صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ولا يجزئ ما فيه عيب ينقص اللحم ، كالعوراء والعمياء ( والجرباء والعرجاء التي تعجز عن المشي في المرعى ، لما روى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا يجزئ في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ضلعها والكسيرة التي لا تنقي } فنص على هذه الأربعة لأنها تنقص اللحم فدل على أن كل ما ينقص اللحم لا يجوز . ويكره أن يضحي بالجلحاء ، وهي التي لم يخلق لها قرن ، وبالعصماء وهي التي انكسر غلاف قرنها ، وبالعضباء وهي التي انكسر قرنها ، وبالشرقاء وهي التي انتقبت من الكي أذنها ، وبالخرقاء وهي التي تشق أذنها بالطول ، لأن ذلك كله يشينها . وقد روينا عن ابن عباس أن تعظيمها استحسانها ، فإن ضحى بما ذكرناه أجزأه لأن ما بها لا ينقص من لحمها ، فإن نذر أن يضحي بحيوان فيه عيب يمنع الإجزاء كالجرب وجب عليه ذبحه ولا يجزئه عن الأضحية ، فإن زال العيب قبل أن يذبح لم يجزئه عن الأضحية لأنه أزال الملك فيها بالنذر ، وهي لا تجزئ فلم يتغير الحكم بما يحدث فيها كما لو أعتق بالكفارة عبدا أعمى ثم صار بعد العتق بصيرا ) .


( الشرح ) حديث البراء رضي الله عنه صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد حسنة ، قال أحمد بن حنبل : ما أحسنه من حديث . وقال الترمذي حديث حسن صحيح . وقوله ( عيب ينقص اللحم ) بفتح الياء وإسكان النون وضم القاف . وقوله صلى الله عليه وسلم " البين ضلعها " فهو بفتح الضاد المعجمة واللام ، وهو العرج وقوله ( التي لا تنقي ) بضم التاء وإسكان النون وكسر القاف ، أي التي لا نقي لها ، بكسر النون وإسكان القاف وهو المخ . وقوله ( هذه الأربعة ) يعني [ ص: 373 ] الأمراض وقوله ( نقص اللحم ) بتخفيف القاف والجلحاء بالمد وكذا العصماء ، وهي بفتح العين والصاد المهملتين ، وكذلك العضباء بفتح العين وإسكان الضاد المعجمة . والشرقاء والخرقاء بالمد أيضا . وقوله " يشينها " بفتح أوله . وهذا التفسير الذي ذكره المصنف في الشرقاء والخرقاء مما أنكر عليه وغلطوه فيه ، بل الصواب المعروف في الشرقاء أنها المشقوقة الأذن ، والخرقاء التي في أذنها ثقب مستدير ، والله أعلم .

( أما الأحكام ) ففيه مسائل ( إحداها ) لا تجزئ التضحية بما فيه عيب ينقص اللحم كالمريضة ، فإن كان مرضها يسيرا لم يمنع الإجزاء ، وإن كان بينا يظهر بسببه الهزال وفساد اللحم لم يجزه ، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور . وحكى ابن كج قولا شاذا أن المرض لا يمنع بحال ، وأن المرض المذكور في الحديث المراد به الجرب . وحكي وجه أن المرض يمنع الإجزاء ، وإن كان يسيرا ، وحكاه في الحاوي قولا قديما . وحكي وجه في الهيام - بضم الهاء وتخفيف الياء - خاصة أنه يمنع الإجزاء ، وهو من أمراض الماشية ، وهو أن يشتد عطشها فلا تروى من الماء قال أهل اللغة : هو داء يأخذها فتهيم في الأرض لا ترعى ، وناقة هيماء بفتح الهاء والمد ، والله أعلم .

( الثانية ) الجرب يمنع الإجزاء كثيره وقليله ، كذا قاله الجمهور ، ونص عليه في الجديد لأنه يفسد اللحم . والودك ، وفيه وجه شاذ أنه لا يمنع إلا إذا كثر كالمرض ، واختاره إمام الحرمين والغزالي والمذهب الأول . وسواء في المرض والجرب ما يرجى زواله وما لا يرجى .

( الثالثة ) العرجاء إن اشتد عرجها بحيث تسبقها الماشية إلى الكلأ الطيب ، وتتخلف عن القطيع لم تجزئ ، وإن كان يسيرا لا يخلفها عن الماشية لم يضر . فلو انكسر بعض قوائمها فكانت تزحف بثلاث لم [ ص: 374 ] تجزئ . ولو أضجعها ليضحي بها وهي سليمة فاضطربت وانكسرت رجلها أو عرجت تحت السكين لم تجزه على أصح الوجهين لأنها عرجاء عند الذبح . فأشبه ما لو انكسرت رجل شاة فبادر إلى التضحية بها فإنها لا تجزئ .

( الرابعة ) لا تجزئ العمياء ولا العوراء التي ذهبت حدقتها وكذا إن بقيت حدقتها في أصح الوجهين لفوات المقصود وهو كمال النظر . وتجزئ العشواء على أصح الوجهين ، وهي التي تبصر بالنهار دون الليل لأنها تبصر وقت الرعي . فأما العمش وضعف بصر العينين جميعا قطع الجمهور بأنه لا يمنع . وقال الروياني إن غطى الناظر بياض أذهب أكثره منع وإن أذهب أقله لم يمنع على أصح الوجهين .

( الخامسة ) العجفاء التي ذهب مخها من شدة هزالها لا تجزئ بلا خلاف وإن كان بها بعض الهزال ولم يذهب مخها أجزأت . كذا أطلقه الأكثرون . وقال الماوردي : إن كانت خلقيا فالحكم كذلك . وإن كان لمرض منع الإجزاء لأنه ذاهب بجزء منها . وقال إمام الحرمين : كما لا يعتبر السمن البالغ للإجزاء لا يعتبر العجف البالغ للمنع . قال : وأقرب معتبر أن يقال إن كان لا يرغب في لحمها الطبقة العالية من طلبة اللحم في حالة الرخاء منعت .

( السادسة ) ورد النهي عن الثولاء وهي المجنونة التي تستدير في الرعي ولا ترعى إلا قليلا فتهزل فلا تجزئ بالاتفاق

( السابعة ) يجزئ الفحل وإن كثر نزوانه والأنثى وإن كثرت ولادتها ولم يطب لحمها إلا إذا انتهيا إلى العجف البين .

[ ص: 375 ] الثامنة ) لا تجزئ مقطوعة الأذن ، فإن قطع بعضها نظر ، فإن لم يبن منها شيء بل شق طرفها وبقي متدليا لم يمنع على الأصح من الوجهين ، وقال القفال : يمنع ، وحكاه الدارمي عن ابن القطان . وإن أبين فإن كان كثيرا بالإضافة إلى الأذن منع بلا خلاف ، وإن كان يسيرا منع أيضا على أصح الوجهين لفوات جزء مأكول . قال إمام الحرمين : وأقرب ضبط بين الكثير واليسير أنه إن لاح النقص من البعد فكثير ، وإلا فقليل .

( التاسعة ) لا يمنع الكي في الأذن وغيرها على المذهب وبه قطع الجمهور . وقيل في منعه وجهان لتصلب الموضع . وتجزئ صغيرة الأذن ولا تجزئ التي لم يخلق لها أذن على المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وفيه وجه ضعيف أنها تجزئ حكاه الدارمي وغيره .

( العاشرة ) لا يجزئ التي أخذ الذئب مقدارا بينا من فخذها بالإضافة إليه ولا يمنع قطع الفلقة اليسيرة من عضو كبير . ولو قطع الذئب أو غيره أليتها أو ضرعها لم تجزئ على المذهب ، وبه قطع الجمهور . وقيل : فيه وجهان ، وتجزئ المخلوقة بلا ضرع أو بلا ألية على أصح الوجهين ، كما يجزئ الذكر من المعز بخلاف التي لم يخلق لها أذن لأن الأذن عضو لازم غالبا ، والذنب كالألية ، وقطع بعض الألية أو الضرع كقطع كله ، ولا تجزئ مقطوعة بعض اللسان .

( الحادية عشرة ) يجزئ الموجوء والخصي كذا قطع به الأصحاب وهو الصواب . وشذ ابن كج فحكى في الخصي قولين ، وجعل المنع هو قول الجديد وهذا ضعيف منابذ للحديث الصحيح ( فإن قيل ) فقد فات منه الخصيتان ، وهما مأكولتان ( قلنا ) ليستا مأكولتين في العادة بخلاف الأذن ولأن ذلك ينجبر بالسمن الذي يتجدد فيه بالإخصاء ، فإنه إنما جاء في الحديث أنه ضحي بموجوءين وهما المرضوضان ولا يلزم منه [ ص: 376 ] جواز الخصي الذي ذهبت خصياه فإنهما بالرض صارتا كالمعدومتين وتعذر أكلهما . .

( الثانية عشرة ) تجزئ التي لا قرن لها ومكسورة القرن سواء دمي قرنها أم لا . قال القفال : إلا أن يؤثر ألم الانكسار في اللحم فيكون كالجرب وغيره . وذات القرن أفضل للحديث الصحيح { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أقرنين } ولقول ابن عباس : " تعظيمها استحسانها " . .

( الثالثة عشرة ) تجزئ ذاهبة بعض الأسنان فإن انكسرت جميع أسنانها أو تناثرت فقد أطلق البغوي وآخرون أنها لا تجزئ . وقال إمام الحرمين : قال المحققون : تجزئ ، قيل : لا تجزئ وقال بعضهم إن كان ذلك لمرض أو كان يؤثر في الاعتلاف وينقص اللحم منع وإلا فلا ، قال الرافعي : وهذا حسن ، ولكنه يؤثر بلا شك ، فرجع الكلام إلى المنع المطلق ، هذا كلام الرافعي ، والصحيح المنع مطلقا ، وفي الحديث : نهي عن المشيعة ، قال صاحب البيان : هي المتأخرة عن الغنم ، فإن كان ذلك لهزال أو علة منع ; لأنها عجفاء ، وإن كان عادة وكسلا لم يمنع ، والله أعلم . .

( الرابعة عشرة ) قال أصحابنا : العيوب ضربان ، ضرب يمنع الإجزاء وضرب لا يمنعه ، لكن يكره ( فأما ) الذي يمنعه فسبق بيانه وتفصيله ، والمتفق عليه منه والمختلف فيه ( وأما ) الذي لا يمنعه ، بل يكره فمنه مكسورة القرن وذاهبته . ويقال التي لم يخلق لها قرن : جلحاء . والتي انكسر ظاهر قرنها عصماء والعضباء هي مكسورة ظاهر القرن وباطنه ، هذا مذهبنا ، وقال النخعي : لا تجوز الجلحاء ، وقال مالك : إن دمي قرن العضباء لم تجزئ وإلا فتجزئ دليلنا أنه لا يؤثر في اللحم ( ومنه ) المقابلة والمدابرة يكرهان ويجزئان ، وهما - بفتح الباء فيهما - قال جمهور العلماء من أهل اللغة وغريب الحديث والفقهاء : المقابلة التي قطع من [ ص: 377 ] مقدم أذنها فلقة وتدلت في مقابلة الأذن ولم ينفصل ، والمدابرة التي قطع من مؤخر أذنها فلقة وتدلت منه ، ولم تنفصل ، والفلقة الأولى تسمى الإقبالة والأخرى تسمى الإدبارة . وقال أبو عبيد معمر بن المثنى في كتابه غريب الحديث : المقابلة الموسومة بالنار في باطن أذنها ، والمدابرة في ظاهر أذنها والمشهور الأول ، ودليل المسألة حديث علي رضي الله عنه قال { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ، ولا نضحي بعوراء ، ولا مقابلة ، ولا مدابرة ولا شرقاء ، ولا خرقاء } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وسبق تفسير الخرقاء والشرقاء في أول كلام المصنف ومعنى نستشرف العين أي نشرف عليها ونتأملها ، وقد قدمنا أن هذه العيوب كلها لا تمنع الإجزاء ، ونقله صاحب البيان عن أصحابنا العراقيين ثم قال : وقال المسعودي يعني صاحب الإبانة في إجزائها وجهان والله أعلم . .

[ ص: 378 ] الخامسة عشرة ) إذا نذر التضحية بحيوان معين فيه عيب يمنع الإجزاء لزمه ، أو قال : جعلت هذه أضحية لزمه ذبحها لالتزامه ويثاب على ذلك . وإن كان لا يقع أضحية كمن أعتق عن كفارة معيبا يعتق ويثاب عليه وإن كان لا يجزئ عن الكفارة . قال : قال أصحابنا : ويكون ذبحها قربة وتفرقة لحمها صدقة ، ولا تجزئ عن الهدايا والضحايا المشروعة ; لأن السلامة شرط لها ، وهل يختص ذبحها بيوم النحر ، وتجري مجرى الأضحية في المصرف ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا ; لأنها ليست أضحية بل شاة لحم يجب التصدق به ، فتصير كمن نذر التصدق بلحم ( وأصحهما ) نعم ; لأنه التزمها باسم الأضحية ، ولا محمل لكلامه إلا هذا . فعلى هذا . لو ذبحها قبل يوم النحر تصدق بلحمها . ولا يأكل منه شيئا وعليه قيمتها يتصدق بها ولا يشتري أخرى ; لأن المعيب لا يثبت في الذمة . ذكره البغوي وغيره والله أعلم .

قال أصحابنا : ولو أشار إلى ظبية وقال : جعلت هذه أضحية فهو لغو لا يلزم به شيء بلا خلاف . ; لأنها ليست من جنس الضحايا ، ولو أشار إلى فصيل أو سخلة وقال : جعلت هذه أضحية فهل هو كالظبية ؟ أم كالمعيب فيه وجهان ( أصحهما ) كالمعيب . ; لأنها من جنس الحيوان الصالح للأضحية ( أما ) إذا أوجبه معيبا ثم زال العيب فهل يجزئ ذبحه عن الأضحية ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) وبه قطع المصنف وآخرون : لا لما ذكره المصنف ( والثاني ) يجزئ لكماله وقت الذبح وحكى بعض الأصحاب هذا قولا قديما والله أعلم .

( فرع ) العيوب ستة أقسام : عيب الأضحية والهدي والعقيقة وعيب المبيع والمستأجرة وأحد الزوجين ورقبة الكفارة والغرة الواجبة في الجنين وحدودها مختلفة فعيب الأضحية المانع من إجزائها ما نقص اللحم . وعيب المبيع ما نقص القيمة أو العين كالخصاء . وعيب الإجارة [ ص: 379 ] ما يؤثر في المنفعة تأثيرا يظهر به تفاوت الأجرة لا ما يظهر به تفاوت الرقبة ; لأن العقد على المنفعة دون الرقبة ، وعيب النكاح ما نفر صورة التواق ، وهو سبعة أشياء الجنون والجذام والبرص والجب والتعنين والقرن والرتق ، وعيب الكفارة ما أضر بالعمل إضرارا بينا ، وعيب الغرة كعيب المبيع ، فهذا تقريب ضبطها ، وهي مذكورة مبسوطة في مواضعها من هذه الكتب ، والله أعلم . .

( فرع ) في مذاهب العلماء في عيوب الأضحية . أجمعوا على أن العمياء لا تجزئ ، وكذا العوراء البين عورها ، والعرجاء البين عرجها ، والمريضة البين مرضها ، والعجفاء ، واختلفوا في ذاهبة القرن ومكسورته ، فمذهبنا أنها تجزئ ، قال مالك : إن كانت مكسورة القرن وهو يدمى لم تجزه وإلا فتجزئه ، وقال أحمد : إن ذهب أكثر من نصف قرنها لم تجزه سواء دميت أم لا . وإن كان دون النصف أجزأه ، وأما مقطوعة الأذن فمذهبنا أنها لا تجزئ ، سواء قطع [ الأذن ] كلها أو بعضها ، وبه قال مالك وداود ، وقال أحمد إن قطع أكثر من النصف لم تجزه ، وإلا فتجزئه . وقال أبو حنيفة إن قطع أكثر من الثلث لم تجزه ، وقال أبو يوسف ومحمد : إن بقي أكثر من نصف أذنها أجزأت ( وأما ) مقطوعة بعض الألية فلا تجزئ عندنا ، وبه قال مالك وأحمد ، وقال أبو حنيفة في رواية إن بقي الثلث أجزأت ، وفي رواية إن بقي أكثرها أجزأت وقال داود : تجزئ بكل حال ( وأما ) إذا أضجعها ليذبحها فعالجها فأعورت حال الذبح فلا تجزئ ، وقال أبو حنيفة وأحمد : تجزئ والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية