صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن كان في ذمته هدي فعينه بالنذر في هدي تعين ، لأن ما وجب به معينا جاز أن يتعين به ما في الذمة كالبيع ، ويزول ملكه عنه فلا يملك بيعه ولا إبداله كما قلنا فيما أوجبه بالنذر ، فإن هلك بتفريط أو بغير تفريط رجع الواجب إلى ما في الذمة ، كما لو كان عليه دين فباع به عينا ثم هلكت العين قبل التسليم ، فإن الدين يرجع إلى الذمة ، وإن حدث به عيب يمنع الإجزاء لم يجزه عما في الذمة . لأن الذي في الذمة سليم فلم يجزه عنه معيب ، وإن عطب فنحره عاد الواجب إلى ما في الذمة ، وهل يعود ما نحره إلى ملكه ؟ فيه وجهان : ( أحدهما ) يعود إلى ملكه لأنه إنما نحره ليكون عما في ذمته ، فإذا لم يقع عما في ذمته عاد إلى ملكه ( والثاني ) أنه لا يعود . لأنه صار للمساكين فلا يعود إليه ( فإن قلنا ) إنه يعود إلى ملكه جاز له أن يأكله ويطعم من شاء ، ثم ينظر فيه ، فإن كان الذي في ذمته مثل الذي عاد إلى ملكه نحر مثله في الحرم ، وإن كان أعلى مما في ذمته ففيه وجهان ( أحدهما ) يهدي مثل ما نحر ، لأنه قد تعين عليه فصار ما في ذمته زائدا فلزمه نحر مثله ( والثاني ) أنه يهدي مثل الذي كان في ذمته ، لأن الزيادة فيما عينه وقد هلك من غير تفريط فسقط ، وإن نتجت فهل يتبعها ولدها أم لا ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) أنه يتبعها وهو الصحيح لأنه تعين بالنذر فصار كما لو وجب في النذر ( والثاني ) لا يتبعها ، لأنه غير [ ص: 345 ] مستقر ، لأنه يجوز أن يرجع إلى ملكه بعيب يحدث به ، بخلاف ما وجب بنذره لأن ذلك لا يجوز أن يعود إلى ملكه بنذره والله تعالى أعلم ) .


( الشرح ) قال أصحابنا : إذا لزم ذمته أضحية بالنذر أو هدي بالنذر أو دم تمتع أو قران ، أو لبس أو غير ذلك مما يوجب شاة في ذمته . فقال : لله علي أن أذبح هذه الشاة عما في ذمتي لزمه ذبحها بعينها لما ذكره المصنف ، ويزول ملكه عنها فلا يجوز له بيعها ولا إبدالها ، هذا هو المذهب ، وبه قطع المصنف والجمهور وحكى الخراسانيون وجها أنها لا تتعين ، ووجها أنه لا يزول ملكه ، والصحيح المشهور الأول . فعلى هذا إن هلكت قبل وصولها الحرم بتفريط أو غير تفريط أو حدث بها عيب يمنع الإجزاء رجع الواجب إلى ذمته ، ولزمه ذبح شاة صحيحة . هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والجمهور ، وفيه وجه حكاه إمام الحرمين وغيره أنها إذا تلفت لا يلزمه إبدالها لأنها متعينة فهي كما لو قال : جعلت هذه أضحية ، وحكى الخراسانيون وجها شاذا أنها إذا عابت يجزئه ذبحها ، كما لو نذر ابتداء شاة فحدث بها عيب ، والصحيح الأول . فعلى هذا هل تنفك تلك المعيبة عن الاستحقاق ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا بل يلزمه ذبحها والتصدق بها وذبح صحيحة ، لأنه التزمها بالتعيين ( وأصحهما ) وهو المنصوص تنفك ، فيجوز له تملكها وبيعها وسائر التصرف ، لأنه لم يلتزم التصدق بها ابتداء ، بل عينها عما عليه ، وإنما يتأدى عنه بشرط السلامة ، ولو عين عن نذره شاة فهلكت بعد وصولها الحرم ، أو تعيبت ففي إجزائها وجهان : ( أحدهما ) وهو قول ابن الحداد تجزئه فيذبحها ويفرقها ، ولا يلزمه إبدالها لأنها بلغت محلها ( وأصحهما ) لا تجزئه هذه ، ويلزمه صحيحة واختاره القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما ، لأنها تلفت أو تعيبت قبل وصولها إلى المساكين ، فأشبه ما قبل وصولها الحرم ( فإن قلنا ) لا تجزئه المعيبة لزمه سليمة ، [ ص: 346 ] وهل تعود المعيبة إلى ملكه ، فيه الوجهان السابقان ( الأصح ) تعود فيملكها ويتصرف فيها بالبيع والأكل وغيرهما .

ولو عطب هذا الهدي المتعين قبل وصوله الحرم فنحره رجع الواجب إلى ذمته ، وهل يملك المنحور ؟ فيه الوجهان ( الأصح ) يملكه ( والثاني ) لا . فعلى هذا يتصدق به مع ذبح صحيح عما في ذمته ، ولو ضل هذا الهدي المعين لزمه إخراج ما كان في ذمته ، وكأنه لم يعينه لأنه لم يصل المساكين ، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور . وذكر إمام الحرمين وصاحب الشامل وغيرهما في وجوب إخراج بدله وجهين ( أصحهما ) هذا ( والثاني ) لا يلزمه لعدم تقصيره ، فإن ذبح واحدة عما عليه ثم وجد الضالة فهل يلزمه ذبحها ؟ فيه وجهان ، وقيل قولان ( أصحهما ) عند البغوي لا يلزمه ، بل يتملكها كما سبق فيما لو تعيبت ( والثاني ) يلزمه ، وبه قطع صاحب الشامل لإزالة ملكه بالتعيين ولم تخرج عن صفة الإجزاء بخلاف التعيب ، فلو عين عن الضال واحدة ثم وجد الضال هل يذبح البدل ؟ فيه أربعة أوجه ( أحدها ) يلزمه ذبحهما معا ( والثاني ) يلزمه ذبح البدل فقط ( والثالث ) يلزمه ذبح الأول فقط ( والرابع ) يتخير فيهما ، والأصح من هذه الأوجه الثالث والله أعلم .

وهذا كله إذا كان الذي عينه مثل الذي في ذمته ، فإن كان الذي عينه دون الذي في ذمته بأن عين شاة معيبة ، قال ابن الحداد والأصحاب : يلزمه ذبح ما عينه ولا يجزئه عما في ذمته ، كما إذا كان عليه كفارة فأعتق عنها عبدا معيبا ، فإنه يعتق ولا يجزئه عن الكفارة ، وإن عين أعلى مما في ذمته بأن كان عليه شاة فعين عنها بدنة أو بقرة ، لزمه نحوها فإن هلكت قبل وصولها فوجهان مشهوران حكاهما المصنف والأصحاب ( أحدهما ) يلزمه مثل التي كان عينها ( وأصحهما ) لا يلزمه إلا مثل التي كانت في ذمته ، كما لو نذر معيبة ابتداء فهلكت بغير تفريط . هذه طريقة الجمهور .

[ ص: 347 ] وقال الشيخ أبو حامد في التعليق والبندنيجي إن فرط لزمه مثل الذي عين . وإلا ففيه الوجهان والله أعلم .

أما إذا ولدت التي عينها عن نذره فهل يتبعها ولدها ؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( الصحيح ) أنه يتبعها ( والثاني ) لا يتبعها ، فعلى هذا يكون الولد ملكا للمهدي . وإذا قلنا بالأول فهلكت الأم أو أصابها عيب ، وقلنا : تعود هي إلى ملك المهدي ففي الولد وجهان ، حكاهما صاحب الشامل وآخرون ( أصحهما ) أنه يكون ملكا للفقراء ، كما لو ولدت الأمة المبيعة في يد البائع ثم هلكت ، فإن الولد يكون للمشتري ( والثاني ) إلى ملك المهدي تبعا لأمه والله تعالى أعلم .

( فرع ) في ضلال الهدي والأضحية وفيه مسائل ( إحداها ) إذا ضل هديه أو أضحيته المتطوع بهما لم يلزمه شيء لكن يستحب ذبحه إذا وجده ، والتصدق به ، فإن ذبحها بعد أيام التشريق كانت شاة لحم يتصدق بها ( الثانية ) الهدي المعين بالنذر أولا إذا ضل بغير تقصيره لم يلزمه ضمانه ، فإن وجده لزمه ذبحه ، والأضحية إن وجدها في وقت الأضحية لزمه ذبحها ، وإن وجدها بعد الوقت فله ذبحها في الحال قضاء ولا يلزمه الصبر إلى قابل ، وإذا ذبحها صرف لحمها مصارف الضحايا هذا هو المذهب ، وفيه وجه لأبي علي بن أبي هريرة أنه يصرفها إلى المساكين فقط ، ولا يأكل ولا يدخر وهو شاذ ضعيف .

( الثالثة ) متى كان الضلال بغير تفريط لم يلزمه الطلب إن كان فيه مؤنة ، فإن لم يكن لزمه ، وإن كان بتقصيره لزمه الطلب ، فإن لم يعد لزمه الضمان ، فإن علم أنه لا يجدها في أيام التشريق لزمه ذبح بدلها في أيام التشريق . قال أصحابنا : وتأخير الذبح إلى مضي أيام التشريق بلا عذر تقصير [ ص: 348 ] يوجب الضمان ، وإن مضى بعض أيام التشريق ثم ضلت فهل هو تقصير ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) ليس بتقصير ، كمن مات في أثناء وقت الصلاة الموسع لا يأثم على الأصح ( الرابعة ) إذا عين هديا أو أضحية عما في ذمته فضلت المعينة ، ففيه خلاف وتفريع سبق قريبا قبل هذا الفرع ، والله أعلم .

( فرع ) لو عين شاة عن هدي أو أضحية في ذمته وقلنا : يتعين فضحى بأخرى عما في ذمته . قال إمام الحرمين : يخرج على الخلاف في المعينة لو تلف هل تبرأ ذمته ؟ ( إن قلنا ) نعم لم تقع الثانية عما عليه ، كما لو قال : جعلت هذه أضحية ثم ذبح بدلها ( وإن قلنا ) لا ، وهو الأصح ففي وقوع الثانية عما عليه تردد ( فإن قلنا ) تقع عنه فهل تسقط الأولى عن الاستحقاق ؟ فيه الخلاف السابق .

( فرع ) لو عين من عليه كفارة عبدا عنها ففي تعينه وجهان ( أصحهما ) وبه قطع الشيخ أبو حامد أنه يتعين ، فعلى هذا لو عاب هذا المعين لزمه إعتاق سليم ، لو مات بقيت ذمته مشغولة بالكفارة ، وإن أعتق عبدا آخر عن كفارته مع تمكنه من إعتاق المعين فوجهان ( الصحيح ) إجزاؤه وبراءة ذمته به ، والله أعلم

( فرع ) في وقت ذبح الهدي طريقان ( أصحهما ) وبه قطع العراقيون وغيرهم أنه يختص بيوم النحر وأيام التشريق ( والثاني ) فيه وجهان ( أصحهما ) هذا ( والثاني ) لا يختص بزمان كدماء الجبران ، فعلى الصحيح لو أخر الذبح حتى مضت هذه الأيام ، فإن كان الهدي واجبا لزمه ذبحه ويكون قضاء ، وإن كان تطوعا فقد فات الهدي ، قال الشافعي والأصحاب : فإن ذبحه كان شاة لحم لا نسكا ، والله أعلم .

واعلم أن الرافعي ذكر مسألة وقت ذبح الهدي في موضعين من كتابه ، فذكرها في [ ص: 349 ] باب الهدي على الصواب ، فقال : الصحيح الذي قطع به العراقيون وغيرهم اختصاصه بيوم النحر وأيام التشريق ، وفيه وجه أنه لا يختص ، وذكرها في باب صفة الحج وجزم بأنه لا يختص ( والصواب ) ما ذكرناه من الاختصاص ، وإنما نبهت عليه لئلا يغتر بكلامه ، وقد نبهت عليه في الروضة ، والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : إذا كان مع المعتمر هدي ، فإن كان تطوعا بأن لم يكن متمتعا ، أو متمتعا لا دم عليه لفقد شرط من شروط وجوب الدم فالمستحب أن يذبح هديه عند المروة لأنه موضع تحلله . وحيث ذبحه من مكة وسائر الحرم جاز . قال أصحابنا : والمستحب أن يذبحه بعد السعي وقبل الحلق ، كما أنه يستحب في الحج أن يذبح قبل الحلق . وسواء قلنا : الحلق نسك أم لا .

( أما ) إذا كان الهدي للتمتع أو القران فوقت استحباب ذبحه يوم النحر ، ووقت جوازه بعد الفراغ من العمرة ، وبعد الإحرام بالحج ، وهل يجوز بعد فراغ العمرة وقبل الإحرام بالحج ؟ فيه خلاف سبق بيانه واضحا في الباب الأول من كتاب الحج . ( فرع ) قال البندنيجي وغيره : يستحب لمن معه هديان أو أضحيتان واجب وتطوع أن يبدأ بنحر الواجب ، والله أعلم .

( فرع ) إذا ذبح الهدي والأضحية فلم يفرق لحمه حتى تغير وأنتن ، قال البندنيجي : قال الشافعي في مختصر الحج : أعاد ، وقال في القديم : عليه قيمته ، قال : وهذا مراده بالفصل الأول لأنه إتلاف لحم

( فرع ) في بيان الأيام المعلومات والمعدودات ذكرها الشافعي ، والمزني في المختصر وسائر الأصحاب في هذا الموضع ، وهو آخر كتاب [ ص: 350 ] الحج ، قال صاحب البيان : اتفق العلماء على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق ، وهي ثلاثة بعد يوم النحر ( وأما ) الأيام المعلومات فمذهبنا أنها العشر الأوائل من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر ، وقال مالك : هي ثلاثة أيام يوم النحر ويومان بعده ، فالحادي عشر والثاني عشر عنده من المعلومات والمعدودات . وقال أبو حنيفة : المعلومات ثلاثة أيام يوم عرفة والنحر والحادي عشر ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : المعلومات الأربعة يوم عرفة والنحر ويومان بعده . وفائدة الخلاف أن عندنا يجوز ذبح الهدايا والضحايا في أيام التشريق كلها ، وعند مالك لا يجوز في اليوم الثالث ، هذا كلام صاحب البيان ، وقال العبدري : فائدة وصفه بأنه معلوم جواز النحر فيه ، وفائدة وصفه بأنه معدود انقطاع الرمي فيه ، قال : وبمذهبنا قال أحمد وداود . وقال الإمام أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره : قال أكثر المفسرين : الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة ، قال : وإنما قيل لها معلومات للحرص على علمها من أجل أن وقت الحج في آخرها ، قال : وقال مقاتل : المعلومات أيام التشريق وقال محمد بن كعب : المعلومات والمعدودات واحد .

( قلت ) وكذا نقل القاضي أبو الطيب والعبدري وخلائق إجماع العلماء على أن المعدودات هي أيام التشريق .

( وأما ) ما نقله صاحب البيان عن ابن عباس فخلاف المشهور عنه ، فالصحيح المعروف عن ابن عباس أن المعلومات أيام العشر كمذهبنا ، وهو مما احتج به أصحابنا كما سأذكره قريبا إن شاء الله تعالى . واحتج لأبي حنيفة ومالك بأن الله تعالى قال { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } . وأراد بذكر اسم الله في الأيام المعلومات تسمية الله تعالى على الذبح ، [ ص: 351 ] فينبغي أن يكون ذكر اسم الله تعالى في جميع المعلومات . وعلى قول الشافعي لا يكون ذلك إلا في يوم واحد منها وهو يوم النحر . واحتج أصحابنا بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال " الأيام المعلومات أيام العشر ، والمعدودات أيام التشريق " رواه البيهقي بإسناد صحيح ، واستدلوا أيضا بما استدل به المزني في مختصره ، وهو أن اختلاف الأسماء يدل على اختلاف المسميات ، فلما خولف بين المعلومات والمعدودات في الاسم دل على اختلافهما ، وعلى ما يقول المخالفون يتداخلان في بعض الأيام .

( والجواب ) عن الآية من وجهين ( أحدهما ) جواب المزني أنه لا يلزم من سياق الآية وجود الذبح في الأيام المعلومات ، بل يكفي وجودها في آخرها وهو يوم النحر ، قال المزني والأصحاب : ونظيره قوله تعالى { وجعل القمر فيهن نورا } وليس هو نورا في جميعها ، بل هو في بعضها " الثاني " أن المراد بالذكر في الآية الذكر على الهدايا ، ونحن نستحب لمن رأى هديا أو شيئا من بهيمة الأنعام في العشر . أن يكبر والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية