صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويجب بالنذر جميع الطاعات المستحبة ، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } وأما المعاصي كالقتل والزنا ، وصوم يوم العيد ، وأيام الحيض ، والتصدق بما لا يملكه ، فلا يصح نذره ، لما روى عمران بن الحصين رضي الله عنه أن النبي قال { لا نذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملكه ابن آدم } ولا يلزمه بنذرها كفارة ، وقال الربيع : إذا نذرت المرأة صوم أيام الحيض وجب عليها كفارة يمين ، ولعله خرج ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم { كفارة النذر كفارة يمين } والمذهب الأول ، والحديث متأول .

( وأما ) المباحات كالأكل والشرب فلا تلزم بالنذر ، لما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل قائم في الشمس لا يستظل فسأل عنه فقيل : هذا أبو إسرائيل نذر أن يقف ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ، فقال مروه فليقعد وليستظل ، وليتكلم ، ويتم صومه } ) .


( الشرح ) أما حديث عائشة فرواه البخاري .

وحديث عمران بن الحصين رواه مسلم .

وحديث { كفارة النذر كفارة يمين } رواه مسلم في صحيحه من رواية عقبة بن عامر ( وأما ) حديث أبي إسرائيل فصحيح ، رواه البخاري في صحيحه من رواية ابن عباس ، ويقع في بعض النسخ أبو إسرائيل وهو الصواب ، وفي بعضها ابن إسرائيل وهو غلط صريح ، وليس في الصحابة أحد يكنى أبا إسرائيل غيره والله تعالى أعلم .

( أما أحكام الفصل ) فقال أصحابنا : الملتزم بالنذر ثلاثة أضرب - معصية ، وطاعة ، ومباح ( الأول ) المعصية كنذر شرب الخمر أو الزنا أو القتل أو الصلاة في حال الحدث ، أو الصوم في حال الحيض ، أو القراءة [ ص: 437 ] في حال الجنابة ، أو نذر ذبح نفسه أو ولده وشبه ذلك فلا ينعقد نذره ، فإذا لم يفعل المعصية المنذورة فقد أحسن ولا كفارة عليه . هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والجمهور ، وفي القول الذي حكاه المصنف عن الربيع أنه يلزمه الكفارة ، واختاره الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي للحديث المذكور { كفارة النذر كفارة يمين } وحمل الجمهور هذا الحديث على نذر اللجاج والغضب ، قالوا : ورواية الربيع من تخريجه لا من كلام الشافعي ، قال الرافعي : وحكى بعضهم هذا الخلاف وجهين ، والله أعلم .

( الضرب الثاني ) الطاعة وهي ثلاثة أنواع ( الأول ) الواجبات فلا يصح نذرها ; لأنها واجبة بإيجاب الشرع فلا معنى لالتزامها ، وذلك كنذر الصلوات الخمس وصوم رمضان والزكاة ونحوها . وكذا لو نذر ترك المحرمات بأن نذر أن لا يشرب الخمر ولا يزني ولا يغتاب لم يصح نذره ، سواء علقه على حصول نعمة أو اندفاع نقمة أو التزمه ابتداء ، وإذا خالف ما ذكره ففي لزوم الكفارة الخلاف السابق في المعصية ، والمذهب أنها لا تجب . وادعى البغوي أن الأصح هنا وجوبها ، والصحيح الأول .

( النوع الثاني ) نوافل العبادات المقصودة ، وهي المشروعة للتقرب بها وعلم من الشارع الاهتمام بتكليف العباد إيقاعها ، كالصوم والصلاة والصدقة والحج والاعتكاف والعتق ونحوها ، فهذه تلزم بالنذر بلا خلاف لما ذكره المصنف . قال إمام الحرمين : وفروض الكفاية التي يحتاج في أدائها إلى بذل مال أو مقاساة مشقة تلزم بالنذر ، وذلك كالجهاد وتجهيز الموتى ، قال الرافعي : ويجيء مما سنذكره في السنن الراتبة إن شاء الله تعالى وجه أنها لا تلزم ، وقال القفال : لا يلزم الجهاد بالنذر ، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما ليس فيه بذل مال ولا مقاساة مشقة ، ففيه وجهان ( أصحهما ) لزومها بالنذر ( والثاني ) لا . .

[ ص: 438 ] فرع ) كما يلزم أصل العبادة بالنذر يلزم الوفاء بالصفة المستحبة فيها إذا اشترطت في النذر ، كمن شرط في الصلاة المنذورة إطالة القيام أو الركوع أو السجود ، أو شرط المشي في الحجة المنذورة ، إذا قلنا المشي في الحج أفضل من الركوب ، فلو أفردت الصفة بالنذر وكان الأصل واجبا شرعا كتطويل القراءة والركوع والسجود في الفرائض ، أو أن يقرأ في الصبح مثل سورة كذا ، أو أن يصلي الفرض في جماعة ، وجهان ( أصحهما ) لزومها ; لأنها طاعة ( والثاني ) لا ، لئلا تغير مما وضعها الشرع عليه . ولو نذر فعل السنن الراتبة كالوتر وسنة الصبح وسنة الظهر فعلى الوجهين ( الأصح ) اللزوم . ولو نذر صوم رمضان في السفر فوجهان ( أحدهما ) وبه قطع الغزالي في الوجيز ، ونقله إبراهيم المروروذي عن عامة الأصحاب ، لا ينعقد نذره وله الفطر ; لأنه التزام يبطل رخصة الشرع .

( والثاني ) وهو اختيار القاضي حسين والبغوي ينعقد ويجب الوفاء به كسائر المستحبات . هكذا أطلقوه ، والظاهر أنهم أرادوا من لا يتضرر بالصوم في السفر فإنه له أفضل فيصح نذره ، أما من يتضرر به فالفطر له أفضل فلا ينعقد نذره ; لأنه ليس بقربة . قال أصحابنا : ويجرى الوجهان فيمن نذر إتمام الصلاة في السفر إذا قلنا الإتمام أفضل ، ويجريان فيمن نذر القيام في النوافل أو استيعاب الرأس بالمسح أو التثليث في الوضوء أو الغسل ، أو أن يسجد للتلاوة أو الشكر عند مقتضيهما . قال إمام الحرمين : وعلى مساق الوجه الأول لو نذر المريض القيام في الصلاة وتكلف المشقة أو نذر صوما وشرط أن لا يفطر بالمرض لم يلزمه الوفاء ; لأن الواجب بالنذر لا يزيد على الواجب شرعا ، والمرض مرخص . .

( النوع الثالث ) القربات التي تشرع لكونها عبادات ، وإنما هي أعمال وأخلاق مستحسنة رغب الشرع فيها لعظم فائدتها ، وقد يبغى بها [ ص: 439 ] وجه الله تعالى فينال الثواب فيها ، وذلك كعيادة المرضى وزيارة القادمين ، وإفشاء السلام بين المسلمين ، وتشميت العاطس ، وفي لزومها بالنذر وجهان ( الصحيح ) اللزوم لعموم حديث { من نذر أن يطيع الله فليطعه } ( والثاني ) لا لئلا تخرج عما وضعها الشرع عليه . وفي لزوم تجديد الوضوء بالنذر وجهان ( الأصح ) اللزوم لما ذكره المصنف قال المتولي : ولو نذر الاغتسال لكل صلاة لزمه الوفاء . قال الرافعي : الصواب أن يبنى على تجديد الغسل هل يستحب ؟ قال المتولي : ولو نذر الوضوء انعقد نذره ولا يخرج عنه بالوضوء عن حدث بل بالتجديد ، وكذا جزم بانعقاد نذره القاضي حسين وغيره . وذكر البغوي فيه وجهين ( أصحهما ) هذا ( والثاني ) لا ينعقد نذره ، واتفقوا على أنه لا يخرج عنه إلا بالتجديد . ومرادهم تجديد الوضوء حيث يشرع تجديده وهو أن يكون قد صلى بالأول صلاة ما . هذا هو الأصح ، وفيه أوجه سبقت في آخر باب صفة الوضوء .

قال المتولي : ولو نذر أن يتوضأ لكل صلاة لزمه الوضوء لكل صلاة ، وإذا توضأ لها عن حدث لا يلزمه الوضوء لها ثانيا ، بل يكفي الوضوء الواحد عن واجبي الشرع والنذر . قال : ولو نذر التيمم لم ينعقد على الصحيح . قال : ولو نذر أن لا يهرب من ثلاثة فصاعدا من الكفار ، فإن علم من نفسه القدرة على مقاومتهم انعقد نذره ولزمه الوفاء وإلا فلا . وفي كلام إمام الحرمين أنه لا يلزم بالنذر الكفاف قط حتى لو نذر أن لا يفعل مكروها لا ينعقد نذره ، ولو نذر أن يحرم بالحج من شوال أو من بلد كذا لزمه على أصح الوجهين .

( الضرب الثالث ) المباح وهو الذي يجوز فعله وتركه شرعا ، فلم يرد فيه ترغيب ولا ترهيب ، كالأكل والنوم والقيام والقعود ، فلو نذر فعله أو تركه لم ينعقد نذره ، قال أصحابنا : وقد يقصد بالأكل التقوي على [ ص: 440 ] العبادة ، وبالنوم النشاط للتهجد وغيره ، فيحصل الثواب بهذه النية ، لكن الفعل غير موضوع لذلك ، وإنما حصل الثواب بالنية الصالحة . وهل يكون نذر المباح يمينا يوجب الكفارة عند المخالفة فيه الخلاف السابق في نذر المعاصي والفرائض ، وقطع القاضي حسين بوجوب الكفارة في المباح ، وذكر في المعصية وجهين وعلق الكفارة باللفظ من غير حنث قال الرافعي : وهذا لا يتحقق ثبوته ، والصواب في كيفية الخلاف ما قدمناه ، والصواب على الجملة أنه لا كفارة مطلقا لا عند المخالفة ولا غيرها في نذر المعصية والفرض والمباح ، والله أعلم . .

( فرع ) لو نذر الجهاد في جهة بعينها ففي تعينها أوجه مشهورة ( أحدها ) وهو قول ابن القاص صاحب التلخيص تتعين لاختلاف الجهات ( والثاني ) قاله أبو زيد : لا تتعين ، بل يجزئه أن يجاهد في جهة أسهل وأقرب منها ، كما لو نذر الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة ، فإن له أن يصلي في غيره ( والثالث ) وهو الأصح ، وبه قال الشيخ أبو علي السنجي لا تتعين ، لكن يجب أن تكون التي يجاهد فيها كالمعينة في المسافة والمؤنة ، فيحصل مسافة الجهات كمسافة مواقيت الحج . .

( فرع ) قال أصحابنا : يشترط في نذره القربة المالية كالصدقة والأضحية والإعتاق أن يلتزمها في الذمة يضيف إلى معين يملكه فإن المعين لغيره لا ينعقد نذره قطعا ، ولا كفارة عليه على المذهب ، وبه قطع الجمهور . وذكر المتولي في لزومها وجهين ، وهو شاذ . قال المتولي : ولو قال : إن ملكت عبدا فلله علي أن أعتقه انعقد نذره ، قال ولو قال : إن ملكت عبد فلان فلله علي أن أعتقه انعقد نذره في أصح الوجهين ( والثاني ) لا ينعقد ، والقولان فيما إذا قصد الشكر على حصول الملك ، فإن قصد الامتناع من تملكه فهو نذر لجاج ، وسنوضحه إن شاء الله تعالى . .

[ ص: 441 ] قال : لو قال : إن شفى الله مريضي وملكت عبدا فلله علي أن أعتقه ، أو إن شفى الله مريضي فلله أن أعتق عبدا إن ملكته انعقد نذره ، قال ولو قال : إن شفى الله مريضي فكل عبد أملكه حر ، أو فعبد فلان حر إن ملكته ، لم ينعقد نذره قطعا ; لأنه لم يلتزم التقرب بقربة ، لكنه علق الحرية بعد حصول النعمة بشرط وليس هو مالكا في حال التعليق فلغا تعليقه ، كما لو قال : إن ملكت عبدا أو عبد فلان فهو حر ، فإنه لا يصح قطعا . قال ولو قال : إن شفى الله مريضي فعبدي حر إن دخل الدار ، انعقد نذره قطعا ; لأنه مالك ، وقد علقه بصفتين الشفاء والدخول ، قال ولو قال : إن شفى الله مريضي فلله علي أن أشتري عبدا وأعتقه انعقد نذره قطعا ، والله أعلم .

( فرع ) قال البغوي في باب الاستسقاء : لو نذر الإمام أن يستسقي لزمه أن يخرج بالناس ويصلي بهم ، قال ولو نذر واحد من الناس لزمه أن يصلي منفردا وإن نذر أن يستسقي بالناس لم ينعقد ; لأنهم لا يطيعونه ، ولو نذر أن يخطب وهو من أهله لزمه ، وهل له أن يخطب قاعدا مع استطاعته القيام ؟ فيه الخلاف الذي سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى في أن النذر يسلك به مسلك واجب الشرع أو مسلك جائزه ؟ والله أعلم . .

( فرع ) سئل الغزالي رحمه الله في فتاويه عما لو قال البائع للمشتري : إن خرج المبيع مستحقا فلله علي أن أهبك مائة دينار ، هل يصح هذا النذر ؟ وإن حكم حاكم بصحته هل يلزمه ؟ فأجاب بأن المباحات لا تلزم بالنذر ، وهذا مباح ولا يؤثر فيه قضاء القاضي إلا إذا نقل مذهب معتبر في لزوم ذلك النذر .

( فرع ) نقل القاضي أبو القاسم بن كج وجهين فيمن قال : إن شفى الله مريضي فلله علي أن أذبح عن ابني ، هل يلزمه الذبح عن ولده لكون الذبح عن الأولاد قربة ؟ ووجهين فيمن قال : إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعجل زكاة مالي هل يصح نذره ؟ ووجهين فيمن قال : إن شفى الله [ ص: 442 ] مريضي فلله علي أن أذبح ابني ، فإن لم يجز فشاة مكانه هل يلزمه ذبح شاة ؟ ووجهين فيما إذا نذر النصراني أن يصوم أو يصلي ثم أسلم هل يلزمه أن يصلي ويصوم صلاة شرعنا وصومه ؟ هذا نقل ابن كج والأصح صحة النذر في الصورة الأولى ، وبطلانه في الصور الثلاث الباقية ، والله تعالى أعلم .

( فرع ) لو نذر أن يكسو يتيما . قال الرافعي : قال بعضهم : لا يخرج عن نذره باليتيم الذمي ; لأن مطلقه في الشرع يقع للمسلم ، هذا نقل الرافعي ، وينبغي أن يكون فيه خلاف مبني على أنه يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع أو مسلك جائزه ، كما لو نذر إعتاق رقبة إن قلنا مسلك جائزه جاز صرفه إلى الذمي ، وإلا فلا . .

( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن نذر شرب الخمر أو الزنا أو نحو ذلك من المعاصي . قد ذكرنا أن مذهبنا أن نذره باطل ، ولو خالفه فلا كفارة ، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وداود . وقال أحمد : ينعقد ولا يجوز فعله ، بل يجب كفارة يمين ، وقد ذكر المصنف دليل المذهبين . واحتج أحمد أيضا بحديث عن عائشة مرفوعا { لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين } ونحوه من رواية عمران بن الحصين رواهما البيهقي وغيره وضعفهما واتفق الحفاظ على تضعيف هذا الحديث بهذا اللفظ ، فلا حجة فيه .

( فرع ) إذا نذر صوم يوم الفطر أو الأضحى أو التشريق ، وقلنا [ ص: 443 ] بالمذهب إنه لا يجوز صوم التشريق لم ينعقد نذره ولم يلزمه بهذا النذر شيء . هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد وجماهير العلماء . وخالفهم أبو حنيفة فقال : ينعقد نذره ولا يصوم ذلك ، بل يصوم غيره . قال : فإن صامه أجزأه وسقط عنه به فرض نذره . دليلنا الحديث الصحيح السابق { ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه } .

( فرع ) إذا نذر ذبح ابنه أو بنته أو نفسه أو أجنبي لم ينعقد نذره ولا شيء عليه . وبهذا قال داود وأحمد في إحدى الروايتين عنه . وقال مالك : إذا نذر ذبح ابنه في يمين أو على وجه القربة لزمه الهدي . وقال أبو حنيفة وأحمد في أصح الروايتين عنه : ينعقد نذره ويلزمه ذبح شاة للمساكين قال أبو حنيفة : ولو نذر ذبح عبده لا يلزمه شيء . وقال أبو يوسف : لا يلزمه شيء في المسألتين . دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم { لا نذر في معصية } وهو حديث صحيح كما سبق بيانه ، وأما إيجاب الشاة فتحكم لا أصل له .

( فرع ) إذا نذر مباحا كلبس وركوب لم ينعقد عندنا ، وبه قال مالك وأبو حنيفة وداود والجمهور . وقال أحمد : ينعقد ويلزمه كفارة يمين . دليلنا أنه ليس بقربة والوفاء به لا يجب بالإجماع فلم ينعقد والله أعلم . .

التالي السابق


الخدمات العلمية