صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن نذر صلاة لزمه ركعتان في أظهر القولين ; لأن أقل صلاة واجبة في الشرع ركعتان ، فحمل النذر عليه ، وتلزمه ركعة في القول الآخر ، ; لأن الركعة صلاة في الشرع وهي الوتر فلزمه ذلك ، وإن نذر الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة ، وهي المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى ، جاز له أن يصلي في غيره ، ; لأن ما سوى المساجد الثلاثة في الحرمة والفضيلة واحد ، فلم يتعين بالنذر ، وإن نذر الصلاة في المسجد الحرام لزمه فعلها فيه ; لأنه يختص [ ص: 465 ] بالنذر ، والصلاة فيه أفضل من الصلاة في غيره ، والدليل عليه ما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا } فلا يجوز أن يسقط ما نذره بالصلاة في غيره . وإن نذر الصلاة في مسجد المدينة أو المسجد الأقصى ففيه قولان : ( أحدهما ) يلزمه ; لأنه ورد الشرع فيه بشد الرحال إليه فأشبه المسجد الحرام ( والثاني ) لا يلزمه ; لأنه لا يجب قصده بالنسك فلا تتعين الصلاة فيه بالنذر كسائر المساجد . فإن قلنا يلزمه فصلى في المسجد الحرام أجزأه عن النذر ; لأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل فسقط به فرض النذر ، وإن نذر أن يصلي في المسجد الأقصى فصلى في مسجد المدينة أجزأه ، لما روى جابر رضي الله عنه أن رجلا قال { يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين ، فقال : صل ههنا ، فأعاد عليه فقال : صل ههنا ثم أعاد عليه فقال : شأنك } ولأن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في بيت المقدس ، فسقط به فرض النذر ) .


( الشرح ) أما حديث عبد الله بن الزبير فرواه أحمد بن حنبل في مسنده والبيهقي بإسناد حسن ، وسبق بيانه في أواخر باب صفة الحج في مسألة استحباب دخول البيت وأما حديث جابر فصحيح رواه أبو داود في سننه بلفظه بإسناد صحيح . وقوله صلى الله عليه وسلم : " شأنك " هو منصوب أي الزم شأنك ، فإن شئت أن تفعله فافعله . وقوله : " وورد الشرع بشد الرحال إليه " احتراز من غير المساجد الثلاثة ، وفي بيت المقدس لغتان مشهورتان ( إحداهما ) فتح الميم وإسكان القاف وكسر الدال ( والثانية ) ضم الميم وفتح القاف والدال المشددة .

( أما الأحكام ) فإن نذر صلاة مطلقة ففيما يلزمه قولان مشهوران ( أصحهما ) ركعتان ( والثاني ) ركعة ، وذكر المصنف دليلهما ، وهما مبنيان على القاعدة السابقة أن النذر هل يسلك به في صفاته مسلك واجب الشرع أو مسلك جائزه . أما إذا قال : لله علي [ أن ] أمشي إلى بيت الله الحرام [ ص: 466 ] أو آتيه أو أمشي إلى البيت الحرام لزمه إتيانه . هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور لقوله صلى الله عليه وسلم { من نذر أن يطيع الله فليطعه } وهو صحيح سبق بيانه وقيل في لزومه قولان حكاهما الرافعي ، وليس بشيء .

ولو قال : لله علي أن أمشي إلى بيت الله أو آتيه ولم يقل الحرام ، ففيه خلاف منهم من حكاه وجهين ، ومنهم من حكاه قولين ( أحدهما ) يحمل على البيت الحرام وهو بيت مكة ( وأصحهما ) لا ينعقد نذره إلا أن ينوي البيت الحرام ; لأن جميع المساجد بيوت الله تعالى ، وقد ذكر المصنف المسألة في آخر الباب ، وسنزيدها إيضاحا هناك إن شاء الله تعالى . ولو قال : لله علي أن أمشي إلى الحرم أو المسجد الحرام أو مكة أو ذكر بقعة من بقاع الحرم ، كالصفا والمروة ومسجد الخيف ومنى ومزدلفة ومقام إبراهيم وغيرها فهو كما قال إلى بيت الله الحرام ، حتى لو قال : أتى دار أبي جهل أو دار الخيزران كان الحكم كذلك باتفاق الأصحاب لشمول حرمة الحرم في تنفير الصيد وغيره . ولو نذر أن يأتي عرفات فإن أراد التزام الحج وعبر عنه بحضور عرفات أو نوى أن يأتيها محرما انعقد نذره بالحج ، فإن لم ينو ذلك لم ينعقد نذره ; لأن عرفات من الحل فهي كبلد آخر . وفيه وجه لأبي علي بن أبي هريرة أنه لو نذر أن يأتي عرفات يوم عرفات لزمه أن يأتيها حاجا . وقيد المتولي هذا الوجه بما إذا قال ذلك يوم عرفات بعد الزوال . وقال القاضي حسين : يكفي في لزوم ذلك أن يحضر له حضورها يوم عرفة . وربما قال بهذا الجواب على الإطلاق . والمذهب ما قدمناه . وبه قطع جماهير الأصحاب .

ولو قال : لله علي أن آتي مر الظهران أو بقعة أخرى قريبة من الحرم لم يلزمه شيء بلا خلاف قال أصحابنا : وإذا التزم الإتيان إلى الكعبة فسواء التزمه بلفظ المشي والإتيان والانتقال [ ص: 467 ] والذهاب والمضي والمصير والمسير ونحوها . ولو نذر أن يمس بثوبه حطيم الكعبة فهو كما لو نوى إتيانها والله أعلم . أما إذا نذر أن يأتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى ففي لزوم إتيانهما قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما . قال في البويطي : يلزم ، وقال في الإملاء : لا يلزم ويلغو النذر . وهذا هو الأصح عند أصحابنا العراقيين والروياني وغيرهم . قال أصحابنا : فإن قلنا بالمذهب : أنه يلزمه إتيان المسجد الحرام بالتزامه قال الصيدلاني وغيره : إن حملنا النذر على أقل واجب الشرع لزمه حج أو عمرة وهذا هو نص الشافعي رحمه الله في المسألة . وهو المذهب .

( وإن قلنا ) لا يحمل على أقل واجب الشرع بني على أصل آخر ، وهو أن دخول مكة هل يوجب الإحرام بحج أو عمرة ؟ وفيه قولان سبقا ( أصحهما ) لا يوجب ( فإن قلنا ) يوجبه فإذا أتاه لزمه حج أو عمرة ( وإن قلنا ) لا فهو كمسجد المدينة والأقصى ، ففيه القولان في أنه هل يلزمه إتيانه ؟ وإذا لزم فتفريعه كتفريع المسجدين ، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى . أما إذا أوجبنا إتيان مسجد المدينة والأقصى فهل يلزمه مع الإتيان شيء آخر ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا ، إذ لم يلتزمه ( وأصحهما ) نعم ; لأن الإتيان المجرد ليس بقربة ، وإنما يقصد لغيره ، فعلى هذا فيما يلزمه أوجه ( أحدها ) يتعين أن يصلي في المسجد الذي أتاه . قال إمام الحرمين : الذي أراه أنه لا يلزمه ركعتان بل تكفيه ركعة قولا واحدا ، وذكر ابن الصباغ والأكثرون أنه يصلي ركعتين . قال ابن القطان : وهل يكفي أن يصلي فريضة أم لا بد من صلاة زائدة ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) لا تكفي الفريضة بناء على وجهين فيمن نذر أن يعتكف شهر الصوم هل يكفي أن يعتكف في رمضان ؟ ( أصحهما ) لا يكفيه ( والوجه الثاني ) من الأوجه أنه يتعين [ ص: 468 ] أن يعتكف فيه ولو ساعة ; لأن الاعتكاف أخص القربات بالمسجد ( والثالث ) وهو الأصح يتخير بينهما ، وبه قطع البغوي وغيره .

قال الشيخ أبو علي السنجي : يكفي في مسجد المدينة أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وحكاه عنه إمام الحرمين ، وتوقف فيه من جهة أن الزيارة لا تتعلق بالمسجد وتعظيمه ، قال وقياسه أنه لو تصدق في المسجد أو صام يوما كفاه ، قال : والظاهر الاكتفاء بالزيارة ، والله أعلم . وإذا نزلنا المسجد الحرام منزلة المسجدين وأوجبنا ضم قربة إلى الإتيان ففي تلك القربة أوجه ( أحدها ) الصلاة ( والثاني ) الحج أو العمرة ( والثالث ) يتخير . قال إمام الحرمين : ولو قيل يكفي الطواف لم يبعد والله أعلم . قال أصحابنا ومتى قال : أمشي إلى بيت الله الحرام لم يكن له الركوب على أصح الوجهين ، بل يلزمه المشي كما سنذكره إن شاء الله تعالى فيما إذا قال : أحج ماشيا ( والوجه الآخر ) يمشي من الميقات ويجوز الركوب قبله . وذكر القاضي أبو الطيب وكثير من العراقيين أنه لا خلاف بين الأصحاب أنه يمشي من دويرة أهله ، لكن هل يحرم من دويرة أهله ، أم من الميقات ؟ فيه وجهان . قال أبو إسحاق : من دويرة أهله . وقال أبو علي الطبري من الميقات وهو الأصح . ولو قال : أمشي إلى مسجد المدينة أو الأقصى وأوجبنا الإتيان ففي وجوب المشي وجهان أصحهما الوجوب . ولو كان لفظ الناذر الإتيان أو الذهاب أو غيرهما مما يساوي المشي فله الركوب بلا خلاف . والله أعلم .

( أما ) إذا نذر إتيان مسجد آخر سوى الثلاثة فلا ينعقد نذره بلا خلاف ; لأنه ليس في قصدها قربة .

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والأقصى ، ومسجدي } قال إمام الحرمين : كان شيخي يفتي بالمنع من شد الرحال إلى غير هذه الثلاثة لهذا الحديث قال : وربما كان يقول : محرم . قال الإمام : والظاهر [ ص: 469 ] أنه ليس فيه تحريم ولا كراهة . وبه قال الشيخ أبو علي ومقصود الحديث بيان القربة بقصد المساجد الثلاثة .

( واعلم ) أنه سبق في الاعتكاف أن من عين بنذره مسجد المدينة أو الأقصى للاعتكاف تعين على أصح القولين والفرق أن الاعتكاف عبادة في نفسه . وهو مخصوص بالمسجد ، فإذا كان للمسجد فضل فكأنه التزم فضيلة في العبادة الملتزمة والإتيان بخلافه ويوضحه أنه لا خلاف أنه لو نذر إتيان سائر المساجد لم يلزمه وفي مثله في الاعتكاف خلاف والله أعلم .

( فرع ) إذا نذر الصلاة في موضع معين لزمه الصلاة ، ثم إن عين المسجد الحرام تعين للصلاة الملتزمة وإن عين مسجد المدينة أو الأقصى فطريقان . قال الأكثرون : في تعينه القولان في لزوم الإتيان . وقطع المراوزة بالتعيين ، والتعيين هنا أرجح كالاعتكاف . وإن عين سائر المساجد والمواضع لم تتعين . وإن عين مسجد المدينة أو الأقصى للصلاة وقلنا بالتعين فصلى في المسجد الحرام خرج عن نذره على الأصح بخلاف العكس وهل تقوم الصلاة في أحدهما مقام الصلاة في الآخر ؟ فيه ثلاثة أوجه : ( أحدها ) تقوم ( والثاني ) لا ( والثالث ) وهو الأصح وهو المنصوص في البويطي : يقوم مسجد المدينة مقام المسجد الأقصى ، ولا يقوم الأقصى مقام مسجد المدينة ويؤيده الحديث السابق والله أعلم . وذكر إمام الحرمين أنه لو قال : أصلي في مسجد المدينة فصلى في غيره ألف صلاة لم يخرج عن نذره ، كما لو نذر ألف صلاة لم يخرج عن نذره بصلاة واحدة في مسجد المدينة ، قال : وكان شيخي يقول : لو نذر صلاة في الكعبة فصلى في أطراف المسجد خرج عن نذره ; لأن الجميع من المسجد الحرام والله أعلم .

( فرع ) سبق أن المذهب في نذر المشي إلى بيت الله الحرام أنه [ ص: 470 ] يجب قصده بحج أو عمرة ، فلو قال في نذره : أمشي إلى بيت الله الحرام بلا حج ولا عمرة فوجهان ( أصحهما ) ينعقد نذره ويلغو قوله بلا حج ولا عمرة ( والثاني ) لا ينعقد . ثم إذا أتاه فإن أوجبنا إحراما لدخول مكة لزمه حج أو عمرة ( وإن قلنا ) لا ، فعلى ما ذكرنا في مسجد المدينة والأقصى ، والصحيح هنا لزومه ، وقد ذكر المصنف هذه المسألة في آخر الباب وسنزيدها هناك إيضاحا إن شاء الله تعالى .

( فرع ) لو قال : لله علي أن أصلي الفرائض في المسجد ، قال الغزالي : يلزمه إذا قلنا : صفات الفرائض تفرد بالالتزام .

( فرع ) قال القاضي ابن كج : إذا نذر أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم فعندي أنه يلزم الوفاء بذلك وجها واحدا ولو نذر أن يزور قبر غيره فوجهان .

( فرع ) قال المتولي : لو قال : لله علي أن أمشي إلى مكة ونوى بقلبه حاجا أو معتمرا انعقد النذر على ما نوى ، وإن نوى إلى بيت الله الحرام حصل ما نواه كأنه تلفظ به ، والله أعلم .

( فرع ) ذكر المصنف في أثناء كلامه ودليله هنا أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل منها في غيره ، وهذا مبني على أن مكة أفضل من المدينة ، وهو مذهبنا لا خلاف فيه عندنا . وبه قال جمهور العلماء ، وقال مالك وطائفة : المدينة أفضل وسبقت المسألة واضحة في آخر باب ما يجب بمحظورات الإحرام ، وفي أواخر باب صفة الحج في مسألة دخول الكعبة .

( واعلم ) أنا حكينا هناك أن القاضي عياضا نقل الإجماع على أن موضع قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأرض ، وأن الخلاف إنما هو فيما سواه ، ولم أر لأصحابنا تعرضا لما نقله والله أعلم ، ثم إن مذهبنا أن تفضيل الصلاة [ ص: 471 ] في مسجدي مكة والمدينة لا يختص بصلاة الفرض ، بل يعم الفرض والنفل ، وقد صرح المصنف بمعنى هذا في باب استقبال القبلة ، وبه قال طائفة من أصحاب مالك ، وقال الطحاوي : يختص بالفروض وهو إطلاق الأحاديث الصحيحة . .

( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن نذر صلاة مطلقة : ( الأصح ) عندنا يلزمه ركعتان ، وبه قال مالك وأبو حنيفة ، ورواية عن أحمد ، وعنه رواية أخرى أنه يكفيه ركعة . .

( فرع ) لو نذر المشي إلى المسجد الحرام لزمه ذلك ، كما لو قال : إلى بيت الله الحرام ، هذا مذهبنا ، وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد وأحمد ، وقال أبو حنيفة : لا يلزمه شيء ، قال : وإنما يلزمه إذا قال : إلى بيت كداء أو إلى مكة أو إلى الكعبة استحسانا .

( فرع ) إذا نذر أن يصلي في المسجد الحرام فصلى في غيره لم يجزئه عندنا وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف وداود . وقال أبو حنيفة : يجزئه ، دليلنا أنه فضيلة فلزمه كالصوم والصلاة . .

( فرع ) إذا نذر المشي إلى مسجد المدينة أو الأقصى لم يلزمه ذلك في أصح القولين عندنا ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال مالك وأحمد يلزمه . .

( فرع ) إذا نذر المشي إلى مسجد غير المساجد الثلاثة ، وهي الحرام والمدينة والأقصى ، لم يلزمه ولا ينعقد نذره عندنا ، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وجماهير العلماء . لكن قال أحمد : يلزمه كفارة يمين ، وقال الليث بن سعد : يلزمه المشي إلى ذلك المسجد . وقال محمد بن مسلمة المالكي : إذا نذر قصد مسجد قباء لزمه للحديث المشهور في الصحيحين { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كل سبت راكبا وماشيا } . .

[ ص: 472 ] فرع ) وإذا نذر المشي إلى الصفا أو المروة أو منى - فمذهبنا أنه يلزمه الحج والعمرة . وبه قال أحمد وأشهب المالكي . وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن القاسم المالكي : لا يلزمه ، دليلنا أنه موضع من الحرم فأشبه الكعبة . .

( فرع ) إذا نذر صلاة في مسجد المدينة أو الأقصى ، فهل يتعين ؟ فيه قولان عندنا ، سبق بيانهما ، وممن قال بالتعين مالك وأحمد . وقال أبو حنيفة : لا يتعين ، والله أعلم . .

التالي السابق


الخدمات العلمية