صفحة جزء
[ ص: 269 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( الأعيان ضربان نجس وطاهر ، فأما النجس فعلى ضربين نجس في نفسه ونجس بملاقاة النجاسة ، فأما النجس في نفسه فلا يجوز بيعه ، وذلك مثل الكلب والخنزير والخمر والسرجين وما أشبه ذلك من النجاسات ، والأصل فيه ما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله تعالى حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام } وروى أبو مسعود البدري وأبو هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ، فنص على الكلب والخنزير والميتة وقسنا عليها سائر الأعيان النجسة )


( الشرح ) أما حديث جابر رضي الله عنه فرواه البخاري ومسلم في صحيحيهما طويلا ولفظه فيهما عن جابر أنه { سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة : إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال : لا هو حرام ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا الميتة } فقال حمله - بالحاء وتخفيف الميم - أحمله أي أدامه ( وأما ) حديث أبي مسعود البدري الأنصاري فرواه البخاري ومسلم أيضا ولفظه عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن } ( وأما ) حديث أبي هريرة فرواه أبو داود بإسناد حسن بلفظ حديث أبي مسعود واسم أبي مسعود عمرو بن عمرو الأنصاري البدري .

قال أكثر العلماء : لم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزوة [ ص: 270 ] المشهورة ، وإنما قيل له : البدري لأنه سكن بدرا ولم يشهدها ، قال محمد بن إسحاق إمام المغازي ، ومحمد بن شهاب الزهري إمام المغازي وغيرهما ، ومحمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح في صحيحه : إنه شهدها ، واتفقوا على أنه شهد العقبة مع السبعين ، وكان أصغرهم روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث وحديثان ، اتفق البخاري ومسلم على تسعة أحاديث منها ، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بسبعة ، سكن الكوفة وتوفي بها ، وقيل : توفي بالمدينة رضي الله عنه ( وأما ) السرجين - فبكسر السين وفتحها وبالجيم - ويقال بالقاف - بدلها وسبق إيضاحه في أول كتاب الطهارة ، والله أعلم . أما حكم المسألة : فقد سبق في أول كتاب البيوع أن شروط البيع خمسة : أن يكون طاهرا ، منتفعا به ، مقدورا على تسليمه ، معلوما ، مملوكا لمن وقع العقد له ، فبدأ المصنف بالشرط الأول وهو الطهارة فقال : النجس ضربان نجس في نفسه كالكلب والخنزير وما تولد منهما ، أو من أحدهما ، والخمر والنبيذ والسرجين والعذرة ودهن الميتة وعصبها وشعرها - إذا قلنا بالمذهب إنه نجس - وكذا ريشها ولبن ما لا يؤكل إذا قلنا بالمذهب إنه نجس وسائر الأعيان النجسة ، ولا يجوز بيعها بلا خلاف عندنا ، وسواء الكلب المعلم وغيره ، وسواء الخمر المحترمة وغيرها .

ودليل المسألة ما ذكره المصنف ، والله أعلم .

( فرع ) الفيلج بالفاء والجيم - هو القز قال القاضي حسين في فتاويه وآخرون : يجوز بيعه في باطن الدود الميت ، لأن بقاءه من مصالحه كالنجاسة التي في جوف الحيوان ، قالوا : وسواء باعه وزنا أو جزافا ، وسواء كان الدود حيا أو ميتا ، فبيعه جائز بلا خلاف ، والله أعلم . [ ص: 271 ] فرع ) قال أصحابنا : في بيع فأرة المسك أو بيض ما لا يؤكل لحمه ودودة القز وجهان بناء على طهارتها ونجاستها ( أصحهما ) الطهارة وجواز البيع ( وأما ) دود القز فيجوز بيعه في حياته بلا خلاف لأنه حيوان ينتفع به كسائر الحيوان ، وقد ذكر المصنف المسألة في آخر هذا الباب وسبق إيضاحها في باب إزالة النجاسة ، هذا مذهبنا . وقال أبو حنيفة : لا يجوز بيع بزر القز ولا دوده . دليلنا أنه طاهر منتفع به فجاز بيعه كسائر الطاهر المنتفع به .

( فرع ) في حكم ما لا يؤكل لحمه : ذكرنا في باب إزالة النجاسة ثلاثة أوجه ( أصحها ) وأشهرها أنه نجس ( والثاني ) طاهر يحل شربه ، قال أصحابنا : ( إن قلنا : ) إنه نجس لا يجوز بيعه قال المتولي وآخرون : ( وإن قلنا : ) طاهر يحل شربه جاز بيعه ( وإن قلنا : ) طاهر لا يحل شربه ، فإن كان فيه منفعة مقصودة جاز بيعه وإلا فلا

( فرع ) ذكرنا أن بيع الخمر باطل سواء باعها مسلم أو ذمي أو تبايعها ذميان ، أو وكل المسلم ذميا في شرائها له ، فكله باطل بلا خلاف عندنا ، وقال أبو حنيفة : يجوز أن يوكل المسلم ذميا في بيعها وشرائها وهذا فاسد منابذ للأحاديث الصحيحة في النهي عن بيع الخمر ( فرع ) بيع الخمر وسائر أنواع التصرف فيها حرام على أهل الذمة كما هو حرام على المسلم ، هذا مذهبنا وقال أبو حنيفة : لا يحرم ذلك عليهم قال المتولي : المسألة مبنية على أصل معروف في الأصول وهو أن الكافر عندنا مخاطب بفروع الشرع ، وعندهم ليس بمخاطب وقد سبقت هذه المسألة في باب إزالة النجاسة .

( فرع ) لو أتلف لغيره كلبا أو خنزيرا أو سرجينا أو ذرق حمام أو جلد ميتة قبل دباغه أو غير ذلك من الأعيان النجسة ، لم تلزمه قيمته [ ص: 272 ] بلا خلاف عندنا ، قال الماوردي : قال أصحابنا : لم يكن يعرف خلاف في أنه لا قيمة على من أتلف كلبا معلما ، حتى قال به مالك .

( فرع ) ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يجوز بيع الكلب ، سواء كان معلما أو غيره ، وسواء كان جروا أو كبيرا ، ولا قيمة على من أتلفه ، وبهذا قال جماهير العلماء ، وهو مذهب أبي هريرة والحسن البصري والأوزاعي وربيعة والحكم وحماد وأحمد وداود وابن المنذر وغيرهم ، وقال أبو حنيفة : يصح بيع جميع الكلاب التي فيها نفع وتجب القيمة على متلفه ، وحكى ابن المنذر عن جابر وعطاء والنخعي جواز بيع الكلب للصيد دون غيره ، وقال مالك : لا يجوز بيع الكلب ، وتجب القيمة على متلفه ، وإن كان كلب صيد أو ماشية وعنه رواية كمذهبنا ، ورواية كمذهب أبي حنيفة ، واحتج لمن جوز بيعه بالحديث المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد } . وفي رواية { ثلاث كلهن سحت فذكر كسب الحجام ، ومهر البغي ، وثمن الكلب ، إلا كلب صيد } وعن عمر رضي الله عنه " أنه غرم رجلا عن كلب قتله عشرين بعيرا " وعن عبد الله بن عمرو بن العاص " أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهما ، وقضى في كلب ماشية بكبش " . ولأنه حيوان يجوز الانتفاع به فأشبه الفهد ، ولأنه تجوز الوصية به والانتفاع به ، فأشبه الحمار ، واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة في النهي عن بيعه ، والنهي يقتضي الفساد ، فإنه لا قيمة على متلفه ، فمن الأحاديث حديث أبي مسعود البدري { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ، ومهر البغي وحلوان الكاهن } رواه البخاري ومسلم وعن أبي جحيفة رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم ، وعن ثمن الكلب ، ومهر البغي ، ولعن آكل الربا ، وموكله ، والواشمة والمستوشمة ، ولعن المصور } رواه البخاري .

وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال : قال [ ص: 273 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كسب الحجام خبيث ، ومهر البغي خبيث ، وثمن الكلب خبيث } رواه مسلم ، وعن أبي الزبير قال : { سألت جابرا رضي الله عنه عن ثمن الكلب والسنور فقال : زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك } رواه مسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ، وقال إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا } رواه أبو داود بإسناد صحيح .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يحل ثمن الكلب ، ولا حلوان الكاهن ، ولا مهر البغي } رواه أبو داود بإسناد صحيح أو حسن . وعن ابن عباس قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا عند الركن ، فرفع بصره إلى السماء فقال : لعن الله اليهود ثلاثا ، إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه } رواه أبو داود بإسناد صحيح ، لأنه حيوان نجس فلم يجز بيعه كالخنزير .

( وأما ) الجواب عما احتجوا به من الأحاديث والآثار ، فكلها ضعيفة باتفاق المحدثين ، وهكذا وضح الترمذي والدارقطني والبيهقي ضعفها ، ولأنهم لا يفرقون بين المعلم وغيره ، بل يجوزون بيع الجميع ، وهذه الأحاديث الضعيفة فارقة بينهما ، والجواب عن قياسهم على الفهد ونحوه أنه طاهر بخلاف الكلب ، والجواب عن قياسهم على الوصية أنه يحتمل فيها ما لا يحتمل في غيرها ، ولهذا تجوز الوصية بالمجهول والمعدوم والآبق ، والله أعلم . قال ابن المنذر : لا معنى لمن جوز بيع الكلب المعلم ، لأنه مخالف لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ونهيه صلى الله عليه وسلم عام يدخل فيه جميع الكلاب ، قال : ولا يعلم خبر عارض الأخبار الناهية ، يعني خبرا صحيحا ، وقال [ ص: 274 ] البيهقي : الإسناد المذكور في كلب الصيد ليس ثابتا في الأحاديث الصحيحة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( فرع ) بيع الهرة الأهلية جائز بلا خلاف عندنا إلا ما حكاه البغوي في كتابه في شرح مختصر المزني عن ابن القاص أنه قال : لا يجوز ، وهذا شاذ باطل مردود ، والمشهور جوازه ، وبه قال جماهير العلماء نقله القاضي عياض عن الجمهور ، وقال ابن المنذر : أجمعت الأمة على أن اتخاذه جائز ، ورخص في بيعه ابن عباس وابن سيرين والحكم وحماد ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة وسائر أصحاب الرأي ، قال : وكرهت طائفة بيعه ، منهم أبو هريرة ومجاهد وطاوس وجابر بن زيد ، قال ابن المنذر : إن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيعه فبيعه باطل ، وإلا فجائز ، وهذا كلام ابن المنذر واحتج من منعه بحديث أبي الزبير قال " سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور فقال : { زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك } رواه مسلم . واحتج أصحابنا بأنه طاهر منتفع به ، ووجد فيه جميع شروط البيع بالخيار فجاز بيعه كالحمار والبغل ، والجواب عن الحديث من وجهين ( أحدهما ) جواب أبي العباس بن القاص وأبي سليمان الخطابي والقفال وغيرهم أن المراد الهرة الوحشية فلا يصح لعدم الانتفاع بها إلا على الوجه الضعيف القائل بجواز أكلها ( والثاني ) أن المراد نهي تنزيه ، والمراد النهي على العادة بتسامح الناس فيه ، ويتعاورونه في العادة ، فهذان الجوابان هما المعتمدان ( وأما ) ما ذكره الخطابي وابن المنذر أن الحديث ضعيف فغلط منهما لأن الحديث في صحيح مسلم بإسناد صحيح ، وقول ابن المنذر : إنه لم يروه غير أبي الزبير عن حماد بن سلمة فغلط أيضا . فقد رواه مسلم في صحيحه من رواية معقل بن عبيد الله عن أبي الزبير ، فهذان ثقتان روياه عن أبي الزبير ، وهو ثقة ، والله أعلم .

[ ص: 275 ] فرع ) قال ابن المنذر : أجمع العلماء على تحريم بيع الميتة والخمر والخنزير وشرائها ، قال : واختلفوا في الانتفاع بثمن الخمر فمنعه ابن سيرين والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق ، ورخص فيه الحسن البصري والأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وأبو يوسف .

( فرع ) مذهبنا المشهور أن عظم الفيل نجس سواء أخذ منه بعد ذكاته أو موته ، ولنا وجه شاذ أن عظام الميتة طاهرة ، وسبق بيانه في باب الآنية وسبق في باب الأطعمة وجه شاذ أن الفيل يؤكل لحمه ، فعلى هذا إذا ذكي كان عظمه طاهرا ، والمذهب نجاسته مطلقا ، ولا يجوز بيعه ولا يحل ثمنه ، وبهذا قال طاوس وعطاء بن أبي رباح وعمر بن عبد العزيز ومالك وأحمد وقال ابن المنذر ، ورخص فيه عروة بن الزبير وابن جريج ، قال ابن المنذر : مذهب من حرم هو الأصح

( فرع ) بيع سرجين البهائم المأكولة وغيرها وذرق الحمام باطل ، وثمنه حرام ، هذا مذهبنا ، وقال أبو حنيفة : يجوز بيع السرجين لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على بيعه من غير إنكار ، ولأنه يجوز الانتفاع به فجاز بيعه كسائر الأشياء . واحتج أصحابنا بحديث ابن عباس السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله إذا حرم على قوم شيئا حرم عليهم ثمنه } وهو حديث صحيح كما سبق بيانه قريبا . وهذا عام إلا ما خرج بدليل كالحمار والعبد وغيرهما ، ولأنه نجس العين فلم يجز بيعه كالعذرة فإنهم وافقوا على بطلان بيعها مع أنه ينتفع بها ( وأما ) الجواب عما احتجوا به فهو ما أجاب به الماوردي أن بيعه إنما يفعله الجهلة والأرذال فلا يكون ذلك حجة في دين الإسلام ( وأما ) قولهم : إنه منتفع به فأشبه غيره ، فالفرق أن هذا نجس بخلاف غيره .

[ ص: 276 ] فرع ) جلد الميتة لا يجوز بيعه عندنا وعند الجمهور قبل الدباغ ، وجوزه أبو حنيفة ، ودليل المذهبين نحو ما سبق في الفرع قبله ، وممن حكى بطلان بيعه عن الجمهور العبدري في أول كتاب الطهارة .

( فرع ) اتفق أصحابنا وغيرهم على أنه لو كان له كلاب فيها منفعة مباحة ككلب الصيد والزرع فمات قسمت بين ورثته ، كما يقسم السرجين وجلود الميتة وغير ذلك من النجاسات المنتفع بها .

( فرع ) الوصية بالكلب المنتفع به ، والسرجين ونحوها من النجاسات جائزة بالاتفاق ، وفي إجارة الكلب وهبته وجهان مشهوران ( أصحهما ) البطلان ، وسنوضح كل ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ، ويورث الكلب بلا خلاف ، وممن نقل الاتفاق عليه الدارمي

( فرع ) قال الدارمي : يجوز قسمة الكلاب وليست بيعا ، وقال البغوي في كتابه شرح مختصر المزني : إذا مات وخلف كلابا ففيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) يقسم بالقيمة ، وقال : وهذا ضعيف لأنه لا قيمة ( والثاني ) يقسم على طريق الانتفاع ، وقيل : على طريق نقل اليد ( والثالث ) لا يقسم بل يترك بين الورثة كما لو خلف ورثة وجوهرة لا تقسم ، بل تترك بينهم ، هذا ما حكاه البغوي ( والأصح ) أنها تقسم باعتبار قيمتها عندما يرى لها قيمة كما في نظائره ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية