صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - وما سوى ذلك من الدواب والطيور ينظر فيه ، فإن كان مما يستطيبه العرب حل أكله ، وإن كان مما لا يستطيبه العرب لم يحل أكله [ ص: 27 ] لقوله عز وجل : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } ويرجع في ذلك إلى العرب من أهل الريف والقرى وذوي اليسار والغنى دون الأجلاف من أهل البادية والفقراء وأهل الضرورة ، فإن استطاب قوم شيئا واستخبثه قوم رجع إلى ما عليه الأكثر ، فإن اتفق في بلاد العجم ما لا يعرفه العرب نظر إلى ما يشبهه فإن كان حلالا حل وإن كان حراما حرم ، وإن لم يكن له شبيه فيما يحل ولا فيما يحرم ففيه وجهان قال أبو إسحاق وأبو علي الطبري يحل لقوله عز وجل { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } وهذا ليس بواحد منها ، ( وقال ) ابن عباس رضي الله عنه ما سكت عنه فهو عفو ( ومن ) أصحابنا من قال : لا يحل أكله ، لأن الأصل في الحيوان التحريم ، فإذا أشكل بقي على أصله .


( الشرح ) هذا المذكور عن ابن عباس رواه أبو داود عنه هكذا بإسناد حسن ، ورواه البيهقي مرفوعا عن سلمان الفارسي . وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو من عفوه } قال أصحابنا : من الأصول المعتبرة في هذا الباب الاستطابة والاستخباث ، ورواه الشافعي - رحمه الله - الأصل الأعظم الأعم ولهذا أفسح الباب ، والمعتمد فيه قوله تعالى : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } وقوله تعالى : { يسألونك [ ص: 28 ] ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } قال أصحابنا وغيرهم : وليس المراد بالطيب هنا الحلال ، لأنه لو كان المراد الحلال لكان تقديره أحل لكم الحلال ، وليس فيه بيان ، وإنما المراد بالطيبات ما يستطيبه العرب ، وبالخبائث ما تستخبثه . قال أصحابنا : ولا يرجع في ذلك إلى طبقات الناس ، وينزل كل قوم على ما يستطيبونه أو يستخبثونه ، لأنه يؤدي إلى اختلاف الأحكام في الحلال والحرام واضطرابها ، وذلك يخالف قواعد الشرع ، قالوا : فيجب اعتبار العرب ، فهم أولى الأمم بأن يؤخذ باستطيابهم واستخباثهم لأنهم المخاطبون أولا ، وهم جيل معتدل لا يغلب فيهم الانهماك على المستقذرات ولا العفافة المتولدة من التنعم فيضيقوا المطاعم على الناس .

قالوا : وإنما يرجع إلى العرب الذين هم سكان القرى والريف دون أجلاف البوادي الذين يأكلون ما دب ودرج من غير تمييز وتغيير عادة أهل اليسار والثروة دون المحتاجين ، وتغيير حالة الخصب والرفاهية دون الجدب والشدة قال الرافعي : وذكر جماعة أن الاعتبار بعادة العرب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الخطاب لهم ، قال : ويشبه أن يقال : يرجع في كل زمان إلى العرب الموجودين فيه ، قال أصحابنا : فإن استطابته العرب أو سمته باسم حيوان حلال فهو حلال وإن استخبثته أو سمته باسم محرم فمحرم ، فإن استطابته طائفة واستخبثته أخرى اتبعنا الأكثرين فإن استويا قال الماوردي وأبو الحسن العبادي : يتبع قريش لأنهم قطب العرب ، فإن اختلفت قريش ولا ترجيح أو شكوا ولم يحكموا بشيء أو لم نجدهم ولا غيرهم من العرب ، اعتبرناه بأقرب الحيوان به شبها والشبه تارة يكون في الصورة وتارة في طبع الحيوان من الصيالة والعدوان ، وتارة في طعم اللحم ، فإن استوى الشبهان أو لم نجد ما يشبهه فوجهان [ ص: 29 ] مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) الحل قال إمام الحرمين : وإليه ميل الشافعي ( والثاني ) التحريم . قال أصحابنا : وإنما يراجع العرب في حيوان لم يرد فيه نص بتحليل ولا تحريم ولا أمر بقتله ولا نهي عن قتله ، فإن وجد شيء من هذه الأصول اعتمدناه ولم نراجعهم ، قطعا ، فمن ذلك الحشرات وغيرها مما سبق ، والله تعالى أعلم .

( فرع ) إذا وجدنا حيوانا لا معرفة لحكمه من كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله ، ولا استطابة ولا استخباث ولا غير ذلك من الأصول المعتمدة ، وثبت تحريمه في شرع من قبلنا ، فهل يستصحب تحريمه ؟ فيه قولان ( الأصح ) لا يستصحب ، وهو مقتضى كلام جمهور الأصحاب وهو مقتضى المختار عند أصحابنا في أصول الفقه ، فإن استصحبناه فشرطه أن يثبت تحريمه في شرعهم بالكتاب أو السنة أو يشهد به عدلان أسلما منهم بعرفان المبدل من غيره ، قال الماوردي : فعلى هذا لو اختلفوا اعتبر حكمه في أقرب الشرائع إلى الإسلام وهي النصرانية ، وإن اختلفوا عاد الوجهان عند تعارض الأشباه ( أصحهما ) الحل ، والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية