صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن نذر الصوم لزمه صوم يوم ; لأن أقل الصوم يوم ، وإن نذر صوم سنة بعينها لزمه صومها متتابعا ، كما يلزمه صوم رمضان متتابعا ، فإذا جاء رمضان صام عن رمضان ; لأنه مستحق بالشرع ، ولا يجوز أن يصوم فيه عن النذر ، ولا يلزمه قضاؤه عن النذر ; لأنه لم يدخل في النذر ، ويفطر في العيدين وأيام التشريق ; لأنه مستحق للفطر ، ولا يلزمه قضاؤه ; لأنه لم يتناولها النذر ، وإن كانت امرأة فحاضت فهل يلزمها القضاء ؟ فيه قولان .

( أحدهما ) لا يلزمها ، ; لأنه مستحق للفطر ، فلا يلزمها قضاؤه كأيام العيد ( والثاني ) يلزمها ; لأن الزمان محل للصوم وإنما تفطر هي وحدها ، فإن أفطر فيه لغير عذر - نظرت فإن لم يشترط فيه التتابع - أتم ما بقي ; لأن التتابع فيه يجب لأجل الوقت ، فهو كالصائم في رمضان إذا أفطر بغير عذر ، ويجب عليه قضاؤه كما يجب على الصائم في رمضان ، وإن شرط التتابع لزمه أن يستأنف ; لأن التتابع لزمه بالشرط ، فبطل بالفطر كصوم الظهار . وإن أفطر لمرض - وقد شرط التتابع - ففيه قولان ( أحدهما ) ينقطع التتابع ; لأنه أفطر باختياره ( والثاني ) لا ينقطع ; لأنه أفطر بعذر فأشبه الفطر بالحيض ، فإن قلنا : لا ينقطع التتابع فهل يجب القضاء ؟ فيه وجهان بناء على القولين في الحائض ، وقد بيناه ، وإن أفطر بالسفر ، فإن قلنا : إنه ينقطع التتابع بالمرض ، فالسفر أولى .

وإن قلنا : لا ينقطع بالمرض . ففي السفر وجهان ( أحدهما ) لا ينقطع ; لأنه أفطر بعذر فهو كالفطر بالمرض . [ ص: 473 ] والثاني ) ينقطع ، ; لأن سببه باختياره بخلاف المرض . وإن نذر سنة غير معينة فإن لم يشترط التتابع - جاز متتابعا ومتفرقا ; لأن الاسم يتناول الجميع فإن صام شهرا بالأهلة وهي ناقصة أجزأه ; لأن الشهور في الشرع بالأهلة ، وإن صام سنة متتابعة لزمه قضاء رمضان وأيام العيد ; لأن الفرض في الذمة فانتقل فيما لم يسلم منه إلى البدل ، كالمسلم فيه إذا رد بالعيب ، ويخالف السنة المعينة فإن الفرض فيها يتعلق بمعين فلم ينتقل فيما لم يسلم إلى البدل كالسلعة المعينة إذا ردها بالعيب ، وأما إذا اشترط فيها التتابع فإنه يلزمه صومها متتابعا على ما ذكرناه ) .


( الشرح ) قال أصحابنا رحمهم الله : إذا أطلق التزام الصوم فقال : لله علي صوم أو أن أصوم لزمه صوم يوم ، قال الرافعي : ويجيء فيه وجه ضعيف أنه يكفيه إمساك بعض يوم ، بناء على أن النذر ينزل على أقل ما يصح من جنسه ، وأن إمساك بعض اليوم صوم ، وسنذكرهما إن شاء الله تعالى . فلو نذر صوم أيام وبينها فذاك ، وإن أطلق الأيام لزمه ثلاثة . ولو قال : أصوم دهرا أو حينا كفاه صوم يوم ، وهل يجب تبييت النية في الصوم المنذور أم يكفي بنية قبل الزوال ؟ فيه طريقان ، قطع المصنف في كتاب الصيام وكثيرون أو الأكثرون باشتراط التبييت ، وذكر آخرون فيه قولين أو وجهين بناء على القاعدة السابقة أنه هل يسلك بالنذر مسلك الواجب أم الجائز ؟ ( إن قلنا ) مسلك الواجب اشترط التبييت وإلا فلا ، والله أعلم . وأما إذا لزمه صوم يوم بالنذر فيستحب المبادرة به ، ولا تجب المبادرة ، بل يخرج عن نذره بأي يوم صامه من الأيام التي تقبل الصوم غير رمضان .

ولو نذر صوم يوم خميس ولم يعين صام أي خميس شاء ، فإذا مضى خميس ولم يصم مع التمكن استقر في ذمته حتى لو مات قبل الصوم فدي عنه . ولو عين في نذره يوما كأول خميس من الشهر ، أو خميس هذا الأسبوع تعين على المذهب ، وبه قطع الجمهور فلا يصح [ ص: 474 ] الصوم قبله ، فإن أخره عنه صام قضاء ، سواء أخره بعذر أم لا لكن إن أخره بغير عذر أثم ، وإن أخره بعذر سفر أو مرض لم يأثم . وقال الصيدلاني وغيره : في تعينه وجهان ( الصحيح ) تعينه ( والثاني ) لا ، كما لو عين مكانا ، فعلى هذا قالوا : يجوز الصوم قبله وبعده . قال أصحابنا : ولو عين يوما من أسبوع والتبس عليه فينبغي أن يصوم يوم الجمعة ; لأنه آخر الأسبوع . فإن لم يكن هو المعين في نفس الأمر أجزأه وكان قضاء ، ومما يدل على أن يوم الجمعة آخر الأسبوع ويوم السبت أوله ، حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : { أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق [ ص: 475 ] النور يوم الأربعاء ، وبعث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق ، في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل } رواه مسلم في صحيحه ، قال أصحابنا : ولو نذر صوم يوم مطلق من أسبوع معين صام منه أي يوم شاء ، والله أعلم . .

( فرع ) اليوم المعين بالنذر لا يثبت له خواص رمضان ، سواء عيناه بالنذر أم جوزناه من الكفارة بالفطر بالجماع فيه ووجوب الإمساك لو أفطر وعدم قبول صوم ، آخر من قضاء أو كفارة أو غيرهما ، بل لو صامه من قضاء أو كفارة صح بلا خلاف ، كذا قاله إمام الحرمين . وحكى البغوي وجها ضعيفا أنه لا ينعقد كأيام رمضان ، والله أعلم .

( فرع ) الخلاف السابق في أن اليوم المعين بالنذر هل يتعين ؟ يجري مثله في الصلاة إذا عين لها في نذرها وقتا وفي الحج إذا عين في نذره سنة ، وجزم البغوي بالتعين ، فقال : لو نذر صلاة في وقت عينه غير أوقات النهي تعين ، فلا يجوز قبله ولا يجوز التأخير عنه بلا عذر ، وإذا لم يصل فيه وجب القضاء ، ولو نذر أن يصلي ضحوة صلى في ضحوة أي يوم شاء . ولو صلى في غير الضحوة لم يجزه . ولو عين ضحوة فلم يصل فيها قضى أي وقت شاء من ضحوة أو غيرها . ولو عين للصدقة وقتا قال الصيدلاني : يجوز تقديمها على وقتها بلا خلاف .

( فرع ) إذا نذر صوم أيام بأن قال : لله علي صوم عشرة أيام ، فالقول في المبادرة مستحبة وليست واجبة ، وفي أنه إذا عينها هل تتعين ؟ على ما ذكرناه في اليوم الواحد ، ويجري الخلاف في تعين الشهر والسنة المعينين في النذر ، والصحيح التعين في الجميع ، وحيث لا نذكره أو الأصحاب يكون اقتصارا على الصحيح ، ويجوز صوم هذه الأيام متفرقة ومتتابعة لحصول الوفاء بالمسمى . وإن عين النذر بالتتابع لزمه ، فلو أخل به فحكمه حكم صوم الشهرين المتتابعين . ولو قيد بالتفريق فوجهان [ ص: 476 ] أحدهما ) لا يجب التفريق ( وأصحهما ) يجب ، وبه قطع ابن كج والبغوي وغيرهما ، لأن التفريق معتبر في صوم التمتع ، فعلى هذا قالوا : لو صام عشرة أيام متتابعة حسبت له خمسة ، ويلغى بعد كل يوم يوم .

( فرع ) إذا نذر صوم شهر نظر إن عينه كرجب أو شعبان ، أو قال أصوم شهرا من الآن ، فالصوم يقع متتابعا لتعين أيام الشهر ، وليس التتابع مستحقا في نفسه حتى لو أفطر يوما لا يلزمه الاستئناف ، ولو فاته الجميع لم يلزمه التتابع في قضائه كرمضان ، فلو شرط التتابع فوجهان ( أحدهما ) لا يلزمه ، لأن شرط التتابع مع تعيين الشهر لغو ، وبهذا قال القفال ( وأصحهما ) وبه قطع المصنف وسائر العراقيين : يلزمه ، حتى لو أفسد يوما لزمه الاستئناف ، وإذا فات لزمه قضاؤه متتابعا . ولو أطلق فقال : أصوم شهرا فله التفريق والتتابع ، فإن فرق صام ثلاثين يوما ، وإن تابع وابتدأ بعد مضي بعض الشهر الهلالي فكذلك ، وإن ابتدأ في أول الشهر وخرج ناقصا كفاه لأنه شهر ، والله أعلم .

( فرع ) إذا نذر صوم سنة فله حالان ( أحدهما ) أن يعين سنة متوالية بأن يقول : أصوم سنة كذا أو سنة من أول شهر كذا أو من الغد ، فصيامها يقع متتابعا لضرورة الوقت ويصوم رمضان عن فرضه ويفطر العيدين ، وكذا التشريق إذا قلنا بالمذهب إنه يحرم صوم أيام التشريق ، ولا يجب قضاء رمضان والعيدين والتشريق لأنها غير داخلة في النذر . ولو أفطرت المرأة فيها بحيض أو نفاس ففي وجوب القضاء قولان . وقيل وجهان ( أصحهما ) لا يجب كالعيد ، وبه قال الجمهور ، وصححه أبو علي الطبري وابن القطان والروياني وغيرهم . ولو أفطر بالمرض ففيه هذا الخلاف ، ورجح ابن كج وجوب القضاء لأنه لا يصح أن ينذر صوم أيام الحيض ويصح أن ينذر صوم أيام المرض . ولو أفطر بالسفر فطريقان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) [ ص: 477 ] يجب القضاء قطعا ( والثاني ) فيه القولان ، وبه قال ابن كج . ولو أفطر بعض الأيام بغير عذر أثم ولزمه القضاء بلا خلاف ، وسواء أفطر بعذر أم بغيره لا يلزمه الاستئناف ، وإذا فات صوم السنة لم يجب التتابع في قضائه كرمضان ، هذا كله إذا لم يتعرض للتتابع ، فإذا شرط التتابع مع تعيين السنة فعلى الوجهين السابقين في الشهر ( أصحهما ) وجوب الوفاء به ، فعلى هذا إن أفطر بلا عذر وجب الاستئناف وإن أفطرت بالحيض لم يجب والإفطار بالمرض والسفر له حكم الشهرين المتتابعين ، فإن قلنا لا يبطل التتابع ففي القضاء الخلاف السابق .

ولو قال : لله علي صوم هذه السنة تناول السنة الشرعية ، وهي من المحرم إلى المحرم ، فإن كان مضى بعضها لم يلزمه إلا صوم الباقي ، فإن كان رمضان باقيا لم يلزمه قضاؤه عن النذر ولا قضاء العيدين ، وفي التشريق والحيض والمرض ما ذكرناه في جميع السنة .

( الحال الثاني ) إذا نذر صوم سنة وأطلق ، فإن لم يشترط التتابع صام ثلاثمائة وستين يوما أو اثني عشر شهرا بالأهلة أيهما شاء فعله وأجزأه ، وكل شهر استوعبه بالصوم فناقصه كالكامل فيحسب شهرا ، وإن انكسر شهر أتمه ثلاثين يوما ، وشوال وذو الحجة منكسران بسبب العيد والتشريق ، ولا يلزمه التتابع هنا بلا خلاف ، فلو صام سنة متوالية قضى العيدين والتشريق ورمضان ، ولا بأس بصوم الشك عن النذر ، ويجب قضاء أيام الحيض . هذا الذي ذكرناه هو المذهب وبه قطع الجمهور . وحكى الرافعي وجها أنه يلزمه ثلاثمائة وستون يوما مطلقا ، ووجها أنه إذا صام من المحرم إلى المحرم ، أو من شهر آخر إلى مثله أجزأه ، لأنه يقال له صام سنة ، وعلى هذا لا يلزمه قضاء العيد والتشريق ورمضان ، والمشهور ما سبق ، هذا كله إذا لم يشرط التتابع ، أما إذا شرط التتابع فقال : لله علي أن أصوم سنة متتابعة فيلزمه التتابع ويصوم رمضان عن فرضه ويفطر العيدين والتشريق وهل يلزمه قضاؤهما للنذر ؟ فيه [ ص: 478 ] طريقان ( أصحهما ) وهو المذهب وبه قطع الجمهور وهو نص الشافعي : يلزمه القضاء على الاتصال بالمحسوب من السنة ( والثاني ) فيه وجهان ( أصحهما ) هذا ( والثاني ) لا يلزمه كالسنة المعينة . ثم إنه يحسب الشهر الهلالي وإن كان ناقصا . وإذا أفطر بلا عذر وجب الاستئناف بلا خلاف . وإن أفطرت بالحيض لم يجب الاستئناف ، وفي المرض والسفر ما ذكرناه في الشهرين المتتابعين . ثم في قضاء أيام المرض والحيض الخلاف المذكور في الحال الأول . وأما إذا نذر صوم شهر بعينه فحكم قضاء ما يفطره لمرض أو حيض على ما سبق في السنة . ولو نذرت صوم يوم معين فحاضت ففي وجوب القضاء القولان ، وإن نذرت صوم يوم غير معين فشرعت في يوم فحاضت لزمها قضاؤه بلا خلاف .

( فرع ) لو نذر صوم ثلاثمائة وستين يوما لزمه صوم هذا العدد ولا يلزمه فيه التتابع . ولو قال متتابعة لزمه التتابع ويقضي لرمضان والعيدين والتشريق على الاتصال ، وحكى الرافعي وجها أن التتابع يلغو هنا ، وهو شاذ ضعيف والله أعلم .

( فرع ) قال صاحب العدة والبيان : قال صاحب التلخيص : إذا نذر أن يصوم في الحرم لا يجزئه في غيره ، قالا : قال أصحابنا : هذا غلط فإن الصوم لا يختص بالحرم ، بل يجوز حيث شاء ، لأن الصوم لا يختلف باختلاف الأمكنة ولهذا لا يختص الصوم الذي هو بدل الهدي بالحرم ، وإن كان مبدله الذي هو الهدي يختص بالحرم . وقال أبو زيد المروزي : ما قاله صاحب التلخيص يحتمل ، لأن الحرم يختص بأشياء ، والمذهب الأول واتفق صاحب التلخيص وأبو زيد وسائر الأصحاب على أنه إذا نذر الصوم في موضع غير حرم مكة لا يتعين ، بل يصوم حيث شاء ، والله تعالى أعلم . [ ص: 479 ] فرع ) قال صاحبا العدة والبيان : إذا قال : لله علي صوم هذه السنة لزمه صوم باقي سنة التاريخ ولا يلزمه غير ذلك ، لأن السنة تنصرف إلى المعهودة المشار إليها ، وهي سنة التاريخ فكأنه قال : باقي هذه السنة .

( فرع ) لو نذر صوم يوم الخميس مثلا لم يجز الصوم قبله ، هذا هو المشهور من مذهبنا كما سبق ، وبه قال مالك وأحمد وداود ، وقال أبو يوسف : يجزئه . دليلنا أنه صوم متعلق بزمان ، فلا يجوز قبله كرمضان .

( فرع ) إذا نذر صوم العيد أو التشريق لم ينعقد نذره ولم يلزمه صيام ذلك ولا شيء عليه أصلا . هذا مذهبنا وبه قال جماهير العلماء ، وقال أبو حنيفة : ينعقد نذره ولا يصوم ذلك اليوم ، بل يلزمه صوم يوم آخر ، فإن صام العيد أجزأه وخرج عن واجب نذره . دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم { لا نذر في معصية } وهو حديث صحيح سبق بيانه والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية