صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ويصح البيع من كل بالغ عاقل مختار ، فأما الصبي والمجنون فلا يصح بيعهما ، لقوله صلى الله عليه وسلم { رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق } ولأنه تصرف في المال ، يفوض إلى الصبي والمجنون كحفظ المال )


( الشرح ) هذا الحديث صحيح من رواية علي وعائشة رضي الله عنهما ، سبق في أول كتاب الصلاة ، وأول كتابي الزكاة والصوم وقوله : ( تصرف في المال ) احتراز من اختيار الصبي أحد الأبوين وهو مميز ، ومن عباداته وحمله الهدية ، ومن وطء الصبي والمجنون امرأتيهما ، وأما قياسه على حفظ المال فلأنه مجمع عليه ومنصوص عليه في قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } وأما قول المصنف : يصح البيع من كل عاقل بالغ مختار ، فمما ينكر عليه ، لأنه يدخل فيه الأعمى ، وقد ذكر المصنف بعد هذا هو والأصحاب أن المذهب الصحيح أنه لا يصح بيعه ولا شراؤه ، ويدخل أيضا المحجور عليه بالسفه ، وهو لا يصح بيعه فكان ينبغي ، أن يزيد بصيرا غير محجور عليه كما ذكرناه في الفرع السابق قريبا ، وذكرنا هناك أنه يشترط أيضا إسلام المشتري إن اشترى عبدا مسلما أو مصحفا ، والله أعلم . وأما المجنون فلا يصح بيعه بالإجماع ، وكذلك المغمى عليه ( وأما ) السكران فالمذهب صحة بيعه وشرائه وسائر عقوده التي تضره والتي تنفعه [ ص: 182 ] والثاني ) لا يصح شيء منها ( والثالث ) يصح ما عليه دون ماله فعلى هذا يصح بيعه وهبته دون إيهابه ، وتصح ردته دون إسلامه ، وقد ذكر المصنف هذه الأوجه في أول كتاب الطلاق ، وهناك نوضحها بفروعها إن شاء الله تعالى .

( وأما ) الصبي فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا إجارته وسائر عقوده لا لنفسه ولا لغيره سواء باع بغبن أو بغبطة ، وسواء كان مميزا أو غيره ، وسواء باع بإذن الولي أو بغير إذنه ، وسواء بيع الاختبار وغيره ، وبيع الاختبار هو الذي يمتحنه الولي به ليستبين رشده عند مناهزة الاحتلام ، ولكن طريق الولي أن يفوض إليه الاستلام وتدبير العقد ، فإذا انتهى الأمر إلى العقد أتى به الولي ولا خلاف في شيء مما ذكرته عندنا إلا في بيع الاختبار ، فإن فيه وجها شاذا ضعيفا حكاه إمام الحرمين وآخرون ، من الخراسانيين أنه يصح ، والمذهب بطلانه ، والله أعلم . واستدل المصنف وغيره بهذا الحديث ، ووجه الدلالة منه أنه لو صح البيع لزم منه وجوب التسليم على الصبي ، وقد صرح الحديث بأن الصبي لا يجب عليه شيء ، وقيل : وجه الدلالة منه أن مقتضى الحديث إسقاط أقواله وأفعاله ، والله تعالى أعلم .

( فرع ) قال الفقهاء : إذا اشترى الصبي شيئا وسلم إليه فتلف في يده أو أتلفه فلا ضمان عليه ، لا في الحال ولا بعد البلوغ ، وكذا لو اقترض مالا ، لأن المالك هو المضيع بالتسليم إليه ، وما دامت العين باقية فللمالك الاسترداد وإن قبضها الولي من الصبي دخلت في ضمان الولي ، ولو سلم الصبي إلى البائع ثمن ما اشتراه لم يصح تسليمه ، ويلزم البائع رده إلى الولي ، ويلزم الولي طلبه واسترداده ، قال أصحابنا : فإن رده إلى الصبي لم يبرأ من الضمان ، قال أصحابنا : وهذا كما لو سلم الصبي درهما إلى صراف لينقده ، أو سلم متاعا إلى مقوم ليقومه ، فإذا قبضه من [ ص: 183 ] الصبي دخل في ضمان القابض ، ولم يجز له رده إلى الصبي ، بل يلزمه أن يرده إلى وليه إن كان المال للصبي ، وإن كان لكامل لزمه رده إلى مالكه أو وكيله فيه ، قال أصحابنا : ولو أمره ولي الصبي بدفعه إلى الصبي فدفعه إليه سقط عنه الضمان إن كان المال للولي ، فإن كان للصبي لم يسقط كما لو أمره بإلقاء مال الصبي في بحر فألقاه ، فإنه يلزمه ضمانه قطعا .

( فرع ) لو تبايع صبيان وتقابضا وأتلف كل واحد منهما ما قبضه ، قال أصحابنا : إن جرى ذلك بإذن الوليين فالضمان عليهما ، وإلا فلا ضمان على الوليين ويجب في مال الصبيين الضمان لأن تسليمهما لا يعد تسليطا وتضييعا بخلاف تسليم البالغ الرشيد ، والله سبحانه أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : لا يصح نكاح الصبي بنفسه ، ولا سائر تصرفاته ، لكن في تدبيره ووصيته خلاف مذكور في موضعه ، والأصح بطلانهما أيضا ، وسواء في هذا كله أذن الولي أم لا ، لأن عبارته ملغاة ، فلا أثر لإذن الولي ، كما لو أذن لمجنون ، وأما إذا فتح الصبي بابا وأخبر بإذن أهل الدار في الدخول ، أو أوصل هدية ، وأخبر عن إهداء مهديها ، فقال أصحابنا : إن انضمت إلى ذلك قرائن تحصل العلم بذلك جاز الدخول وقبول الهدية ، وهو في الحقيقة عمل بالعلم لا بمجرد قوله ، وإن لم ينضم - نظر إن كان غير مأمون القول - لم يجز اعتماد قوله بلا خلاف ، وإلا فطريقان ( أصحهما ) القطع بجواز الاعتماد وبهذا قطع المصنف في التنبيه في باب الوكالة وآخرون من الأصحاب لإطباق المسلمين على فعل ذلك في جميع الأعصار من غير إنكار ولحصول الظن بصدقه في العادة ( والطريق الثاني ) حكاه الإمام والغزالي وآخرون : فيه وجهان كالوجهين في قبول روايته كما سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى .

[ ص: 184 ] فرع ) إذا سمع الصبي المميز حديثا فهل يصح تحمله ؟ وتقبل روايته ؟ فيه ثلاثة أوجه ( أحدهما ) لا تقبل مطلقا ، لا قبل بلوغه ولا بعده ، لضعف ضبطه ، كما لا يصح بيعه وغيره .

( والثاني ) تصح روايته قبل البلوغ وبعده ، كما حكاه إمام الحرمين والغزالي وسائر الخراسانيين وجماعات من غيرهم لأن الرواية مبنية على المسامحة ، واحتمل فيها أشياء لا تحتمل في غيرها ، كاعتماده على خطه ، وكونها لا ترد بالتهمة وغير ذلك من المسامحة .

( والثالث ) أنها تقبل بعد البلوغ ، ولا تقبل قبله ، وهذا هو الصحيح بل هو الصواب ، وما سواه باطل ، ومما يرد الأول إجماع الصحابة فمن بعدهم على قبول روايات صغار الصحابة ما تحملوه قبل البلوغ ، ورووه بعده كابن عباس والحسن والحسين وابن الزبير وابن جعفر والنعمان بن بشير وخلائق لا يحصون رضي الله عنهم أجمعين .

( فرع ) قال أصحابنا : كما لا تصح من الصبي تصرفاته القولية ، لا يصح قبضه في تلك التصرفات ، فلو اتهب له الولي شيئا وقبله ثم قبضه الصبي بإذن الواهب لم يصح قبضه ، ولا يحصل له الملك فيه بهذا القبض ، ولو وهب لأجنبي وأذن الموهوب له للصبي أن يقبضه له ، وأذن له الواهب في القبض فقبضه ، لم يصح بلا خلاف ، ولو قال مستحق الدين لمن هو عليه : سلم حقي إلى هذا الصبي ، فسلم قدر حقه إلى الصبي لم يبرأ من الدين بلا خلاف ، بل يكون ما سلمه باقيا على ملكه حتى لو ضاع ضاع على الدافع ولا ضمان على الصبي ، لأن الدافع ضيعه بتسليمه ، ويبقى الدين على حاله . قال أصحابنا : لأن ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح . ولا يزول الدين عن الذمة كما لو قال صاحب الدين للمدين : ألق حقي في البحر ، فألقى قدر حقه لا يبرأ بلا خلاف وما يتلف من ضمان الملقي ، قال أصحابنا : [ ص: 185 ] ولو قال مالك الوديعة للمودع : سلم وديعتي إلى هذا الصبي ، فسلم إليه خرج من العهدة ، لأنه امتثل أمره في حقه المعين ، كما لو قال : ألقها في البحر فألقاها ، فإنه لا ضمان بلا خلاف ، لأنه أذن في إتلافها ، قال أصحابنا : فلو كانت الوديعة لصبي فسلمها إلى الصبي ضمن ، سواء كان بإذن الولي أو بغير إذنه ، لأنه ليس للمودع تضييعها ، وإن أذن له الولي فيه . هذا لا خلاف فيه ، والله أعلم . ونقل إمام الحرمين في النهاية هذا الفرع عن الأصحاب .

( فرع ) في مذاهب العلماء في بيع الصبي المميز . قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يصح سواء أذن له الولي أم لا ، وبه قال أبو ثور وقال الثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق : يصح بيعه وشراؤه بإذن وليه . وعن أبي حنيفة رواية أنه يجوز بغير إذنه ويقف على إجازة الولي ، قال ابن المنذر : وأجاز أحمد وإسحاق بيعه وشراءه في الشيء اليسير يعني بلا إذن ، دليلنا ما ذكره المصنف

التالي السابق


الخدمات العلمية