صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( الأضحية سنة ، لما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان يضحي بكبشين } ، قال أنس : وأنا أضحي بهما ، وليست بواجبة ، لما روي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يرى ذلك واجبا ) .


( الشرح ) حديث أنس رواه البخاري بلفظه ، ورواه مسلم أيضا ولفظه عن أنس قال { ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ، ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ووضع رجله على صفحاتهما } ولم يذكر قول أنس ( وأنا أضحي بكبشين ) وذكره البخاري ، وأما الأثر المذكور عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فرواه البيهقي وغيره بإسناد حسن .

( أما الأحكام ) فقال الشافعي والأصحاب : التضحية سنة مؤكدة ، وشعار طاهر ينبغي للقادر عليها المحافظة عليها ، ولا تجب بأصل الشرع ، لما ذكره المصنف ، ولأن الأصل عدم الوجوب فإن نذرها لزمته كسائر الطاعات ، ولو اشترى بدنة أو شاة تصلح للتضحية بنية التضحية أو الهدي لم تصر بمجرد الشراء ضحية ولا هديا ، هذا هو الصواب الذي قطع به الأصحاب في كل الطرق . وفي تتمة التتمة وجه ، : أنها تصير ، قال الرافعي : [ ص: 353 ] هذا الوجه حصل عن غفلة ، وإنما هذا الوجه فيما إذا نوى في دوام الملك كما سنذكره إن شاء الله تعالى . قال الروياني لو قال : إن اشتريت شاة فلله علي أن أجعلها ضحية فهو نذر مضمون في الذمة ، فإذا اشترى شاة فعليه أن يجعلها ضحية ، ولا تصير بمجرد الشراء ضحية ، فلو عين فقال : إن اشتريت هذه الشاة فلله علي أن أجعلها ضحية فوجهان ( أحدهما ) لا يلزمه جعلها ضحية تغليبا لحكم التعيين ، فإنه التزمها قبل الملك ، والالتزام قبل الملك لغو ، كما لو علق طلاقا أو عتقا ( والثاني ) يلزمه تغليبا للنذر والأول أقيس ، .

( فرع ) قال الشافعي - رحمه الله - في كتاب الضحايا من البويطي : الأضحية سنة على كل من وجد السبيل من المسلمين من أهل المدائن والقرى وأهل السفر والحضر ، والحج بمنى وغيرهم من كان معه هدي ومن لم يكن معه هدي . هذا نصه بحروفه نقلته من نفس البويطي . وهذا هو الصواب أن التضحية سنة للحاج بمنى كما هو سنة في حق غيره . وأما قول العبدري : الأضحية سنة مؤكدة على كل من قدر عليها من المسلمين من أهل الأمصار والقرى والمسافرين إلا الحاجمنى ، فإنه لا أضحية في حقه ، لأن ما ينحر بمنى يكون هديا لا أضحية كما لا يخاطب بصلاة العيد بمنى من أجل حجه ، فهذا الذي استثناه العبدري شاذ باطل مردود مخالف لنص الشافعي الذي ذكرناه بل مخالف لظاهر الأحاديث ، وقد صرح القاضي أبو حامد في جامعه وغيره من أصحابنا بأن أهل منى كغيرهم في الأضحية كما نص عليه الشافعي ، وقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم { ضحى في منى عن نسائه بالبقر } والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : التضحية سنة على الكفاية في حق أهل البيت الواحد فإذا ضحى أحدهم حصل سنة التضحية في حقهم . قال [ ص: 354 ] الرافعي : الشاة الواحدة لا يضحى بها إلا عن واحد ، لكن إذا ضحى بها واحد من أهل بيت تأتى الشعار والسنة لجميعهم ، قال وعلى هذا حمل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم { ضحى بكبشين قال : اللهم تقبل من محمد وآل محمد } قال وكما أن الفرض ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية ، ذكر الأصحاب أن الضحية كذلك ، وأن التضحية مسنونة لكل أهل بيت . هذا كلام الرافعي . وقد حمل جماعة الحديث المذكور على الإشراك في الثواب ، وممن ذكر هذا صاحب العدة والشيخ إبراهيم المروروذي ، ومما يشبه قول الأصحاب : ، إن الأضحية سنة على الكفاية - قولهم : الابتداء بالسلام سنة على الكفاية ، وكذا تشميت العاطس ، وقد سبق بيان الجميع في أحكام السلام عقب باب هيئة الجمعة والله أعلم ومما يستدل به ، لكون التضحية سنة على الكفاية الحديث الصحيح في الموطإ . قال مالك عن عمارة بن عبد الله بن الصياد أن عطاء بن يسار أخبره أن أبا أيوب الأنصاري أخبره قال : { كنا نضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه ، وعن أهل بيته ، ثم تباهى الناس بعد فصارت مباهاة } هذا حديث صحيح ، والصحيح أن هذه الصيغة تقتضي أنه حديث مرفوع ، وقد سبق إيضاحها في مقدمة هذا الشرح . وقد اتفقوا على توثيق هؤلاء الرواة ، وعبد الله والد عمارة هذا ، قالوا : هو ابن الصياد الذي قيل إنه الدجال .

( فرع ) في مذاهب العلماء في الأضحية . ذكرنا أن مذهبنا أنها سنة مؤكدة في حق الموسر ولا تجب عليه ، وبهذا قال أكثر العلماء ، وممن قال به أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وبلال وأبو مسعود البدري وسعيد بن المسيب وعطاء وعلقمة والأسود ومالك وأحمد وأبو يوسف وإسحاق وأبو ثور والمزني وداود وابن المنذر [ ص: 355 ] وقال ربيعة والليث بن سعد وأبو حنيفة والأوزاعي : واجبة على الموسر إلا الحاج ، بمنى . وقال محمد بن الحسن : هي واجبة على المقيم بالأمصار ، والمشهور عن أبي حنيفة أنه إنما يوجبها على مقيم يملك نصابا . واحتج لمن أوجبها " بأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى " وقال الله تعالى { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } وبحديث أبي رملة بن مخنف - بكسر الميم وإسكان الخاء وفتح النون - قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن وقوف معه بعرفات يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة أتدرون ما العتيرة ؟ هذه التي يقول الناس الرجبية } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم ، قال الترمذي حديث حسن ، قال الخطابي : هذا الحديث ضعيف المخرج لأن أبا رملة مجهول . وعن جندب بن عبد الله بن سفيان رضي الله عنه قال { صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ثم خطب ثم ذبح وقال : من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها باسم الله } رواه البخاري ومسلم ، وموضع الدلالة أنه أمر والأمر للوجوب وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من وجد سعة لأن يضحي فلم يضح فلا يحضر مصلانا } رواه البيهقي وغيره وهو ضعيف " قال البيهقي عن الترمذي الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة .

وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد } رواه البيهقي وقال : تفرد به محمد بن ربيعة عن إبراهيم بن يزيد الخوزي وليسا بقويين . وعن عائذ الله المجاشعي عن أبي داود نفيع عن [ ص: 356 ] زيد بن أرقم أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم { ما هذه الأضاحي ؟ قال سنة : أبيكم إبراهيم صلى الله عليه وسلم قالوا : ما لنا فيها من الأجر ؟ قال : بكل قطرة حسنة } رواه ابن ماجه والبيهقي قال البيهقي : قال البخاري : عائذ الله المجاشعي عن أبي داود لا يصح حديثه ، وأبو داود هذا أيضا ضعيف . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { نسخ الأضحى كل ذبح ، وصوم رمضان كل صوم ، والغسل من الجنابة كل غسل والزكاة كل صدقة } رواه الدارقطني والبيهقي قالا : وهو ضعيف واتفق الحفاظ على ضعفه . وعن عائشة قالت { قلت : يا رسول الله أستدين وأضحي ؟ قال : نعم فإنه دين مقضي } رواه الدارقطني والبيهقي وضعفاه ، قالا : وهو مرسل . واحتج الشافعي والأصحاب بحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره شيئا } وفي رواية { إذا دخل العشر وعند أحدكم أضحية فلا يأخذن شعرا ولا يقلمن ظفرا } وفي رواية { إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك من شعره وأظفاره } رواه مسلم بكل هذه الألفاظ " قال الشافعي : هذا دليل أن التضحية ليست بواجبة " وأراد " فجعله مفوضا إلى إرادته ولو كانت واجبة لقال : صلى الله عليه وسلم لقوله فلا يمس من شعره حتى يضحي . واستدل أصحابنا أيضا بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { ثلاث هن علي فرائض ، وهن لكم تطوع ، النحر والوتر وركعتا الضحى } رواه البيهقي بإسناد ضعيف ، ورواه البيهقي أيضا في كتابه الخلافيات ، وصرح بضعفه . وصح عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما " أنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يعتقد الناس وجوبها " وقد سبق بيانه ورواه البيهقي بأسانيد أيضا عن ابن عباس وأبي مسعود البدري . [ ص: 357 ] قال أصحابنا : ولأن التضحية لو كانت واجبة لم تسقط بفوات إلى غير بدل كالجمعة وسائر الواجبات ، ووافقنا الحنفية على أنها إذا فاتت لا يجب قضاؤها . وأما الجواب عن دلائلهم مما كان منها ضعيفا لا حجة فيه ، وما كان صحيحا فمحمول على الاستحباب ، جمعا بين الأدلة ، والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية