صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى " إذا نذر أن يتصدق بماله لزمه أن يتصدق بالجميع ، لقوله صلى الله عليه وسلم { من نذر أن يطيع الله فليطعه } وإن نذر أن يعتق رقبة ففيه وجهان ( أحدهما ) يجزئه ما يقع عليه الاسم اعتبارا بلفظه ( والثاني ) لا يجزئه إلا ما يجزئ في الكفارة [ ص: 450 ] لأن الرقبة التي يجب عتقها بالشرع ما يجب بالكفارة فحمل النذر عليه وإن نذر أن يعتق رقبة بعينها لزمه أن يعتقها ، ولا يزول ملكه عنها حتى يعتقها ، فإن أراد بيعها أو إبدالها بغيرها لم يجز ; لأنه تعين للقربة فلا يملك بيعه كالوقف ، وإن تلف أو أتلفه لم يلزمه بدله ; لأن الحق للعبد فسقط بموته ، وإن أتلفه أجنبي وجبت القيمة للمولى ولا يلزمه صرفها في عبد آخر لما ذكرناه .


( الشرح ) الحديث المذكور صحيح سبق بيانه أول الكتاب ، ثم في الفصل مسائل : ( إحداها ) إذا نذر أن يتصدق بماله لزمه الصدقة بجميع ماله لما ذكره المصنف وقال أحمد في إحدى الروايتين عنه : يكفيه أن يتصدق بثلثه . دليلنا أن اسم المال يقع على الجميع . أما إذا قال مالي صدقة فقد سبق بيانه مع ما يتعلق به قريبا . ولو قال : إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بشيء صح نذره ويجزئه التصدق بما شاء من قليل وكثير . ونقل الرافعي أنه لو قال : لله علي ألف ولم يعين شيئا باللفظ ولا بالنية لم يلزمه شيء . .

( الثانية ) إذا نذر إعتاق رقبة فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) يجزئه إعتاق ما يسمى رقبة ، وإن كانت معيبة وكافرة ، وهو ظاهر نص الشافعي ، فإنه قال : أعتق رقبة أية رقبة كانت ( والثاني ) لا يجزئه إلا ما يجزئ في الكفارة وهي المؤمنة السليمة . وبنى أصحابنا هذا الخلاف على أصل مفهوم من معاني كلام الشافعي رحمه الله ، وهو أن الناذر إذا التزم عبادة بالنذر وأطلقها فلم يصفها فعلى أي شيء يحمل نذره ؟ وفيه قولان مفهومان من معاني كلام الشافعي ( أحدهما ) ينزل على أقل واجب من جنسه يجب بأصل الشرع ، ; لأن المنذور واجب فجعل كواجب الشرع ابتداء ( والثاني ) ينزل على أقل ما يصح من جنسه وقد يقولون : على أقل جائز الشرع ; لأن لفظ الناذر لا يقتضي زيادة عليه ، والأصل براءته . قال الرافعي : وهذا الثاني أصح [ ص: 451 ] عند إمام الحرمين والغزالي ، قال : والأول هو الصحيح عند العراقيين والروياني وغيرهم .

( قلت ) : الصواب أن يقال : إن الصحيح يختلف باختلاف المسائل ، ففي بعضها يصححون القول الأول وفي بعضها الثاني ، وهذا ظاهر يعلم من استقراء كلام الأصحاب في المسائل المخرجة على هذا الأصل فمن ذلك من نذر صوما ، الأصح وجوب تبييت النية ترجيحا للقول الأول ، وقطع به كثيرون ، ولو نذر صلاة لزمه ركعتان على الصحيح باتفاقهم ، ترجيحا للقول الأول أيضا ، وكذا لا يجوز الجمع بين صلاتين منذورتين بتيمم واحد على الصحيح باتفاقهم ترجيحا للقول الأول وغير ذلك من المسائل التي رجح فيها القول الأول ، ومما رجح فيه القول الثاني ما لو نذر إعتاق رقبة فإن الأصح أنه يجزئ المعيبة والكافرة ترجيحا للقول الثاني فحصل أن الصحيح يختلف باختلاف الصور . ويجوز أن يقال : مراد الجمهور بتصحيح القول الأول أنه الأصح مطلقا إلا في مسألة الاعتكاف ، وإنما اختلف الأصح في هذه المسألة وسائر المسائل ; لأن الإعتاق ليس له عرف مطرد أو غالب يحمل عليه بل وقوع عتق التطوع في العادة أكثر من العتق الواجب ، فحمل العتق المطلق بالنذر على مسمى الرقبة . وأما الصوم فيصح فيه عموم قوله صلى الله عليه وسلم { لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل } فخرج النفل بدليل ، وبقي النذر داخلا في العموم ، وهكذا الأصل صح فيها قوله صلى الله عليه وسلم { صلاة الليل والنهار مثنى مثنى } فخرج جواز التنفل بركعة بدليل ، وبقي النذر داخلا في العموم ، وكذا يقال في التيمم وغيره ، والله أعلم .

فالحاصل أن الصحيح عند الجمهور أنه ينزل النذر في صفاته على صفات واجب الشرع إلا في الإعتاق ، وهذا الخلاف في صفاته . وأما أصل فعله والوفاء به فواجب بلا خلاف . قال أصحابنا : ويبنى على القولين في تنزيل النذر مسائل ( منها ) لو نذر أن يصلي وأطلق إن قلنا بالقول الأول وهو التنزيل على واجب الشرع لزمه ركعتان وهو [ ص: 452 ] المنصوص وإلا فركعة ( ومنها ) جواز صلاته قاعدا مع القدرة على القيام فيها وجهان بناء عليها . ولو نذر أن يصلي قاعدا جاز القعود قطعا ، كما لو صرح بنذر ركعة فإنها تجزئه بلا خلاف ، فإن صلى قائما فهو أفضل . ولو نذر أن يصلي قائما لزمه القيام قطعا ولو نذر أن يصلي ركعتين فصلى أربعا بتسليمة واحدة بتشهد أو تشهدين فطريقان ( أصحهما ) وبه قطع البغوي جوازه ( والثاني ) فيه وجهان ، وهو الذي ذكره المتولي . قال الرافعي : ويمكن بناؤه على الأصل ، فإن نزلنا النذر على جائز الشرع أجزأه وإلا فلا ، كما لو صلى الصبح أربعا . وإن نذر أربع ركعات ، فإن نزلنا على واجب الشرع أمرناه بتشهدين ، فإن ترك الأول يسجد للسهو ، ولا يجوز أداؤها بتسليمتين ، وإن نزلنا على الجائز فهو بالخيار إن شاء أداها بتشهد ، وإن شاء أداها بتشهدين ، ويجوز بتسليمة وبتسليمتين ، وهو أفضل كما هو في النوافل ، هكذا نقلوه ( والأصح ) أنه يجوز بتسليمتين على القولين ، والفرق بين هذه المسألة وباقي المسائل المخرجة على هذا الأصل ظاهر ; لأنه يسمى مصليا أربع ركعات كيف صلاها ، ولو نذر صلاتين لم تجزئه أربع ركعات بتسليمة واحدة ، ولو نذر أن يصلي ركعتين على الأرض مستقبل القبلة لم يجز فعلهما على الراحلة ، ولو نذر فعلهما على الراحلة فله فعلهما على الأرض مستقبلا ، وإن أطلق فعلى أيهما يحمل ؟ فيه خلاف مبني على هذا الأصل ، والله أعلم .

أما إذا نذر أن يتصدق فإنه لا يحمل على خمسة دراهم أو نصف دينار بلا خلاف بل يجزئه أن يتصدق بدانق ودونه مما يتمول ; لأن الصدقة الواجبة في الزكاة غير منحصرة في نصاب الذهب والفضة ، بل تكون في صدقة الفطر وفي الخلطة ، ويتصور إيجاب دانق ودونه من الذهب والفضة أيضا في الزكاة إذا تلف معظم النصاب بعد الحول وقبل التمكن ، وقلنا : التمكن شرط في الضمان ، وهو الصحيح كما سبق في بابه ، والله أعلم .

[ ص: 453 ] ومنها ) إذا نذر إعتاق رقبة ، فإن نزلنا على واجب الشرع وجبت رقبة مؤمنة سليمة وهو الأصح عند الداركي ، وإلا أجزأه كافرة معيبة ، وهو الصحيح عند الأكثرين ، منهم المحاملي والمصنف في التنبيه والشاشي وآخرون وهو الراجح في الدليل كما سبق ، فلو قيد فقال : لله علي إعتاق رقبة مؤمنة سليمة لم يجزه الكافرة ولا المعيبة بلا خلاف ، ولو قال كافرة أو معيبة أجزأته بلا خلاف ، فلو أعتق مؤمنة سليمة فقيل لا تجزئه ; لأنها غير ما التزمه ( والصحيح ) الذي عليه الجمهور أنها تجزئه ; لأنها أكمل ، وذكر الكفر والعيب ليس للتقرب ، بل لجواز الاقتصار على الناقص ، فصار كمن نذر التصدق بحنطة رديئة يجوز له التصدق بالجيدة . ولو قال : علي أن أعتق هذا الكافر أو المعيب ، لم يجزه غيره لتعلق النذر بعينه . أما إذا نذر أن يعتكف فليس من جنس الاعتكاف واجب بالشرع ، وقد سبق في بابه وجهان في أنه هل يشترط اللبث أم يكفي المرور في المسجد مع النية ؟ والأول أصح ، فعلى هذا يشترط لبث ويخرج عن النذر بلبث ساعة ، ويستحب أن يمكث يوما ، وإن اكتفينا بالمرور في أصل الاعتكاف فلإمام الحرمين احتمالان ( أحدهما ) يشترط لبث ; لأن لفظ الاعتكاف يشعر به ( والثاني ) لا ، حملا له على حقيقته شرعا ، والله أعلم .

( المسألة الثالثة ) إذا نذر أن يعتق رقبة بعينها لزمه إعتاقها ، ولا يزول ملكه عنها بمجرد النذر ، فإن أراد بيعها أو هبتها أو الوصية بها أو إبدالها بغيرها لم يجز وإن تلفت أو أتلفها لم يلزمه بدلها ، وإن أتلفها أجنبي لزمه القيمة للمولى ويتصرف فيها المولى بما شاء ولا يلزمه أن يشتري بها رقبة يعتقها ، ودليل جميع هذه الصور في الكتاب ، وفيه الفرق بينه وبين الهدي والأضحية المنذورتين ، وقد سبقت المسألة بفروعها وإيضاح الفرق في باب الهدي ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية