك في البرية كان طعمة للسباع وهذا إضاعة مال قلنا ليس فيه إضاعة ، بل العادة الغالبة أن سكان البوادي يتبعون منازل الحجيج لالتقاط ساقطة ونحوه ، وقد تأتي قافلة في إثر قافلة والله تعالى أعلم .

وإذا ذبح الهدي الواجب وغمس نعله في دمه وضرب به صفحته وتركه فهل يتوقف إباحة أكله على قوله : أبحته لمن يأكله منه ؟ فيه قولان ( أصحهما ) لا يتوقف بل يكفي ذبحه وتخليته ، لأنه بالنذر زال ملكه وصار للفقراء . أما إذاعطب هدي التطوع فذبحه فقال صاحب الشامل والأصحاب : لا يصير مباحا للفقراء بمجرد ذلك ، ولا يصير مباحا لهم إلا بلفظ بأن يقول أبحته للفقراء أو المساكين أو جعلته لهم أو سبلته لهم ونحو ذلك ، قالوا : ولا خلاف في هذا ، قالوا : فإذا قال هذا اللفظ جاز لمن سمعه الأكل منه بلا خلاف ، وهل يجوز لغيره ؟ قولان ، قال في الإملاء : حتى يعلم الإذن ، وقال في الأم والقديم : يحل ، وهو الأصح لأن الظاهر أنه أباحه ، وقياسا على ما إذا رأى ماء في الطريق موضوعا وعليه أمارة الإباحة ، فإن له شربه باتفاقهم ، والله أعلم .

( فرع ) قد ذكرنا أنه إذا عطب الهدي المنذور فلم يذبحه حتى هلك [ ص: 338 ] ضمنه ، وإن أكله ضمنه ، قال الروياني : قال أبو علي الطبري في الإفصاح : قال الشافعي : يوصل بدله إلى مساكين الحرم ، قال أبو علي : وعندي القياس أنه يجعله لمساكين موضعه ، قال الروياني : هذا غلط لأنه يمكن إيصال ثمنه إلى مساكين الحرم بخلاف الذبيحة ، وكما يجب إيصال الولد إليهم دون اللبن

( المسألة الثانية ) إذا أتلف المهدي الهدي لزمه ضمانه بأكثر الأمرين من قيمته ومثله كما لو باع الأضحية المعينة وتلفت عند المشتري . هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور . وفيه وجه ضعيف مشهور أنه يلزمه قيمته يوم الإتلاف ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى فيما إذا أتلفه أجنبي ، وبهذا الوجه قال مالك وأبو حنيفة . ودليل المذهب ما ذكره المصنف . فعلى المذهب إن كانت القيمة مثل ثمن مثله ، بأن لم يتغير السعر لزمه شراء مثله ، وإن كانت القيمة أقل لزمه شراء مثله ، وإن كانت أكثر بأن رخص السعر فإن أمكن أن يشتري بها هديين لزمه ذلك أو هديا واحدا نفيسا ، فإن لم يمكنه فاشترى واحدا وفضلت فضلة - نظر إن أمكنه أن يشتري بهذه الفضلة شقصا من هدي مثلها ففيه خمسة أوجه ( أصحها ) يلزمه شراؤه وذبحه مع الشريك ولا يجوز إخراج القيمة دراهم يتصدق بها ، هكذا قاله الجمهور وقال إمام الحرمين : على هذا الوجه يصرفها مصرف الضحايا حتى لو أراد أن يتخذ منها خاتما يقتنيه ولا يبيعه جاز له ذلك . قال الرافعي : وهذا وجه من قول الجمهور . وقال : ويشبه أن لا يكون فيه خلاف محقق ، بل المراد أنه لا يجب شقص ويجوز إخراج الدراهم ، وقد يتساهل في ذكر المصرف في مثل هذا . وهذا الذي قاله الإمام تفريع على جواز الأكل من الهدي الواجب . [ ص: 339 ] والوجه الثالث ) يجب أن يشتري بها لحما ويتصدق به ( والرابع ) أن له صرفها في جزء من غير المثل ، لأن الزيادة على المثل كابتداء هدي ( والخامس ) أنه يهلك هذه الفضلة ، حكاه الرافعي . هذا كله إذا أمكن شراء شقص بهذه الفضلة ، فإن لم يمكن ففيه الأربعة ويسقط الأول ( أصحها ) الثاني ، وهو جواز إخراج القيمة دراهم ويتصدق بها ، ويحكي كلام إمام الحرمين ، والله أعلم

أما إذا أتلفه أجنبي فلا يلزمه إلا القيمة بلا خلاف والفرق بينه وبين المهدي حيث قلنا : إن المذهب أنه يلزمه أكثر الأمرين أن المهدي التزم الإراقة ، قال أصحابنا : فيأخذ المهدي القيمة من الأجنبي فيشتري بها مثل الهدي المتلف ، فإن حصل مثله من غير زيادة ولا نقص ذبحه ، وإن زادت القيمة فإن بلغت الزيادة مثلين لزمه شراؤهما ، وإن لم تبلغ مثلين اشترى مثلا . وفي الزيادة الأوجه السابقة فيما إذا أتلفها المهدي . أما إذا لم تف القيمة بمثله لغلاء حدث ، فيشتري دونه . قال أصحابنا والفرق بين هذا وبين ما إذا نذر إعتاق عبد بعينه فقتل ذلك العبد ، فإن القيمة تكون ملكا للنادر يتصرف فيها بما شاء ، ولا يلزمه أن يشتري بها عبدا يعتقه ، لأن ملكه لم يزل عن العبد ، والذي يستحق العتق هو العبد وقد مات . ومستحقو الهدي باقون . وإن لم يجد بالقيمة ما يصلح هديا فوجهان ( أحدهما ) وهو الذي ذكره الماوردي أنه يلزم المهدي أن يضم إلى القيمة من ماله ما يحصل به هدي لأنه التزمه قال الرافعي : ومن قال بهذا يمكن أن يطرده في التلف ( والوجه الثاني ) وهو الصحيح وبه قطع الجمهور أنه لا يلزمه ضم شيء من ماله لعدم تقصيره ، فعلى هذا إن أمكن أن يشتري شقص هدي فثلاثة أوجه ( أصحها ) يلزمه شراؤه وذبحه مع شريكه ولا يجوز إخراج القيمة ( والوجه الثاني والثالث ) كما سبق في إتلاف المهدي . وإن لم يمكن أن [ ص: 340 ] يشتري به شقص هدي ففيه الوجه الثاني والثالث . وقد رتب الماوردي هذه الصور ترتيبا حسنا فقال : إن كان المتلف ثنية ضأن مثلا ولم يمكن أن يشتري بالقيمة مثلها وأمكن أن يشتري بها جذعة ضأن وثنية معز ، تعين الضأن رعاية للنوع ، وإن أمكن ثنية معز دون جذعة ضأن تعين الأول ، لأن الثاني لا يصلح هديا ، وإن أمكن دون جذعة ضأن ودون ثنية معز وأمكن شراء سهم في شاة تعين الأول ، لأن كلا منهما لا يصلح للهدي فترجح الأول ، لأن فيه إراقة دم كامل ، وإن أمكن شراء سهم وشراء لحم تعين الأول لأن فيه شركة في إراقة دم ، وإن لم يمكن إلا شراء اللحم وتفرقة الدراهم تعين الأول ، لأنه مقصود الهدي ، والله أعلم .

( الثالثة ) إذا اشترى هديا ثم نذر إهداءه ثم وجد به عيبا لم يجز له رده بالعيب لأنه تعلق به حق لله تعالى فلا يجوز إبطاله ، كما لو عتق المبيع أو وقفه ثم وجد به عيبا فإنه لا يجوز رده ويجب الأرش هنا كما يجب فيما إذا أعتق أو وقف ، وفي هذا الأرش وجهان ( أحدهما ) وبه قطع المصنف والأكثرون يجب صرفه إلى المساكين لما ذكره المصنف ، فعلى هذا إن أمكنه شراء هدي لزمه وإلا ففيما يفعل به الأوجه السابقة في المسألة قبلها فيما إذا أتلفه وفضل عن مثله شيء .

( والوجه الثاني ) يكون الأرش للمشتري النادر لأن الأرش إنما وجب له ، لأن عقد البيع اقتضى سلامته وذلك حق للمشتري ، وإنما تعلق به حق الفقراء وهو ناقص ، ولأن العيب قد يكون مؤثرا في اللحم الذي هو المقصود . قال الرافعي : وبالوجه الأول قال الأكثرون ، لكن الثاني أقوى ، قال ونسبه إلى المراوزة ولا يصح غيره . قال : وإليه ذهب ابن الصباغ والغزالي والروياني ، هذا كلام الرافعي . وقد نقل ابن الصباغ هذا الثاني عن أصحابنا مطلقا ولم يحك فيه خلافا فهو الصحيح ، والله أعلم . [ ص: 341 ] فرع ) إذا قال : جعلت هذه الشاة أو البدنة ضحية أو نذر أن يضحي بشاة أو بدنة عينها فماتت قبل يوم النحر أو سرقت قبل تمكنه من ذبحها يوم النحر فلا شيء عليه ، وكذا الهدي المعين إذا تلف قبل بلوغ المنسك أو بعده ، وقبل التمكن من ذبحه فلا شيء عليه لأنه أمانة لم يفرط فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية